الا ان الامر قد جاء على مرامي بينما لم اع بمرام نغم شيئا وقتها وبما كان يحاك لي منها..
وبقيت اداوم على تحضير الطعام لجواد علناً..غير ان احداً لم يحط علما باستيقاظي وحديثي معه بعد..
وحتى هذه اللحظة انا لم اشهد حديثا او ايما۽ة جمعت نغم وجواد..
وكأنهما كانا يتبادلان الادوار نهارا ومساءا,لم اشأ التدخل في امورهما الخاصة فاثرت الصمت مرة اخرى ولم اُبد تساؤلا.
بعد مضي اربع اسابيع انتكست ثانية وعادت لي الحمى وبقيت رفيقة السرير اياما اقنعت بها نغم كي لاتهرع لتفاقم الامر كعادتها ان التعب نال مني مطرحا خفيفا.
كان جواد يحوم حولي كل ليلة كحمامة اسقطت احد فراخها من اعلى غصن في الشجرة.
وقد اصر كل الاصرار ان يحضر طبيبا للمنزل ورغم رفضي المتواصل لم يأنف عن قراره وبالفعل احضر طبيبا في فجر يومٍ هادئ لا تشوبه غير اغاريد عصفور الفجر وحنقة صوت الطبيب وهو يعزي الحمى المتكررة التي نالت مني للاجهادات المتواصلة والضغوطات اليومية.
وقد اضفت لكلامه عدم استقراري النفسي وزوجي بعيد عني منذ مجيئي لهذا المنزل ,عندها طلب مني الطبيب ان انعم بقدر اكبر من الراحة.
وفي منظر آخر ومن ركن أخر كان جواد يحدق بي بصورة غريبة طوال جلستي مع الطبيب كأنه يراني اتحدث لاول مرة,التفتُّ اليه مستغربة حاله وبادلني بابتسامته الرقيقة تلك التي كانت تبدو كغيمة تحجب حرارة الشمس وترش عطرا دافئا
فقد تماثلت للشفاء واختفت الحمى بعد ايامٍ يسيرة وعدت لازاول اعمالي بصورة طبيعية.
لقد فرض علي الطبيب ان اتلقى راحة اكبر,ولكن هل هذا يعني ان يبقي جواد بقربي حتي بعد تتحسني!!
هذا ماكان يجول في صدغ جواد,ولم اكن اريد ذلك,ويبدو ان جواد مصر على ان يراقبني ولم تبؤ محاولاتي لردعه الا بالفشل ولم اقف عند ذلك الحد فقد ازعمت بوعدي له على ان لا اجهد نفسي ثانية وبغرابة رضخ و وافق بعد تردد كبيــر منه
لكنه طلب مني ان اقطع وعداً غريبا مقابل موافقته قائلاً:
_على آثار التعـب ان يغادرونـك..وعليـك ان تبتعدي عن عن مسبباتهم..اقطعي معي وعدا,
ان تكـون هذه الليلة هي اخر ليلة تستيقظين فيها لاجلـي سأكون انا من يجلب العشاء هذه الليلة.. ويمكنك بعدها ان تقرري كيف ستقضين بباقي وقتـك.
_يمكنني الاستيقاظ كالعادة حين اتحسن انت تعلم هذا جيدا..جواد.
_حتى بعد تحسنـك.. لن تستيقظي.
لماذا!_
_كي اوافق على طلبك.
اعاد لي ابتسامته الرقيقة تلك مع آخر عبارة ثم غادر مسرعا
بينما بدأت التساؤلات تنهل علي ..هل يزعجه استيقاظي ام انه ضاق ذرعا به! أم هو خائف من ان انتكس ثانية!
لكني ان اخذت قسطا من الراحة في النهار لن انتكس! اردت اخباره,كان لابد لي من اخباره,انتظرت حلول المساء بلهفة لاوحي اليه,لاجعله يتراجع عن كلامه والوعد الذي لم اشا ان اقطعه.
حتي غابت الشمس اخيراً وخبات اخر بناتها من النور خلف الافق وجاء الليل ليغزو عشها ويحتل القمر مرقدها السني..
انتظرت مطولا قبل ان ينتصف الليل فلم استطع النوم حتى بدات الخطوات التي كنت في شوق اليها بالطرق على سمعي وبدأت تضطرب بها وحشة المنزل
وكنت قد اعدت مائدة العشاء بالفعل التي كنت ازينها ببعض الزهور واختزل الكراسي فيها بكرسيين احدهما يقابل الاخر, وابسط فوقها شرشفا مزغرشا بالنرجس الاصفر كالتي يحبها جواد.
واضع كمية كبيرة من الطعام بطبقه كنت اجلس امامه وقد تناولت عشائي بالفعل,لكني اجلس مؤانسة وقد كان يعلم فلا يبدي اي انفعال.
