قال المعلم بصوته الجهوري العميق: "أريد منكم كتابة مقال أكاديمي عن الصحراء، بالطبع يمكنكم الاستعانة بالمصادر المتعددة في النت والمكتبة. هل لدى أحدكم أي سؤال؟".
انبريتُ فوق مقعدي وقلت بحماس: سأذهب إلى الصحراء بمفردي.
بالكاد تمكن المعلم من اسكات قَهْقَهة تسعة عشر طالباً في الفصل، ثم قال وقد صار استهجانه أشد مع كل كلمة: "ولكن أني لك أن تذهب إلى الصحراء بمفردك؟ إنك إن فعلت، فلن تنجو بنسبة صفر إلى عشرة. ولّى الربيع ونحن الآن في شهر أيار الصيفي".
رن الجرس معلناً نهاية الحصة. بعد ذلك نزل جميع التلاميذ إلى ساحة المدرسة. جلستُ على الرصيف المشجر؛ ليحميني من حر الشمس. قلت لنفسي: حتى لو صحّ كلام المعلم وكنا في أول شهور الصيف. لكني لن أغير رأيي.
سمعت تلميذاً على مقربة مني يسأل زميله: "أ تعتقد أن الصحراء مسكن الجن؟"
فرد الآخر: "لا أدري، ربما. لكن أبي يقول لي أن الجمل وحده من يتحمل مشقة العيش في الصحراء ويصبر على الجدب وقلة العشب والماء".
انقضى الدوام المدرسي. ورجعت إلى المنزل. تَغَدَّيْتُ مع أفراد عائلتي. في فترة العصر، كنت جالساً في غرفتي أتأمل العصا والمقشة السحريتين. لقد تبينت في مناسباتٍ عدة أن العصا والمقشة تعملان، كما في أفلام هاري بوتر. قمت بفرز محتويات حقيبة الكتف؛ هذا ما سأحتاجه: آلة التصوير الفوتغرافي، ودفتر وقلم، وحاوية من الصفيح مملوءة بأكثر من مئتي كرة زجاجية (تيلة)، والإبريق النحاسي، وأكياس الشاي، وقدّاحة.
من باب الاستحباب انتظرت انقضاء فحمة العشاء لكي أطير بمقشتي. فالجميع يدخل في فراشه خلال هذه الساعة. كنت في الفناء أتأهب للتحليق. ونظرت نظرة مليئة بالمشاعر والدموع إلى المجاز المؤدي إلى الدور الداخلية: مع السلامة أمي، أبي، أختي، أخي.
-يا مقشتي: آمرك بأخذي إلى الصحراء.
ارتفعت بي المقشة كأنها دخان يتصاعد في السماء. يدايّ قابضتان على عصا المقشة بحرص عظيم. رأيت أسفل مني منزلي وكراج سيارة والدي بحجم لعبة بيت أطفال. كنت على ارتفاع مئات الأقدام. انطلقت المقشة بسرعة رهيبة. في كل ثانية كنت أقطع مسافات لا يحيطها الحصر. كانت الأشياء من تحتي تتحرك كأنها تركض وبدت غير واضحة المعالم. وهدير الهواء يكاد يصم أذنيّ. هبطت إلى أرض الصحراء وتأملت سماء الليل الزاخرة بالنجوم اللّماعة. لم يقطع سكون الليل وعزلته إلا نفحات خفيفة من النسيم. لم أشعر بسعادة كهذه من قبل في حياتي. لم أتمن شيئاً أكثر من البقاء هنا إلى الأبد. احتجت إلى تحويل كومة من كرات التيل إلى حطب أقدح النار فيه، ومِعْزَف يعزف أعذب الألحان، وحصيرة من القش.
