شرع النهار يهجر الكون رويدا رويدا. كنت جالسا في حديقة المعهد التعليمي، أستنشق عبق هواء أيلول. كنت أتكبر على أقراني الشباب وأغذي بداخلي جرثومة السخط عليهم لأنهم يرونني من سقط المتاع الذي لا يخدم مصالحهم أو يزيد في متعتهم. ربما هم يرونني هكذا لأنني شاب ممل ووحيد وأقرب للهزال؛ فأنا بنظرهم قبيح الشكل فاقد للمواهب والحنكة. قد يكون معهم حق. لكن رغم كل شيء، إنني أستحق أن أحيا بسعادة رغما عن أنوفهم المتغطرسة المتعالية صوب السماء. أفقت من شرودي على رغبة ملحة بقضم كوز ذرة طازجة شهية. نهضت من الكرسي مثل طفل صغير في الخامسة متجها إلى البائع. بعد قليل، وجدت شابا وصبية يجلسان على الكرسي. وهما زميلاي في المعهد لكن لا يكلم أحدنا الآخر.
"تباً! كيف وصلا بهذه السرعة إلى مقعدي؟" قلت في نفسي.
تمنيت لو أستجمع شجاعتي وأقول لهما: غادرا المقعد لو سمحتما! هذا مكاني أنا!
لم يكن بمقدوري الدخول في معركة طاحنة، مع ذلك الشاب الحسن البزة المتمتع بشهرة جارفة بين أقرانه وأساتذته. مشيت ابتغاء الوصول إلى الكرسي الآخر. ولما خطوت أمامهما، سمعت صوت دوّي ضحكات.عندما التفت إليهما وجدتهما ينظران إلي ويكادان يغصان من شدة الضحك. سارعت إلى كفكفة بضع عبرات كانت تعبيراً قويا على الغيظ المبرح الذي عصف بي. تمنيت أن أقوم بركل معدة الشاب وهو مستوي في مقعده، ولكن الصوت الداخلي بدأ يخاطبني: لكن أنّي لك بعافية تشبه التي بحوزة ذاك الشاب؟ يجب عليك أن تتلافى الموقف. صحيح أن الشاب لا يتمتع بفضيلة الأدب والتواضع؛ لكن لا تسمح للغل يتحكم فيك ولا تجعل الشيطان ينزغك ويحرضك على التمادي في الكراهية. أصغيت للجانب الحكيم مني. ولما دُرت على أعقابي مكملاً سيري، عادت نفس الضحكة الماجنة السافرة المنفرة تطوف في الهواء. هذه المرة، كان الشاب يضحك بوقاحة أكبر. توقفت مكاني وتظاهرت بأني أصلح أربطة حذائي؛ كي أتبين ما يحصل. وترامى إلى سمعي بعضا من فحوى حديثهما:
" إنه يبدو مريضا...لا يا ثامر!"، "شكله يذكرني بمهرج السيرك...يا سارة"، "اصمت! لا تستهن به...إني آمل أن لا يكون قد سمعك"، "يا إلهي! أنا خائف من هذا الـ... أريد البكاء!"
كانت كل كلمة أسمعها من ذاك البغيض المعجب بنفسه تلسع ذهني فإذا بحنق شديد يعتمل في ذات نفسي. وجدت نفسي أتحلى بالشجاعة المتهورة. ومشيت نحو الشاب حتى أصبحت على مقربة دانية منه. استقرت عيناي على عينيه اللتين تعوزهما الطيبة. كان قوي البنية، ذا كتفين مربعتين. ولا يبدو لي أن الأمراض اقتربت من جسمه في أي يوم من الأيام. لعله في الحادية والعشرين من عمره أو في الثانية والعشرين.
قلت بصوت مرتجف ضعيف: هل كنتما تضحكان مني؟
"لا" قالت الصبية بشيء من الشفقة.
بينما كان الشاب أكثر وقاحة وأومأ برأسه بالإيجاب على استجوابي بطريقة متحدية. آنذاك شعرت بالكره والمقت إزاء الشاب أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم. كان يتعين علي أن أرد. وأي قوة كانت لي حتى أثأر من عدوي؟. وأخيراً، حشدت قواي كلها وقذفتها به في هذه الجملة الفظة:
"أمثالك المخربون المسيؤون للذوق العام لا يستحقون الحياة!"
بهذه الجملة أصبح الشاب مكظوم ونجحت بقلب الطاولة عليه. وقف اللئيم محتدا وبسط يده ليضربني، لكن رفيقته رمت نفسها على ذراعه وجرته إلى الخلف بصعوبة. الواقع أن عينيه وصوته وتكشيره عن أسنانه، أثارا في نفسي كل ما انطوت عليه من بغض ونفور. ارتعدت من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فأردفت قائلاً: "أنت غير جدير أن يلتفت المرء إليك أو يعاشرك. وليس ثمة مشهد أدعى إلى الاشمئزاز والقرف من شاب تافه ووضيع مثلك"
هبَّ الشاب واقفا مرة ثانية وكاد أن يلطم أرنبة أنفي بلكمة قوية منه، لكن الفتاة وقفت حائلا بيننا للمرة الثانية وقالت: "اذهب يا أخي! نحن لم نقصد أن نزعجك"
وكنت أنا الآخر أريد أن أرد له نفس الضربة. وكدنا أن نشتبك معا في شجار عنيف ولم يكن يهمني أن أخرج ميتا من هذه المعركة طالما أنها كانت دفاعا عن كبريائي الجريح وكرامتي النازفة. ولولا تجمهر الناس حولنا لانهال الشاب الوغد علي بالضرب ولتسبب بدخولي المستشفى حتماً. قلت للشاب بطريقة ضارية: "أنت حشرة! أنت كتلة من العفن!."
لم يكن أمام الشاب من طريقة للوصول إلي بسبب الناس الذين وقفوا حائلاً بيننا لفك الشجار، فما كان منه سوى أن رد بعبارات نابية فاحشة لم تستطع النيل من ثقتي بنفسي.
انتعشت روحي وتهلّلت جذلة بالنصر. لقد هزمت ذاك الشاب القوي الهائج. ابتسمت لنفسي وأخذني العجب والازدهاء. لم يلبث أن خمد لهيب الغضب في نفسي بمثل السرعة التي اشتعل فيها، وكان خليقا بي الآن أن أقوم بشراء كوز ذرة آخر غير الذي سقط على الأرض، أثناء الجلبة المسعورة منذ قليل، وأجلس على أحد الكراسي وأستمتع بمذاقه الطيب من دون أن أشعر بغصة الندم.
"تباً! كيف وصلا بهذه السرعة إلى مقعدي؟" قلت في نفسي.
تمنيت لو أستجمع شجاعتي وأقول لهما: غادرا المقعد لو سمحتما! هذا مكاني أنا!
لم يكن بمقدوري الدخول في معركة طاحنة، مع ذلك الشاب الحسن البزة المتمتع بشهرة جارفة بين أقرانه وأساتذته. مشيت ابتغاء الوصول إلى الكرسي الآخر. ولما خطوت أمامهما، سمعت صوت دوّي ضحكات.عندما التفت إليهما وجدتهما ينظران إلي ويكادان يغصان من شدة الضحك. سارعت إلى كفكفة بضع عبرات كانت تعبيراً قويا على الغيظ المبرح الذي عصف بي. تمنيت أن أقوم بركل معدة الشاب وهو مستوي في مقعده، ولكن الصوت الداخلي بدأ يخاطبني: لكن أنّي لك بعافية تشبه التي بحوزة ذاك الشاب؟ يجب عليك أن تتلافى الموقف. صحيح أن الشاب لا يتمتع بفضيلة الأدب والتواضع؛ لكن لا تسمح للغل يتحكم فيك ولا تجعل الشيطان ينزغك ويحرضك على التمادي في الكراهية. أصغيت للجانب الحكيم مني. ولما دُرت على أعقابي مكملاً سيري، عادت نفس الضحكة الماجنة السافرة المنفرة تطوف في الهواء. هذه المرة، كان الشاب يضحك بوقاحة أكبر. توقفت مكاني وتظاهرت بأني أصلح أربطة حذائي؛ كي أتبين ما يحصل. وترامى إلى سمعي بعضا من فحوى حديثهما:
" إنه يبدو مريضا...لا يا ثامر!"، "شكله يذكرني بمهرج السيرك...يا سارة"، "اصمت! لا تستهن به...إني آمل أن لا يكون قد سمعك"، "يا إلهي! أنا خائف من هذا الـ... أريد البكاء!"