وايضا كنا نتناول بقايا العشا سويا واحيانا كنت اعد الطعام بنفسي,وحين اعدّه بنفسي فإني اعدُّ له مايشتهي ومايحب من الاصناف البسيطة كعينيه المرجيتان.
واما الان فقد قال انه سياتي بالطعام بنفسه لذلك انتظرته,ورصصتُ اطباقا فارغة,وانتظرته.
قد يكون اعدادي لمائدة طعام عماد يشابه ما افعله لجواد,وكنت اسمي مائدة عماد بـ( مائدة العقد الازلي)
لكن مائدة العقد الازلي تختلف عن مائدة جواد فمائدة جواد يمكنني ان اسميها بـ (مائدة الانسانية)..
قد يكون لمائدتان نفس الغرض لكن سبب وجودهما مغزاهما والغاية منهما مشذوذ تماما ..
فجواد رجل طيب دفعتني غريزتي الانسانية للتوافق معه اما عماد فهو الزوج الذي الهبني شوقاً وباتت كل ثانية تلفح زفيري وتشظ شهيقي له.
قررت المحافظة على هذه المشاعر كان لابد لها ان تدوم ولا تتزعزع ابدا,لاجل زين ولاجل ابي وعائلتي ولاجل مجتمعي الذي اغصبت على التماشي معه بحب و ود واغصبت على التغير لاجلـه.
فــي تلك الليلة لما قدم جواد بدا متأنقا جدا كما لو انه يريد الاحتفال بنهاية سعيدة او ربما بداية ما.
كان يحمل معه كيس العشاء حسب تخميني,واخشى انه خاب فيما بعد..
اتخذ موقعه على كرسي الشمال بسترته السوداء الرسمية وشعره النحاسي المنسدل برفق على كتفيه بدا تلك الليلة اكثر لمعانا من ذي قبل, وطلب مني اغماض عيني للحظات وقد فعلت..
سمعت حشرجة فتحه للكيس وصليل كرسيه وحركة قيامه وقعوده وكان حماسي يزداد مع كل صوت يختلج سمعي انه يحضر لشيء ما..
اثقلتني بعض السعادة فحملتها عني ابتسامة خفيفة وجريئة رسمت على محياي,عندها سمعت صوته الضاحك وهو يقول لي
_يمكنك ان تفتحي عينيك الان.
فتحت وقد دخلت عيني العديد من الاضواء الصفراء والزرقاء التي كانت تطفح من بضع شمعات حمراء وضعت علي كعكة تتوسط مائدة العشاء, واستبدلت الكؤوس بأخرى ذات عنق طويل وملفوفة بشريط احمر لماع..
كان موقفاً لا يدخل العقل بسلاسة حاولت استيعابه ببطئ ولم افلح إنها حقاً افكار لا تخطر على بال بشري,,إنه جنيٌّ بحق.
_ما أجملها!
لا اخفي ان المفاجاة اسعدتني كثيرا,قهقهة جهاد بخجل
وقال:
_بصراحة يا لينا ليس سبب هذه الكعكة كما تظنين كونها اخر ليلة لك قد لا تكون الاخيرة قد تكون الاولى.
سكتَ فجأة, دفن نظراته تحت المائدة, ثم اخرجها وقد اضاف ابتسامته المعتادة.
دعيني اقطع الكعكة._
بعد ان انتهى من اخذ قطعتين جعل كل واحدة منهما في صحن الاخر وملأ الكؤوس بشراب ذا حمرة ايضا,وبقيت لم احرك ساكنة,انتظر جملته التالية
_لينا,تذوقيها تبدو لذيذة.
قالها وهو يتناول ما بصحنه بوضع بمرح,ليست تلك الجملة ما انتظرت..
مالشيء الذي يجعل جواد يحضر لكل هذا,انتابني الفضول وخشيت من الافكار التي كانت تصول في راسي..
حاولت ان اتصرف طبيعيا ان اساير الوضع,لكن الدهشة التي عقدت لساني شلت حركتي ايضاً تجمدت اطرافي كلها حتى فمي..
كنت قد بذلت مجهودا اكبر من مجهود الفرد العادي لحمل الشوكة توتري ودهشتي وخوفي من هذه المفاجاة لم يكن شيئاً عادياً ارعبني اكثر مما فعلت مفاجأته..
ولم ابتلع لقمتي الاولي بعد بل لم اتقطها حتى نطق جواد بإسمي بنبرته الجادة تلك مما زاد رعبي هولاً:
_لينا..
وبدا كما لو انه سيلقي عبارة تحمل بطياتها الف كلمة
لكنه اختار ان يقوم بها بكامل جسده حتى دنى مني,ثم همس بصوت واثق خافت وبخجل طغى عليه رجولة لم اعهدها بجواد قط,ولو اني عهدتها قبلاً,لتغلب هواي على عقلي.
"احبـك.."
ثم تنفس صعداءه بجانب اذني كـ من اعياءه حملٌ اثقل كاحليه و لم يستطع تخفيفه لانه لايمتلك خيار التخلص منه.