سهرت حتى وقت السحر. ثم تناولت تيلة وحوّلتها إلى خيمة. وحوّلت تيلة أخرى إلى فراش نوم. كانت الحقيبة والمقشة والعصا بجواري. قلت لنفسي: هذه الليلة الأولى التي أقضيها بعيداً عن عائلتي ومنزلي. فأصابتني وخزات الشوق إليهم. سمعت بعد ذلك ضجيجاً خارج الخيمة. بدا لي أنه ثمة أشخاص يتسابقون ويضحكون. أظنهم غيلان وشياطين. ولكني بعثت الطمأنينة في نفسي: لا داعي لأَن تخاف منهم يا غانم! لن يأتوا إليك، فباب الخيمة مُوصَد بإحكام. ثم نمت نومة هنيئة.
استيقظت في وقت البكور. ولاحظت أن الخيمة التي تأويني وفراش النوم الذي يُدفئني قد اختفيا دون أن أحس بذلك. كان علي ألا أتوقع أن الأشياء التي تحولت بواسطة السحر ستحافظ على دَيْمُومتها. وبالرغم مما حصل فلا مبرر للجزع؛ لأنني ما زلت أحتفظ بعصاي ومقشتي وأملك الكثير من كرات التيل. بعد أن ذهب الروع عن قلبي، شعرت بالجوع الشديد لدرجة أنني التهمت ست بَيْضَات.
في وقت الغدوة كان الفضاء الأزرق كأزهار القنطريون. وبدت الشمس مثل كأس مُشِع. بحثت في الأرجاء عن شيء يستحق التوثيق. بعد هنيهة سمعت زعيقاً عالياً يتردد في الأعلى. ورفعت نظري فرأيتُ طيْراً كبيراً يدور في حلقات واسعة تحت قبة السماء. أخرجت من الحقيبة تيلة وحولتها إلى فأر. وكما توقعت انقض الطائر الجارح على القارض المسكين. التقطت بضع صورٍ له وهو يأكل من صيده. ثم طار أعلى وأعلى في الفضاء حتى اختفى في نقطة بعيدة لا يصل لها النظر. امتطيت المقشة وطَفَوْتُ بها في زرقة السماء الباعثة على البهجة. ومررتُ فوق وادي جبلي ولمحت هناك ماعزاً برّياً له لحية وكان يتسلق حافة الجبل. للأسف لم أتمكن من تصويره؛ لأنني كنت في الهواء فوق المقشة الطائرة. أثناء تحليقي في الهواء استرعى انتباهي شيئاً لامعاً. فهبطت إلى الأرض الوعرة فوجدت أصدافاً وقواقع منثورة كالحصى في هذه البقعة. صوّرت اكتشافي المميز ودوّنت في الدفتر ملاحظتي مثل عالم جيولوجيا المياه. مررت بعد ذلك فوق سهول رملية. يمر عبرها قطيع الإبل. أثناء تصويري لها قامت بمحاصرتي لكني لم أحس بالخوف منها. وضعت على الأرض الكثير من الكرات. وقلت كل شيء يخطر ببالي:
تحولي إلى شجرة بثمان عشرة برتقالة،
تحولي إلى شجرة تتعلق بأغصانها عشرون تفاحة.
لقد نجحت خطتي. انشغل القطيع بالأكل من النبات. ولكن يا لغبائي! نسيت المقشة هناك وهي الآن بين غابة من سيقان تلك الحيوانات الضخمة. قلت لنفسي: لا يهم! سأعود لأخذها فيما بعد. حينذاك، مشيتُ في السهول وكنت لا أزال ممسكاً بآلة التصوير؛ لَعَلِّي أعثر على عش طائر في الجوار. في تلك الساعة بزغت شمس الهاجرة فوق الصحراء وخفت أن أتعرض لضربة حر. فأردت الحصول على الظل وقلت وأنا أقلب حاوية الصفيح رامياً كل كرات التيل على التراب: يا كرات التيل تحولي إلى بحر أو نافورة دمشقية!
عوض ذلك حصلت على حوض كبير من الرخام غير أنه لم يكن فيه قطرة. ليت شعري كيف أصف مقدار خيبة الأمل التي أحسست بها وقتذاك. أخذت أهز العصا صعوداً وهبوطاً قائلاً بنفاذ صبر: أريد ماء!
فإذ بطرف العصا يرشُّ الماء مثل خرطوم الريّ في فناء منزلي. رحت أجري في حماس وأنا أصوب طرف العصا نحو وجهي وجسمي. وفي غمرة اللعب بالماء بصرت بذئب القيوط يتجه نحوي. فتشت في حقيبتي وقلبي يدق بعنف من الخوف. فوجدت في قاعها كرة تيلة متبقية. وقلت: يا تيلة تحولي إلى جيفة ظأن. التهى القيوط بوليمته. مشيت بسرعة لكي أضمن الابتعاد عنه أطول مسافة ممكنة. قلت في نفسي: لو كانت المقشة معي الآن لطرت عائداً إلى منزلي. رفعت بصري إلى السماء فبدأت تكتسي باللون البرتقالي منذرة باقتراب عاصفة ترابية. كنت أمشي مترنحاً بسبب الوهن الذي أصابني نتجية الجوع. بدأ العجاج ينتشر في الجو فآويت إلى أخدود غائص أمّن لي شيئاً من الحماية. أنفي وفمي مكممان وجسدي مستنداً على جدار صخري. سقطت العصا من يدي ولم أعد أراها. تهالكت على الأرض أتحسس مكانها. فلم أعثر عليها.عندئذٍ تقبلت الحقيقة الدامغة: أنا الآن أمكث وحدي في الصحراء، بلا مقشة ولا عصا. تلبدت السماء بالغيوم ثم أمطرت مطراً غزيراً فانقشع الغبار الأحمر عن الأفق. كان الوقت إذ ذاك أقرب إلى الأصيل من العشيّ. لم يتوقف مسيل الماء في الأخدود. كنت أخوض في نهرٍ جاري بعمق بضع بوصات. خرجت من فم الأخدود وأخذت أشاهد البرك الموحلة في الأرض المتسعة. يا محاسن الصُّدف! لقد وجدت العصا أخيراً تعوم فوق بَحْرَة على بعد عشرين قدماً مني. أحسست بفرحة جذلة وكأنني استعدت ذراعي!. وزادت فرحتي عندما وجدت بجانبها كرتين. كانت سيول الأمطار قد جرفتها إلى الأخدود ومن ثمة إلى خارجه. من غير الممكن وصف سعادتي آنذاك. هممت بتحويل تيلة إلى مشجب ملابس وعلقت عليه حقيبة الكتف؛ فقد تملكني السخف، ورحت أتمرغ في الطين مثل ثعلب منبوذ من جماعته لكنه حرٌ وخلي القلب.
عندما أجنح الليل بدأت أسمع عواء الذئاب. وقتئذٍ حولت تيلة إلى منطاد عملاق. كان المنطاد عائماً في فضاء الصحراء ويسقط ضوؤه الليموني على حيز كبير من الارض. لدرجة أنني رأيت على بعد أميال ذئاب هائمة يصل عددها إلى عشرين. تقلصت أمعائي من شدة الرهبة. وأدبرت للفرار. وعندما التفتُ ورائي وجدتها تتعقبني بسرعة لا تصدق. كانت الأرض تتناقص فيما بيني والذئاب. كان بإمكاني سماع هسيسها المرعب يقترب مني لحظة ترائي صورة عائلتي أمام عيني. لقد أدركتني الذئاب.
- غانم! لماذا تصرخ يا روح أمك؟! - قالت بنبرة صوت تقطر حباً وحناناً وهي تأخذ برأسي بين يديها لتهدئتي.
أخذت أسرد لها وقائع الحلم كله، بينما كانت تستمع إلي دهشة متعجبة. قالت وهي تربت على خدي برفق: لقد كان حلمك ضغثٌ من خبر. لأنك تفكر بالصحراء طوال الوقت بسبب البحث الذي عليك تقديمه؛ فرأيتها في منامك"
انبريتُ فوق مقعدي وقلت بحماس: سأذهب إلى الصحراء بمفردي.
بالكاد تمكن المعلم من اسكات قَهْقَهة تسعة عشر طالباً في الفصل، ثم قال وقد صار استهجانه أشد مع كل كلمة: "ولكن أني لك أن تذهب إلى الصحراء بمفردك؟ إنك إن فعلت، فلن تنجو بنسبة صفر إلى عشرة. ولّى الربيع ونحن الآن في شهر أيار الصيفي".
رن الجرس معلناً نهاية الحصة. بعد ذلك نزل جميع التلاميذ إلى ساحة المدرسة. جلستُ على الرصيف المشجر؛ ليحميني من حر الشمس. قلت لنفسي: حتى لو صحّ كلام المعلم وكنا في أول شهور الصيف. لكني لن أغير رأيي.
سمعت تلميذاً على مقربة مني يسأل زميله: "أ تعتقد أن الصحراء مسكن الجن؟"
فرد الآخر: "لا أدري، ربما. لكن أبي يقول لي أن الجمل وحده من يتحمل مشقة العيش في الصحراء ويصبر على الجدب وقلة العشب والماء".
انقضى الدوام المدرسي. ورجعت إلى المنزل. تَغَدَّيْتُ مع أفراد عائلتي. في فترة العصر، كنت جالساً في غرفتي أتأمل العصا والمقشة السحريتين. لقد تبينت في مناسباتٍ عدة أن العصا والمقشة تعملان، كما في أفلام هاري بوتر. قمت بفرز محتويات حقيبة الكتف؛ هذا ما سأحتاجه: آلة التصوير الفوتغرافي، ودفتر وقلم، وحاوية من الصفيح مملوءة بأكثر من مئتي كرة زجاجية (تيلة)، والإبريق النحاسي، وأكياس الشاي، وقدّاحة.
من باب الاستحباب انتظرت انقضاء فحمة العشاء لكي أطير بمقشتي. فالجميع يدخل في فراشه خلال هذه الساعة. كنت في الفناء أتأهب للتحليق. ونظرت نظرة مليئة بالمشاعر والدموع إلى المجاز المؤدي إلى الدور الداخلية: مع السلامة أمي، أبي، أختي، أخي.
-يا مقشتي: آمرك بأخذي إلى الصحراء.
ارتفعت بي المقشة كأنها دخان يتصاعد في السماء. يدايّ قابضتان على عصا المقشة بحرص عظيم. رأيت أسفل مني منزلي وكراج سيارة والدي بحجم لعبة بيت أطفال. كنت على ارتفاع مئات الأقدام. انطلقت المقشة بسرعة رهيبة. في كل ثانية كنت أقطع مسافات لا يحيطها الحصر. كانت الأشياء من تحتي تتحرك كأنها تركض وبدت غير واضحة المعالم. وهدير الهواء يكاد يصم أذنيّ. هبطت إلى أرض الصحراء وتأملت سماء الليل الزاخرة بالنجوم اللّماعة. لم يقطع سكون الليل وعزلته إلا نفحات خفيفة من النسيم. لم أشعر بسعادة كهذه من قبل في حياتي. لم أتمن شيئاً أكثر من البقاء هنا إلى الأبد. احتجت إلى تحويل كومة من كرات التيل إلى حطب أقدح النار فيه، ومِعْزَف يعزف أعذب الألحان، وحصيرة من القش.
سهرت حتى وقت السحر. ثم تناولت تيلة وحوّلتها إلى خيمة. وحوّلت تيلة أخرى إلى فراش نوم. كانت الحقيبة والمقشة والعصا بجواري. قلت لنفسي: هذه الليلة الأولى التي أقضيها بعيداً عن عائلتي ومنزلي. فأصابتني وخزات الشوق إليهم. سمعت بعد ذلك ضجيجاً خارج الخيمة. بدا لي أنه ثمة أشخاص يتسابقون ويضحكون. أظنهم غيلان وشياطين. ولكني بعثت الطمأنينة في نفسي: لا داعي لأَن تخاف منهم يا غانم! لن يأتوا إليك، فباب الخيمة مُوصَد بإحكام. ثم نمت نومة هنيئة.
استيقظت في وقت البكور. ولاحظت أن الخيمة التي تأويني وفراش النوم الذي يُدفئني قد اختفيا دون أن أحس بذلك. كان علي ألا أتوقع أن الأشياء التي تحولت بواسطة السحر ستحافظ على دَيْمُومتها. وبالرغم مما حصل فلا مبرر للجزع؛ لأنني ما زلت أحتفظ بعصاي ومقشتي وأملك الكثير من كرات التيل. بعد أن ذهب الروع عن قلبي، شعرت بالجوع الشديد لدرجة أنني التهمت ست بَيْضَات.
في وقت الغدوة كان الفضاء الأزرق كأزهار القنطريون. وبدت الشمس مثل كأس مُشِع. بحثت في الأرجاء عن شيء يستحق التوثيق. بعد هنيهة سمعت زعيقاً عالياً يتردد في الأعلى. ورفعت نظري فرأيتُ طيْراً كبيراً يدور في حلقات واسعة تحت قبة السماء. أخرجت من الحقيبة تيلة وحولتها إلى فأر. وكما توقعت انقض الطائر الجارح على القارض المسكين. التقطت بضع صورٍ له وهو يأكل من صيده. ثم طار أعلى وأعلى في الفضاء حتى اختفى في نقطة بعيدة لا يصل لها النظر. امتطيت المقشة وطَفَوْتُ بها في زرقة السماء الباعثة على البهجة. ومررتُ فوق وادي جبلي ولمحت هناك ماعزاً برّياً له لحية وكان يتسلق حافة الجبل. للأسف لم أتمكن من تصويره؛ لأنني كنت في الهواء فوق المقشة الطائرة. أثناء تحليقي في الهواء استرعى انتباهي شيئاً لامعاً. فهبطت إلى الأرض الوعرة فوجدت أصدافاً وقواقع منثورة كالحصى في هذه البقعة. صوّرت اكتشافي المميز ودوّنت في الدفتر ملاحظتي مثل عالم جيولوجيا المياه. مررت بعد ذلك فوق سهول رملية. يمر عبرها قطيع الإبل. أثناء تصويري لها قامت بمحاصرتي لكني لم أحس بالخوف منها. وضعت على الأرض الكثير من الكرات. وقلت كل شيء يخطر ببالي:
تحولي إلى شجرة بثمان عشرة برتقالة،
تحولي إلى شجرة تتعلق بأغصانها عشرون تفاحة.
لقد نجحت خطتي. انشغل القطيع بالأكل من النبات. ولكن يا لغبائي! نسيت المقشة هناك وهي الآن بين غابة من سيقان تلك الحيوانات الضخمة. قلت لنفسي: لا يهم! سأعود لأخذها فيما بعد. حينذاك، مشيتُ في السهول وكنت لا أزال ممسكاً بآلة التصوير؛ لَعَلِّي أعثر على عش طائر في الجوار. في تلك الساعة بزغت شمس الهاجرة فوق الصحراء وخفت أن أتعرض لضربة حر. فأردت الحصول على الظل وقلت وأنا أقلب حاوية الصفيح رامياً كل كرات التيل على التراب: يا كرات التيل تحولي إلى بحر أو نافورة دمشقية!
عوض ذلك حصلت على حوض كبير من الرخام غير أنه لم يكن فيه قطرة. ليت شعري كيف أصف مقدار خيبة الأمل التي أحسست بها وقتذاك. أخذت أهز العصا صعوداً وهبوطاً قائلاً بنفاذ صبر: أريد ماء!
فإذ بطرف العصا يرشُّ الماء مثل خرطوم الريّ في فناء منزلي. رحت أجري في حماس وأنا أصوب طرف العصا نحو وجهي وجسمي. وفي غمرة اللعب بالماء بصرت بذئب القيوط يتجه نحوي. فتشت في حقيبتي وقلبي يدق بعنف من الخوف. فوجدت في قاعها كرة تيلة متبقية. وقلت: يا تيلة تحولي إلى جيفة ظأن. التهى القيوط بوليمته. مشيت بسرعة لكي أضمن الابتعاد عنه أطول مسافة ممكنة. قلت في نفسي: لو كانت المقشة معي الآن لطرت عائداً إلى منزلي. رفعت بصري إلى السماء فبدأت تكتسي باللون البرتقالي منذرة باقتراب عاصفة ترابية. كنت أمشي مترنحاً بسبب الوهن الذي أصابني نتجية الجوع. بدأ العجاج ينتشر في الجو فآويت إلى أخدود غائص أمّن لي شيئاً من الحماية. أنفي وفمي مكممان وجسدي مستنداً على جدار صخري. سقطت العصا من يدي ولم أعد أراها. تهالكت على الأرض أتحسس مكانها. فلم أعثر عليها.عندئذٍ تقبلت الحقيقة الدامغة: أنا الآن أمكث وحدي في الصحراء، بلا مقشة ولا عصا. تلبدت السماء بالغيوم ثم أمطرت مطراً غزيراً فانقشع الغبار الأحمر عن الأفق. كان الوقت إذ ذاك أقرب إلى الأصيل من العشيّ. لم يتوقف مسيل الماء في الأخدود. كنت أخوض في نهرٍ جاري بعمق بضع بوصات. خرجت من فم الأخدود وأخذت أشاهد البرك الموحلة في الأرض المتسعة. يا محاسن الصُّدف! لقد وجدت العصا أخيراً تعوم فوق بَحْرَة على بعد عشرين قدماً مني. أحسست بفرحة جذلة وكأنني استعدت ذراعي!. وزادت فرحتي عندما وجدت بجانبها كرتين. كانت سيول الأمطار قد جرفتها إلى الأخدود ومن ثمة إلى خارجه. من غير الممكن وصف سعادتي آنذاك. هممت بتحويل تيلة إلى مشجب ملابس وعلقت عليه حقيبة الكتف؛ فقد تملكني السخف، ورحت أتمرغ في الطين مثل ثعلب منبوذ من جماعته لكنه حرٌ وخلي القلب.
عندما أجنح الليل بدأت أسمع عواء الذئاب. وقتئذٍ حولت تيلة إلى منطاد عملاق. كان المنطاد عائماً في فضاء الصحراء ويسقط ضوؤه الليموني على حيز كبير من الارض. لدرجة أنني رأيت على بعد أميال ذئاب هائمة يصل عددها إلى عشرين. تقلصت أمعائي من شدة الرهبة. وأدبرت للفرار. وعندما التفتُ ورائي وجدتها تتعقبني بسرعة لا تصدق. كانت الأرض تتناقص فيما بيني والذئاب. كان بإمكاني سماع هسيسها المرعب يقترب مني لحظة ترائي صورة عائلتي أمام عيني. لقد أدركتني الذئاب.
- غانم! لماذا تصرخ يا روح أمك؟! - قالت بنبرة صوت تقطر حباً وحناناً وهي تأخذ برأسي بين يديها لتهدئتي.
أخذت أسرد لها وقائع الحلم كله، بينما كانت تستمع إلي دهشة متعجبة. قالت وهي تربت على خدي برفق: لقد كان حلمك ضغثٌ من خبر. لأنك تفكر بالصحراء طوال الوقت بسبب البحث الذي عليك تقديمه؛ فرأيتها في منامك"
التعديل الأخير: