نم قبل ان تأتيك ماري العجوز!!
الفصل (2)
تدافع جميع من في القرية نحو الحقول التي اضحت سوداء كالليل,
لا زالت الادخنة تتصاعد من بين الحشائش المتفحمة ,وروائح الفواكه المحترقة تسبح في الهواء
وتداعب الانوف لتزيد النفوس ألماً على ألم.
وتعالت اصوات الفلاحين الهلِعة وصار مكان اجتماعهم صاخباً ومكتظاً..
كان السخام يملأ وجهوهم حتى أنك لا تكاد تميز ملامحهم وربما الشيء الوحيد الذي كانوا محظوظين فيه
بعد تلك الليلة المشؤومة هو ان لا احد اصيب بأذى الا من حروق طفيفة مُنْيَّ بها من كانوا في الصفوف الامامية.
هناك بعيداً عن تلك الفوضى -وعند صخرة روين -وقف ايكاردو محتضناً زوجته وهما يشاهدان مقدار الدمار
في الحقول بينما اعينهما تبحث في صمت ويأس عن بصيص أمل في حقلهما .
امسك ايكاردو يديّ زوجته شاردة الذهن: لو علمت أوديل بمقدار خشونة يديك لأغمي عليها على الفور!
ابتسمت كوزيت بهدوء بينما تزحف ابتسامتها لعينيها الحزينتين, وهي تتخيل منظر المربية أوديل الوقورة
عند رؤيتها ليديّ آنستها وقد تحولت الى كتلتين من الحجارة الخشنة والصلبه.
اردف ايكاردو: آسف عزيزتي ,لولا جرك إلى هنا لما...
قاطعته كوزيت بنبرة عاتبه: توقف ايكاردو ! لقد اتيت معك بمليء ارادتي
-ونظرت الى يديها بتمعن-: ويداي هاتان هما دليل سعادتي وفخري
ولو كان والدي على قيد الحياة لازداد فخره بي.
اومأ ايكاردو برأسه وابتسم : معك حق.
غرقت كوزيت في افكارها بينما تنظر بحب لوجه زوجها الهاديء:
ايكاردو حقاً زوج عطوف ومحب ,ولكنه يلوم نفسه لكل ما يحدث لي
–حبست تنهدها- لقد عاهدت نفسي على البقاء معه طوال حياتي مهما كان
حجم ما ألاقيه.
قاطع الهدوء بينهما صراخ كارل الغاضب ,فتنهد ايكاردو بإنزعاج وتمتم بكلمات لزوجته
وبعدها انضم الى البقية لتهدئة النقاش
تابعته كوزيت بنظراتها لتستقر عيناها عليهم,فما كان منها الا ان تقترب منهم وتستمع الى نقاشهم
لكن عقلها وكل افكارها تحتضن صورةً محددة ,
هناك... حيث تقف صخرة روين الشامخة وحيث يقبع حقلهم الحبيب.
استيقظت من شرودها بصوت تحرك الحشائش بقربها
إلتفتت لمصدر الصوت, ولم تكون سوى العجوز النكدة ماري وهي تنكز كومة من الاعشاب بعكازها
قامت كوزيت بتحيتها بلباقةِ آنسةٍ نبيلة : آوه, العمة ماري انتِ هنا؟
ماري -بإقتضاب -: وماذا ترين ايتها الشابة؟
صمتت كوزيت وهي تبتلع احراجها بهدوء ...
×××
العجوز ماري هي مجنونة القرية -ان جاز التعبير- فهي لا تخرج من منزلها لأي سبب حتى
ولو كان بمناسبة الاعياد ,وهي دائماً تطرد الجميع عند الدخول في ملكيتها
ويُضاف لكل هذا وذاك انعزالها عن بقية سكان القرية مما ساعد في تكاثر
الشائعات حولها فمنهم من يقول انها لا تخرج سوى ليلاً لإرتكاب جريمة ما
فحتى عندما تختفي فطيرة التفاح من النافذة تكون هي المتهم الاول.
فهي اصبحت خرافة القرية التي يخيفون بها الاطفال عند عدم اطاعتهم لآبائهم او
عند معاندتهم للذهاب الى فراشهم والنوم
واصبحوا يتناقلون عنها القصص والحكايات التي لو امعنت فيها لوجدتها ضرباً من الخيال
لكنك لو نظرت اليها ستعلم سبب تلك الاشاعات,, فالجميع يراها فقط ككتلة من التجاعيد ,
مع جبين مجعد لكثرة تقطيب الحاجبين و بملابس سميكة وثقيلة ترتديها في كل الفصول.
وعند إقترابك منها يمكنك ان تشم رائحة النعناع التي تحبها القطط
أجل! كان يشاع عنها انها لم تحب سوى القطط طوال حياتها...حتى ان ابنائها قاموا بهجرها لأنهم لم
يستطيعوا التعامل مع اسلوبها النكد ومعاملتها الفظة
ولكن بدلاً من قولهم انها تحب القطط , يقولون انها تحب تناولها!!
××××
رفعت العجوز ماري رأسها بعد صمت طويل بينما ثبتت نظرها على مجموعة الرجال لتتقدم بتمهل
في اتجاههم وتقف بقرب كوزيت المترقبه
تمتمت بحنق: لقد اتت عائلة جوزيف أفينول وجلبت الخراب معها.
.
.
.
في هذه الاثناء
"الحريق كان مفتعلاً"
-رددها ماثيو كأنه يحاول اثبات ذلك لنفسه اكثر من اثباته لغيره-
وثب كارل بقوة على قدميه ليمسك ياقة ماثيو محاولاً خنقه
-هل فقدان الحقل افقدك عقلك ايضاً؟
امسكه مارتن من يده : يكفي يا كارل اتركه ,فجميعنا نمر بوقت عصيب لذا....
قاطعه كارل بحدة : ما الخطب مع هذا الاسلوب في الكلام ,اتعني انني ازيده سوءاً؟
صمت الجميع ,فلا احد يحب ان يشارك في نقاش يكون كارل طرفاً فيه
لأن المزاح والجد عنده سواء ,اضافة الى ان النقاش معه كالحديث مع صخرةٍ صماء.
قاطع مارتن ذلك الهدوء: ألا يجب ان نرسل احدهم ليخبر الرئيس بما حدث؟
اجابه كارل بقسوة :وهل الرئيس اعمى ,هل تريد اخباري بأنه لم يرى ألسنة اللهب من هناك؟.. بربكم!!
-رفس كارل كومة السخام بقوة واردف- :سحقاً لكل هذا! ,نعمل كالبغال لأشهر عدة وها نحن ذا نكافأ بالرماد
كسى وجوه الحاضرين حزن وانكسار ,ماذا عساهم يقولون وقد ضاع جهدهم مع الرياح
كان بيل غارقاً بصمت في عالمه الخاص,لقد خارت قواه
فجلس على الارض بتمهل بينما يتحاشى النظر لحقله المحترق, وبدأ يندب حظه السيء ..
وبعدها اطلق ضحكة مُرة على آماله التي بناها والليلة التي قضاها بالحلم
في محصول وفير وقطاف ناجح
-على الاقل ليس عليّ جني التفاح الآن.
.
.
ضمت كوزيت يداها ,لتقول -بتردد وخفوت -: لماذا قفزت الى هذا الاستنتاج ياسيد ماثيو؟
أخذ ماثيو نفساً عميقاً : اننا في الربيع, ويستحيل مع هذا المناخ والنسمات الباردة ان تشتعل الحقول بفعل الحرارة
ودعونا نأخذ بالاعتبار رطوبة الارض بعد هطول الامطار ليومين -واضاف بتردد- كما انني بقيت
في الحقل حتى وقتٍ متأخر و....
قاطعه كارل بإبتسامة ساخرة: ولما لا تكون أنت هو الفاعل؟ -قطب حاجبيه في غضب- تريد توزيع
اتهاماتك بيننا كما تشاء لأنك تعلم تماماً بأنك لن تكون متهماً بما انك عامل العائلة المدلل!
بدأ الجميع بالتهامس...
-ها قد بدأ من جديد, ..وهمس شخص آخر : كل ما يقوله فقط بدافع الغيرة والحسد!
صرخ كارل بحنق :اذن سيد ماثيو...من الفاعل؟
تنهد ماثيو بقلة صبر: كل ما قلته هو ان الحريق مفتعل ولم اقل انني اعرف الفاعل!
هز كارل كتفيه بسخريه : لم اتوقع منك اكثر من هذا
-الرجال حمقى!
إلتفتوا جميعاً لمصدر الصوت متفاجئين ,فلم تكن سوى العجوز ماري متكئة على عكازها
-بدلاً من النقاش في امور تافهه لماذا لا تبحثون عن الفاعل,
يغيب عقلكم عند الشدائد وتتصرفون برعونة كالثيران
ثارت ثائرة كارل:
اخرسي يا امرأة! آخر ما نريد سماعه هو ترهاتك ...حقولنا فنت عليكِ اللعنة!
تجاهلته ماري بلا مبالاة بينما يحاول بعض الرجال تهدأته وهو يوزع صراخه وشتائمه
يمنةً ويسرة
وفجأة سمعوا صهيل خيل يأتي من البعيد...تنبه اهل القرية للقادم ...
انه رئيس العمال والمسؤول عن شؤون القصر في غياب السيد جوزيف
....السيد ايفورن الموقر
عند وصوله هدأت العاصفة فلم يعد يُسمع صوت همس أو صراخ
-لابد انها كانت ليلة شاقة على الجميع...هل هناك اي اضرار بشرية؟
اجابه ايكاردو: لا يا سيدي الجميع بخير -واردف بحزن- فقط الحقول هي من تضررت
اخذ ايفورن يتأمل الحقول التي ما عادت يليق بها هذا الاسم
فما هي الا ارض خاوية غادرتها الحياة ويكسوها السواد
عاد ببصره الى رعية السيد ,كان السخام يغطي كل جزء منهم حتى ملابسهم
وتلك الحروق المتفرقة ما كانت الا دليلاً على كفاحهم المستميت لإيقاف نهم النيران وجوعها الفتاك
ترجل من حصانه وسار مبتعداً نحو الحقول ...
-حسناً اذاً...من سيخبرني بما حدث هنا؟
في القصر:
لقد مرت ليلة الحفل بصعوبة بالغة على ساكنيه
خاصةً على اماندا ...التي لم تسلم من مضايقة احدى ضيوف الحفل الغير مرغوب فيهم
فبعد عودتها من المخبأ مع جيزيل:
- جيزيل ...لنذهب من الباب الخلفي للمطبخ
-حاضر آنستي....سنسير ببطيء ,رباه! الظلام حالك رغم وجود القمر
- هل تسخرين مني يا جيزيل؟
جيزيل -بهلع-: لا يا آنستي كيف اجرؤ!!
أطلقت اماندا ضحكة خافتة فجيزيل دائماً ما ترتبك عندما يُساء فهمها
- انا امازحك فقط...انتبهي للطريق حتى لا اتعثر مرةً اخرى.
-حاضر آنستي .
وبعد برهة من الصمت -آنستي بشأن الاصوات التي سمعتيها أثناء تجولنا,أنا أعـت....
-أوه انظروا من لدينا هنا؟ ....آنسة اماندا لقد مرّ وقت طويل
اشتدت قبضة اماندا على يد جيزيل وسحبتها قليلاً لتحث جيزيل على مواصلة السير
- كم هذا يؤلمني ..انتِ حقاً لا تريدين إلقاء التحية على صديقتك؟
اماندا -ببرود- : لم يكن لدي صديقة من قبل...عن اذنك.
تابعت جيزيل واماندا طريقهما كما خططا تماما,بينما تحدق فيهما الضيفة المتطفلة بسخرية
-ليست سوى دمية متضررة.
علقت جملتها في الهواء بينما إلتفتت متوجهةً الى قاعة الحفل.
***
في ذلك الصباح:
كانت جيزيل تركض في الممرات بأسرع ما لديها بينما تتخبط بالخدم وتعتذر, الى ان سقطت على الارض
- يا خالق السماء! جيزيل ما بكِ ايتها الحمقاء؟
جيزيل: انا آسفة يا آرتي ,لكنني مستعجلة جداً اريد اخبار الآنسة بـ....
قاطعتها آرتي بينما تلتفت إلى زميلتها - هاه! انها تتفاخر مجدداً لأنها المفضلة عند الآنسة
لتردف صديقتها : لا أعلم لماذا تم توظيف شخص متدني النسب مثلك..إعرفي قدرك يا هذه!
-ما الذي يحدث عنها
قاطعهم ذلك الصوت الحاد والمتزمت
آرتي: أوه سيدة مارغوث ,انها جيزيل ,انها تتصرف بطريقة خرقاء مجدداً
حدقت مارغوث بحدة في وجه جيزيل التي لم تنهض بعد
- ايتها الشابة,انهضي فوراً,تصرفات كهذه لا تليق بقصر السيد
نهضت جيزيل على عجل - أوه اعتذر سيدتي
السيدة مارغوث: قومي بعملك جيداً ,وانتن ما الذي تفعلنه هنا؟
اذهبن الى المطبخ حالاً
الخادمتان: أمرك سيدة مارغوث!
حاولت جيزيل متابعة طريقها ولكن اوقفتها مارغوث:
-انتظري....اخبري الآنسة اماندا ان السيد سيلتقي بها في وجبة الفطور ..ولا اعذار هذه المرة
هل هذا مفهوم!
قالت جملتها بحدة لتبتلع جيزيل ريقها : نعم سيدتي
صوت طرق هاديء قاطع تأمل اماندا الطويل ...فبعد ليلة صاخبة دائماً ما تستيقظ في مزاج عكر
-ادخلي جيزيل
- آنستي صباح الخير...هل نمتِ جيداً؟
توجهت الى النافذة لتبعد الستار
-هل تمازحينني يا جيزيل؟...كيف انام وذلك الجحيم في الطابق السفلي؟
تنهدت بإستياء
-أوه آنستي لا اعلم ان كان الوقت ملائماً...
-تحدثي جيزيل...تعلمين انني اكره المقدمات
قالت ذلك وهي تحاول جمع شعرها للخلف لتأتي جيزيل وتتولى الامر
-آنستي ,ان السيد يريد ان يلتقي بك في وجبة الفطور....ستكون وجبةً عائلية.
تردد صدى كلمات جيزيل في الغرفة
اماندا -بهدوء- : عائلية ,هاه!
وبعد دقائق عديدة اخرس فيها الصمت كلماتهما الا من صدى تحركات جيزيل في الغرفة
لتقتل الاخيرة ذلك الصمت بينما تحدق عبر النافذة:
-أوه لقد تذكرت امراً ...الحقول يا آنسة!
لقد اندلع حريق في حقول والدك ,السيد أفينول!
-ماذا؟!
-آنستي ,هل تعتقدين ان الامر له علاقة بالصوت الذي سمعتيه بالامس؟
اماندا : صه!!