مخيفة كلمتك هذه يا جواد,لم تبقي لي مكانا لحمل الهواء في صدري,فلم يفقه عقلي المتحضر المترف كلمتك ولازلت حتى الان احاول تصديقها ما بت اعِ ان اكنت احلم وقتها ام انها واقعاً,كانت اغرب مرة اسمع بها هذه الكلمة واخر مرة اسمع ذلك الصوت الرجولي الخجول يتلفظها.
راودتني مشاعر مترددة وخائفة وبدأت اطرافي ترتعد
صارت الاسئلة تثملني فكيف لكلمة خرجت من رجل اعامله من مبدأ الانسانية وبامكاني رده وبكل سهولة ان تجمدني ومابال مشاعري الهشة تثور بي وتعصف وحروفه!
مابالها تسري بي كخيط جليدي يخترق اذني اليمنى..
قشعرت جسدي وزادت صدماتي وصعقاتي شدة
ألا ترى أني قد ماثلني الشفاء للتوّ يا جواد!!
أنى لك نطق حروف لم استطع بنفسي نطقها بهذا الصفاء داخل صدري!!
ثم بهدوء تلاشت حرارتي ثم راودتني كلها مرة واحدة.
لاحظ جهاد تلون وجهي فإنسحب من عند اذني اليمنى محبطاً وهمس يتأسف..
وبقيت مفغورة الفاه وجاحظة العين متسمرة الاطراف,ولما حاول التصرف طبيعا حاول ان يغير مجرى الحديث..
رسم ابتاسمته الرقيقة من جديد على وجهه لكنه لم يستطع ان يتقنها هذه المرة ,طلب مني ان انسى الذي قاله..
و اردف محاولاً اضفاء نسمة مرح سائلني ان لا اترك كعكتي تتحجر مكانها,لكنه لم يفلح,انا ايضاً اردت صرف الوقت..
قمت بتحريك يدي لالتقط الشوكة,بدا جسدي شاحباً,وشفتاي تضمحل,وكانت الشوكة ثقيلة,ثقيلة جداً اصعب من سابقتها,لم استطع حملها تهاوت من بين يدي.
تنبه جواد الى حالي المزري,رمقني بنظرات يملؤها الندم والشفقة كـ سكير افاق من ولهه وانتبه لباقايا زجاجته المحشورة في راس مولوده الجديد..
او كـ ما لو انه يتأسف على حالي الذي لم يسمع بهذه الكلمة من قبل, ترك مقعده وقام يجرني لغرفتي وبصمت تام ختمه بإعتذار اجش متقطع ثم غادر يجر اذيالا من الخيبة ونظراته المشفقة تلك لم تغادر وجهه البائس ليلتها..
خلدت للنوم ولم افكر بشيء حاولت ايهام نفسي اني احلم واهلوس ويجب علي الصباح ان ياتي لاستيقظ..
ولما جاء الصباح كان كل شي عادي حتي خلته حلما بالفعل,وإنه لحلم أن تقذف لسمعك كلمة سحرية من جني أحمر شيء لا يرسم الا في القصص الخيالية و الاحلام..
فقمت لاتاكد من صحة حلمي واثبت لنفسي هلوستها قمت أتأكد من المائدة التي لم اجد لها أثُراً رغم استيقاظي المبكر رغم ان ارض المطبخ لم يطأها أحد غيري بعد ذلك المساء المشؤوم..
فعدت لان اكون طبيعة واما جواد بالذات الذي لم أشأ له الضياع بعد أن جاءني ينطق بالصدق في حلمي الواقعي..
وليلاً حضرت له وجبته كالعادة ولبعض الخوف الذي كان يختلجني اخترت الخلود للنوم بعد اعدادها مباشرة..
لم اجد بنفسي استعدادا لمواجهته رغم محاولاتي العدة لجعل الليلة الماضية حلماً,ربما خفت من أن يتحول الحلم لكابوس..
وحتى الساعة الثالثة مساءا لم يسهد لي جفن ,ولم يرمق لسمعي خطوة لجواد,حتى لفني الليل بأحضانه واثرت النوم..
وصباحا ولما افرشت الشمس ضياءها وانسل الليل هاربا لم أجد اثراً لأي كائنٍ ليلي أحمر وظلت وجبته متجمدة مكانها على مائدة مسنة لكم خبأت بين اخشابها روائح الدفء والصقيع والبرد واجترحت بعض السمر..
وفي الليلة التي تلتها شعرت ببعض من تأنيب الضمير فأفأت الانتظار حتى مطلع الفجر ولم تلج خطوة من خطوات جواد ارض المنزل وكذلك الليلة التي بعدها والتي تلتها والتي تلتها وحتى حان الاسبوع الثامن وهو موعد عودة عماد وقد اختفى الجني الاحمر بلمح البصر تماماً كما ظهر.