كانت كل كلمة أسمعها من ذاك البغيض المعجب بنفسه تلسع ذهني فإذا بحنق شديد يعتمل في ذات نفسي. وجدت نفسي أتحلى بالشجاعة المتهورة. ومشيت نحو الشاب حتى أصبحت على مقربة دانية منه. استقرت عيناي على عينيه اللتين تعوزهما الطيبة. كان قوي البنية، ذا كتفين مربعتين. ولا يبدو لي أن الأمراض اقتربت من جسمه في أي يوم من الأيام. لعله في الحادية والعشرين من عمره أو في الثانية والعشرين.
قلت بصوت مرتجف ضعيف: هل كنتما تضحكان مني؟
"لا" قالت الصبية بشيء من الشفقة.
بينما كان الشاب أكثر وقاحة وأومأ برأسه بالإيجاب على استجوابي بطريقة متحدية. آنذاك شعرت بالكره والمقت إزاء الشاب أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم. كان يتعين علي أن أرد. وأي قوة كانت لي حتى أثأر من عدوي؟. وأخيراً، حشدت قواي كلها وقذفتها به في هذه الجملة الفظة:
"أمثالك المخربون المسيؤون للذوق العام لا يستحقون الحياة!"
بهذه الجملة أصبح الشاب مكظوم ونجحت بقلب الطاولة عليه. وقف اللئيم محتدا وبسط يده ليضربني، لكن رفيقته رمت نفسها على ذراعه وجرته إلى الخلف بصعوبة. الواقع أن عينيه وصوته وتكشيره عن أسنانه، أثارا في نفسي كل ما انطوت عليه من بغض ونفور. ارتعدت من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فأردفت قائلاً: "أنت غير جدير أن يلتفت المرء إليك أو يعاشرك. وليس ثمة مشهد أدعى إلى الاشمئزاز والقرف من شاب تافه ووضيع مثلك"
هبَّ الشاب واقفا مرة ثانية وكاد أن يلطم أرنبة أنفي بلكمة قوية منه، لكن الفتاة وقفت حائلا بيننا للمرة الثانية وقالت: "اذهب يا أخي! نحن لم نقصد أن نزعجك"
وكنت أنا الآخر أريد أن أرد له نفس الضربة. وكدنا أن نشتبك معا في شجار عنيف ولم يكن يهمني أن أخرج ميتا من هذه المعركة طالما أنها كانت دفاعا عن كبريائي الجريح وكرامتي النازفة. ولولا تجمهر الناس حولنا لانهال الشاب الوغد علي بالضرب ولتسبب بدخولي المستشفى حتماً. قلت للشاب بطريقة ضارية: "أنت حشرة! أنت كتلة من العفن!."
لم يكن أمام الشاب من طريقة للوصول إلي بسبب الناس الذين وقفوا حائلاً بيننا لفك الشجار، فما كان منه سوى أن رد بعبارات نابية فاحشة لم تستطع النيل من ثقتي بنفسي.
انتعشت روحي وتهلّلت جذلة بالنصر. لقد هزمت ذاك الشاب القوي الهائج. ابتسمت لنفسي وأخذني العجب والازدهاء. لم يلبث أن خمد لهيب الغضب في نفسي بمثل السرعة التي اشتعل فيها، وكان خليقا بي الآن أن أقوم بشراء كوز ذرة آخر غير الذي سقط على الأرض، أثناء الجلبة المسعورة منذ قليل، وأجلس على أحد الكراسي وأستمتع بمذاقه الطيب من دون أن أشعر بغصة الندم.
التعديل الأخير: