S A L W A | 19/12/2022
في نهاية الطريق يبرز بيت متقن البناء، عاش عصفور هناك. تجلس مالكة البيت، كل يوم، في مقعد الحديقة الصغيرة القائمة في طرف الوادي، وتذهب بفكرها بعيداً. قال العصفور الذي كان ينظر إليها بنبرة احترام: "تلك المرأة، أقل ما يقال فيها، جد طيبة. هي لا تتضايق من لجوء العصافير إلى حديقتها."
ثم حلق في السماء، ومرّ فوق جنبات الوادي الذي تركد فيه بحيرة. ولمّا أظمأه الطيران، تحت أشعة الشمس، هبط عند الضفة وأخذ يشرب. سمع بعد ذلك صوتاً يخاطبه: "مرحبا أيها الظمآن المسكين!".
ارتعد العصفور وولى هارباً. ثم مدّ نظره الحاد إلى الأسفل، وإذ به يرأى سمكة رأسها شاخصاً فوق سطح الماء. قال العصفور لدى هبوطه على الأرض: "لقد أفزعتني يا سمكة!".
- أوه! أنا آسفة، لم أقصد إِرْعَابُك يا عصفور.
- ما الذي أتى بكِ إلى هذا المكان الموحش؟ يفترض بك أن تعيشي في البحر.
أجابت السمكة بلهجة تنطوي على الأسى: "كانت هذه البحيرة فيما سبق بحيرة عظيمة تعيش فيها أسماك كثيرة. لكن كل شيء أضحى متبدلاً بفعل حرارة الطقس. لقد ضحل الماء وقَحْلت الأرض. سوف أموت قريباً!".
شعر العصفور بالحزن حيال السمكة وقال:
- لا! لن تموتي، حرام أن تموت سمكة بمثل لطافتك!
- أشكرك أيها العصفور الحنون على مشاعرك النبيلة.
- أنا أتكلم بصورة جادة- يجب علينا أن نتباحث في الأمر ونجد حلاً.
أرادت السمكة تغيير دفة الحديث، وسألت: "أين تعيش أنت؟"
- أعيش في حديقة جميلة، حيث تنضج فيها الثمار.
سألت السمكة بفضول أكبر: "وهل ثمة أشياء أخرى في الحديقة؟".
- الكثير من الأزهار المعتنى بها جيداً، وبركة ماء للزينة.
- أهي عميقة؟ بحيث أستطيع السباحة فيها.
- أجل! تستطيعين السباحة فيها بكل ارتياح. إن مالكة البيت تجلب عمال الصيانة، في كل حين، للاعتناء بها.
- حدثني عن مالكة البيت.
- عن أَيِّ شَأْنِهَا تستعلمين؟
- هل تساعد الحيوانات؟
- لم يسبق قط أن رأيتها ترعى حيواناً أليفاً. إلّا أنني أراقبها، على الدوام، من مسافة آمنة: إن هيئتها تنم على سلامة الطوية.
انتقل العصفور والسمكة بعد ذلك من موضوع إلى آخر. عند مَغْرِب الشَّمْس قال الطائر بحزن: "لقد حانت أُوْلى علامات اللَيْل، يجب أن أكون في عشي الآن. أراكِ يوم غد"
- مع السلامة، سأنتظرك فلا تتأخر.
أَوَى العصفور إلى عشه. ولم تمحّ صورة السمكة من باله. ورأى في الحلم أنهما معاً، بطريقة ما، ولم يكن هناك من شيء ينغص عليهما هنائهما. في صباح اليوم التالي، ذهب الطائر ، دون أي تباطؤ، إلى البحيرة. فوجد السمكة تنتظره وفمها يرسم ابتسامة واسعة. كذلك هو الآخر لقيها بابتسامة سعيدة. حيّيا بعضهما وانْخَرَطَا في الأشواق والأحاديث الطريفة. وهكذا توثقت بينهما عرى الصداقة. حدّ أن مفردة الصداقة تتبدى مقصرة في توصيف العلاقة توصيفاً دقيقاً. كانت صداقتهما أمتن من أي صداقة وأشد ولعاً واضطراباً من أي عشق.
جاء أشد شهور الصيف حرارة، وكانت البحيرة تضيق من كل الجهات. لم يتبق للسمكة إلا كمية ضئيلة تسبح فيها. مما جعل العصفور الذي كان قلقاً عليها يقول: "طيلة الأيام المنصرمة وأنا أفكر بالحل حتى اهْتَدَيْتُ إليه: سوف أحملك إلى بركة الماء الكائنة في الحديقة التي أعيش فيها.
- أ أنت مخبول؟! وماذا عن المخلوقة البشرية التي حدثتني عنها.
- تلك المرأة لن تلحق بك أي ضرر.
- إني أحب البقاء هنا.
قال العصفور بنفاذ صبر: "سوف تختفي هذه البحيرة بعد مدة ليست طويلة- هل تعلمين ماذا سيحل بي إن أَلَمَّ بكِ شَرٌّ".
- هل تزعم أنني سآكون آمنة هناك؟
- بالطبع!
- ولكن من يضمن لي بأني سأكون في أمان في تلك البركة؟
- أنا!
- أنت؟!، يا عصفور! إنما أنت يحكمك الخيال لا غير.
- ما هو قصدك؟
- أقصد أنني لن أنجر وراء أفكارك الخطيرة.
- سوف أحملك إلى تلك البركة رغماً عنك! وما أقوله أصمم على تنفيذه.
انصاعت السمكة لسلطة العصفور عليها، فقالت: "حسناً يا عزيزي، ما عندي مانع بالهجرة من بحيرة الوادي الضحلة إلى بركة الحديقة. ولكن كيف يتم ذلك؟".
- هذا أمرٌ بسيط، ادفعي بذيلك لكي أحملك بمنقاري.
- هاك ذيلي. ولكن إِيَّاك أن توقعني: عندئذ ينتهي أمري!
- لا تخافي! أنا أقوى عصفور بين جنس العصافير.
ردت السمكة بإعْجاب شديد: "بلا شك!".
جهد العصفور بصبر لا مثيل له بحمل السمكة من ذيلها. واجتاز الرحلة بطولها في الجو. آنذاك سفع لَفْح الشمس السمكة فأصابها التعب واللُغُوب. لكن وعثْاء الرحلة لم يَفُتَّ في عَزْم الطائر الشجاع. ولما رأت مالكة البيت العصفور يحمل السمكة بمنقاره، وهو لا يزال محلقاً في الهواء، تولتها الدهشة وقالت:
- كيف لمعجزة كهذه أن تحدث في أيامنا؟!
نجح العصفور بقذف السمكة في البركة. فأصبحت سعيدة، وكان هو بالمقدار ذاته من السعادة.
آنئذ، راودت مالكة البيت فكرة خبيثة. فغابت لثوانٍ ثم ظهرت وهي تمسك بشبكة صيد الأسماك. عصف بعقل العصفور ما يشبه الجنون؛ لأنه أدرك ما ترمي إليه. وقام بنقر رأسها عدة مرات، فقالت المرأة ووجهها ينفث الغضب بحيث بدا قبيحاً: "اذهب من هنا أيها العصفور الحقير!".
اصطادت السمكة بالشبكة ومِنْ ثَمَّ، توجهت بسرعة إلى داخل البيت. وكان العصفور يطير في إثرها. عند ذلك الحدّ، ارتفع في المطبخ صوت صراخها الغاضب: "ليس من عصافير هنا!". ورمته بالشِبشِب رمية كادت أن تسحقه. وأخيراً وضعت السمكة في قدر الطهي، وأشعلت ألسنة اللهب أسفل منه؛ لكي تستمتع بتعذيبها حتى الموت. آنذاك اهتز إيمان العصفور بالناس اهتزازاً عنيفاً. وأسرع بالتحليق إلى البحيرة التي كان يحدث عندها لقاء أحدهما مع الآخر؛ عسى أن يستعيد طيف صديقته الحبيبة. لكن الشمس كانت ماحية كل أثر لها. في نهاية الأمر، انحدر إلى حالة سيئة. وسقط على الأرض محموماً، ساخناً، مملوءاً بالقهر. وبقي هكذا حتى نحل جسمه وشحب وجهه الجميل. واضمحلت ألوان الحياة في عيونه وانسلخت أوراقها. وانتهى كل شيء بعد ذلك.
التعديل الأخير: