كانت الشمس قد أدلفت إلى المغيب لحظة اسْتِغراقيّ في النظر إلى الشارع الخالي من المارة. الناس يفضلون ألا يخرجون من بيوتهم في الأمسيات الباردة. لذلك قررت الذهاب إلى الحديقة التي تتاخم القفر المسبخ الواسع الأفق والذي لا يعلم أحد ما فيه. هناك سأجد الفرصة للنأْي بنفسي عن العالم ولكي أستبحر غموض المكان. عندما دَجَن الليل كنت أقود سيارتي على الطريق المسفلت. وصلت أخيراً بعد ساعة. كانت الحديقة مسوّرة بجدار عالٍ مكوّن من الخرسانة. عبرت من البوابة الحديدية الضخمة. لم يكن أحد هناك غيري؛ فخلق ذلك في داخلي شعور الأمان والدفء. شجعني حفيف أشجار البلُّوط على التطواف في جنبات الحديقة المدغلة دون خوف. سمعت نعيب طائر البوم يتردد بين الأغصان. ثم رحت أصغي إلى الأصوات الخفية المستمرة، وكانت أشبه بعزيف الجن، ولم يقطعها إلا أزيز أرجوحة صدئة قد مررت بها وكانت تذهب وتعود في الهواء. بدا لي هدير الرياح مثل صوت فتاة نائحة تسفح العبرات. رقدت على الأرض الترابية الصلبة وشممت رائحة الطين الطازجة. ثم رحت أنظر إلى السماء، وكنت أمني نفسي في رؤية نجمة الدَّبران. غير أن الغيوم البيضاء التي كالقطن كانت متناثرة في أكبر نطاق. بيد أن القمر تألق في اللحظة التي طفطف فيها سربٌ من الطيور أمام قرصه الفضي. حين يغيب القمر لبرهة وراء الغيوم تتكفل سارية عالية بتوفير الضوء على مساحة ممتدة من الأرض العشبية.
كنت مُتَبَحَّراً بالجمال السماوي، لكني سرعان ما هبطت إلى الأرض؛ إذ سمعت فجأة صوت دَبْدَبة أقدام في الجوار. فالتفتُ ورائي، فوجدت شيئاً يندس بين الشجر. قلت في نفسي: "أتراه يكون كلباً؟".
"لا، لم يكن كلباً، أنت مُتتبَّع!. فيما أنت تشاهد الفضاء وقمم الأشجار يفكر أحدهم بذبحك!"
في اللحظة التي أصغيت فيها للجرس الداخلي وهممت بالنهوض سمعت صوتاً يخاطبني:
-هلا جلست معي!، أريد أن أتبادل أطراف الحديث معك.
هالني الصوت الخفيض الحاد. وأدرت رأسي لرؤية صاحب الصوت، فوقع الروع في نفسي لمرأى صورته الآدمية التي لا تبعث الطمأنينة في القلب على الإطْلاق. رسمت ابتسامة على وجهي اتقاء شره. كنت أريد أن أقول: آسف يا أخي، أريد الذهاب فالوقت متأخر. لكن لساني انعقد عن الكلام وبقيت جالساً على الأرض وكأن جسمي أمسى متمغنِطاً.
جلس متربعاً قبالتي وراعني ضخامة جسمه. كان في حوالي الأربعين من عمره. قال بنبرة صوت لم أتبين إن كانت حزن أو سرور: كلما هممت بالجلوس مع أحد في الحديقة أجده يجفل ويرتعب ثم يغادر. لماذا لا يستأنس الناس بوجودي؟
فكرت في نفسي: أعرف أنه يتعين علي الفرار ولكن هذا الوغد من دون شك سوف يدركني.
وقتئذ ظهرت على فمه الغليظ اختلاجة تشبه الابتسامة. كان حدسي يخبرني أن هذا الشخص لفي ميسوره قراءة ما أفكر به. أدركت داخلة هذا الغريب حين رأيته يدس يده في جيبه. ولكن شيئاً ما استرعى انتباهي عندما نظرت في وجهه وعلى الأخص بين عينيه؛ إذ تبادر إلى ذهني أن صفاته الخلقية مألوفة لدي أو بمعنى أصح قد قرأت عنها سابقاً. أتراه يكون...؟. لقد تخايل لي في تلك اللحظة أنني أجلس أمام المسيخ الدجَّال!
ولأول مرة أراه يتجنب النظر فيّ محدقاً إلى الجانب البعيد وأخرج يده المرتعشة من جيبه؛ لأنه يعرف أن الاهْتِداء إلى معرفة هويته المعروفة لدى الجميع يؤدي مباشرةً إلى استخدام الأشياء التي تقي من شره.
حينذاك تأكد حدسي ورأيته يقول في صوت متحشرج وكأنه يحاول أن يصرفني إلى موضوعٍ آخر: انظر لقد أدجنت السماء بالغيوم! هل تعلم أن ذلك الجزء من السور مَفْدوغ؟ عند انتصاف الليل تمرق منه البهائم الضارية إلى الحديقة. تعال معي إلى هناك لنرى الفَدْغ.
لم يتشتت ذهني واستدعيت إلى مخيلتي صورة أبي الحبيب الذي يتمتع بالحصافة: قبل رحيله عن الدنيا الفانية كان قد حنكني وعلمني استخدام أقوى سلاح لمجابهة الشياطين. استذكرت أسماء وصفات الله الحسنى.
عندئذٍ قلب اللعين لي سحنته وقبُح وجهُه وجحظت عينه.
بدأت أرى ملامحه الحقيقية تظهر على وجهه. ورأيت عينه تتوقد وعينه الأخرى ترميني بالشر. وشاهدت كيف بدأ الصلع يلتهم أعلى رأسه معطياً إياه شكل أفعى الأصلة. دسَّ يده في جيبه ثانيةً وأخرج مِطواة. فرحت أتلو وأكرر هذا الدعاء: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
فأجفلت عندما وجدته يرتجف مثل شجرة أرجفتها عاصفة. فوقعت مغشياً علي من فظاعة المنظر. وحين أفقت وجدت السماء قد درَّت بالمطر ورشقتني بقطراتها العذبة. لم يكن أحد غيري في الحديقة؛ فأحسست بأني عدت أخيراً للأمان.
كنت مُتَبَحَّراً بالجمال السماوي، لكني سرعان ما هبطت إلى الأرض؛ إذ سمعت فجأة صوت دَبْدَبة أقدام في الجوار. فالتفتُ ورائي، فوجدت شيئاً يندس بين الشجر. قلت في نفسي: "أتراه يكون كلباً؟".
"لا، لم يكن كلباً، أنت مُتتبَّع!. فيما أنت تشاهد الفضاء وقمم الأشجار يفكر أحدهم بذبحك!"
في اللحظة التي أصغيت فيها للجرس الداخلي وهممت بالنهوض سمعت صوتاً يخاطبني:
-هلا جلست معي!، أريد أن أتبادل أطراف الحديث معك.
هالني الصوت الخفيض الحاد. وأدرت رأسي لرؤية صاحب الصوت، فوقع الروع في نفسي لمرأى صورته الآدمية التي لا تبعث الطمأنينة في القلب على الإطْلاق. رسمت ابتسامة على وجهي اتقاء شره. كنت أريد أن أقول: آسف يا أخي، أريد الذهاب فالوقت متأخر. لكن لساني انعقد عن الكلام وبقيت جالساً على الأرض وكأن جسمي أمسى متمغنِطاً.
جلس متربعاً قبالتي وراعني ضخامة جسمه. كان في حوالي الأربعين من عمره. قال بنبرة صوت لم أتبين إن كانت حزن أو سرور: كلما هممت بالجلوس مع أحد في الحديقة أجده يجفل ويرتعب ثم يغادر. لماذا لا يستأنس الناس بوجودي؟
فكرت في نفسي: أعرف أنه يتعين علي الفرار ولكن هذا الوغد من دون شك سوف يدركني.
وقتئذ ظهرت على فمه الغليظ اختلاجة تشبه الابتسامة. كان حدسي يخبرني أن هذا الشخص لفي ميسوره قراءة ما أفكر به. أدركت داخلة هذا الغريب حين رأيته يدس يده في جيبه. ولكن شيئاً ما استرعى انتباهي عندما نظرت في وجهه وعلى الأخص بين عينيه؛ إذ تبادر إلى ذهني أن صفاته الخلقية مألوفة لدي أو بمعنى أصح قد قرأت عنها سابقاً. أتراه يكون...؟. لقد تخايل لي في تلك اللحظة أنني أجلس أمام المسيخ الدجَّال!
ولأول مرة أراه يتجنب النظر فيّ محدقاً إلى الجانب البعيد وأخرج يده المرتعشة من جيبه؛ لأنه يعرف أن الاهْتِداء إلى معرفة هويته المعروفة لدى الجميع يؤدي مباشرةً إلى استخدام الأشياء التي تقي من شره.
حينذاك تأكد حدسي ورأيته يقول في صوت متحشرج وكأنه يحاول أن يصرفني إلى موضوعٍ آخر: انظر لقد أدجنت السماء بالغيوم! هل تعلم أن ذلك الجزء من السور مَفْدوغ؟ عند انتصاف الليل تمرق منه البهائم الضارية إلى الحديقة. تعال معي إلى هناك لنرى الفَدْغ.
لم يتشتت ذهني واستدعيت إلى مخيلتي صورة أبي الحبيب الذي يتمتع بالحصافة: قبل رحيله عن الدنيا الفانية كان قد حنكني وعلمني استخدام أقوى سلاح لمجابهة الشياطين. استذكرت أسماء وصفات الله الحسنى.
عندئذٍ قلب اللعين لي سحنته وقبُح وجهُه وجحظت عينه.
بدأت أرى ملامحه الحقيقية تظهر على وجهه. ورأيت عينه تتوقد وعينه الأخرى ترميني بالشر. وشاهدت كيف بدأ الصلع يلتهم أعلى رأسه معطياً إياه شكل أفعى الأصلة. دسَّ يده في جيبه ثانيةً وأخرج مِطواة. فرحت أتلو وأكرر هذا الدعاء: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
فأجفلت عندما وجدته يرتجف مثل شجرة أرجفتها عاصفة. فوقعت مغشياً علي من فظاعة المنظر. وحين أفقت وجدت السماء قد درَّت بالمطر ورشقتني بقطراتها العذبة. لم يكن أحد غيري في الحديقة؛ فأحسست بأني عدت أخيراً للأمان.
التعديل الأخير: