S A L W A - أبدعت!
كان يا مكان، في قديم الزمان. في مدينة المِشْمِش، عاش هارون، في ضائقة وإملاق، وهو شاب في مقتبل العمر. هارون نادرة من النوادر لِما تأصل به من عوامل الخير. كان أُمَّيّاً لكنه كَيّسٌ. ورغم الفقر لقد رضيّ بالمقسوم. إنه لم يسخط قط، وكان يقول: أرزاق من الرازق وأقدار من عالم الغيب.
هذه لمحة عن خُلقه؛ وأما خَلقه فيجدر بنا القول، لو كان فقط مرتاحاً، لو كان يعمل عملاً يحبه، إذن لكان خليقاً به أن يكون متورداً بزَهْوة الملاحة، ووسيماً في نظر العيون مثلما يبدو مريحاً للقلوب.
اشتغل هارون حمّالاً في السوق، يحمل السلات الحاوية لِما في داخلها، وكل شيء يمكن أن يُحمل. كرّ الوقت على هذا الحال. وفي يوم من الأيام، كان هارون يحمل سلة، مترعة بمختلف صنوف الأشياء، تخص زوجة رجل من رجالات الدولة وكانت تشمخ بأنفها على الناس وكأنهم ذباب. ولمّا وصل الشاب الحمّال لّدُن باب بيت تلك المرأة، لم تفر من شفتيها سوى كلمتين: هاك أجرتك. إنها حتى لم تقل له: مشكور!
- قطعة نقدية من فئة خمسة فلوس؟ لقاء حمل السلة الثقيلة! أليس هذا قليل يا سيدتي؟
- ولا فلس واحد! –قالت في قحة.− ولِ عني!
- حسبي الله ونعم الوكيل! − نكس هارون رأسه في يأس وأسى.
كان هناك امرأة عجوز تراقب الموقف، فرأفت لحاله ونادته: يا رجل، تعالَ.
جاء إليها هارون ورآها تحمل شيئاً. قالت مواسية: إيه، دنيا ليس غير الضعفاء تقهر! لكن لا تقنط يا بني. الدنيا إلى فناء. على أية حال، أريد القول، اقبل مني هذه البقوليات.
- جزاكِ الله خيراً يا خالة. بالتأكيد أقبل هديتك وأشكركِ.
بعد غروب الشمس واستعداد مدينة المِشْمِش المسوّرة إلى الهجوع، كان هارون في بيته، الذي عبارة عن غرفة بسيطة حتى في أعين الفقراء، وخالية من أبجديات التأثيث ومفتقدة للحصيرة القشية، يأكل البازلاء. بعد الشبع أتى الحمد لله.
- ما تبقى سآكله غداً.
ثم جلس أمام باب غرفته المواجه للشارع، تحت دُجْنة الليل. أطلق هارون تأمله إلى السماء الداجية حيث الكواكب المنظورة ونثرة النجوم الغاصة في جوف الليل. وقال مما حفظه من قول مأثور لأبي العلاء المعري:
- أعننى رب وأعنى واعن بي، حتى تغنيني عن أمي وأبي، فقد ذهبا وأنا إلى رحمتك فقير. ومن الغني عنك! ينبغي أن يدعى ذلك من يقدر أن ينفع ويضر، ولا يقدر على المنفعة والضرر سواك. زحل زنجي بين يديك، والمشترى عبد لك مطيع، والمريخ يتصرف بين أوامرك ونواهيك، والشمس والزهرة أمتان تنصفانك، وعطارد والقمر مستخدمان لا يصلان إلى الاعتفاء.
ومن عجب ما أحس به في تلك اللحظة فعل أمر ينبثق من العدم ويتهادى في أذنه، مثل حلم اليقظة، يقول له: ازرع البذور المتبقية في أرض غبراء. دارس النباتات والبستاني هما وحدهما المعنيان في بستنة الأرض واستنباط الزرع من البذور ما وسعهما ذلك، وما وسعتهما تجربتهما في علم البيولوجيا النباتية. ثم أن التربة الرملية في بلد صحراوي لا ينبت فيه إلا العرفج ومواطئ متناثرة تفسح للنخل فيها أن تنمو. يا لهذه المبادلات العجيبة بين النجوم والبذور. إنها نجوم تنبع من الأرض. بواطن في الأرض وظواهر في السماء.
بحوالي وقت الضحى، ذهب هارون إلى طرف الصحراء. حيث أن أطراف الصحراء يمكن لعابري السبيل السير فيها أما أواسطها فمغامرة عسيرة على أعتى الرجال دخولها. همّ بتقليب التربة الرملية ليودعها بذور البازلاء فوجد كيساً مترعاً بالنقود. انشده الرجل وصاح: ويْ لك يا هارون! ما هذا؟
لقد نسي أمر بذور البازلاء وسيطر الكيس الذي يطفح بالذهب على رشده. ملّى بصره في الكيس ثم قال وهو يضعه في جيبه: "لن أسرقه ولو سقيت كأس الردى". غذّ السير حيناً وتباطئ طوراً. ثم لمّا أنهكه حر الشمس قصد نخلتين متدانيتين؛ التماساً للظل والهواء المنعش. سوف يستغرب القارئ لو قلت إن ثمة شاباً طاوياً يحمل في قعر جيبه النجوم.
نبأ تاجرٌ إلى قائد الشرطة وكان حاله يصعب على الرائي إليه. قال التاجر: أواه! أواه سيدي!
سأله قائد الشرطة: ما خطبك؟ استرح وأخبرني بمشكلتك.
قال: كنت والقافلة في أرضٍ براح. لقد سقط كيس نقودي وأضعته هناك. ورغم أنني بحثتُ، بعين صقر وصبر جمل، عن كيسي لم أجده. إن القوم كلهم ساعدوني في البحث عن كيس نقودي. لم نجده. وانكبتاه! أواه!
- هذه مشكلة عويصة فعلاً!
- ناشدتك الله يا سيدي! ساعدني.
- سأطلب من المنادي إذاعة قصتك من البرج الذي تُذاع منه أخبار مدينة المِشْمِش، ومن يجد كيس نقودك فعليه بتسليمه إلى مخفر الشرطة.
غَمْغم التاجر المنكوب مُحدِثاً نفسه: العاثر على كيس نقودي لن يأتي إلى مخفر الشرطة، بل سيذهب إلى بيته. لقد قُضيّ علي!
ولم يكد التاجر ينتهي من جملته المستسلمة حتى طرق هارون باب مكتب قائد الشرطة يطلب الإذن بالدخول. ولمّا أُذن له بالدخول، قال وهو منهمك من شدة التعب: سيدي قائد الشرطة، لقد وجدت كيس نقود على الطرف الشرقي من الصحراء.
آنذاك تهلل وجه التاجر بالبِشْر وصاح بسعادة تمتنع عن الوصف: هوذا كيسي! أصفر! يحوط فمه خيط أزهر. هوذا كيسي. شكراً لك يارب!
لم يكن قائد الشرطة أقل تأثراً، إذ طفح وجهه بعلائم الاحترام للشاب الأمين.
- رباه! لقد عادت إليّ ثروتي بأسرع مما تصورت! وأنا الذي كنت أقول قبل لحظات قصار، قُضِيّ علي! –طوق التاجر بذراعه كتف هارون الغضة ناظراً إليه كمن أنقذ حياته لا كيس نقوده.− قل لي يا أيها الشاب الطيب الأمين، كيف أشكرك؟ كيف أكافئك؟
- أنت إذن صاحب كيس النقود؟
- بلى، أنا هو. ولسوف أجازيك على أمانتك.
- كلا، لا أريد شيئاً. وهذا كيس نقودك، رُدّ إليك.
- بل سوف أجازيك خيراً.
قاطعهما قائد الشرطة وسأل هارون: ولكن أخبرني، كيف وجدت كيس نقود هذا التاجر المسكين؟
روى لهما الفتى القصة من أولها وآخرها، وكيف أن المرأة العجوز الطيبة جبرت خاطره وأعطته كيس البقوليات ليأكلها، وكيف داخله ذلك الصوت أن أذهب وازرع بذور البازلاء في الصحراء.
كانا ذاهلين مندهشين: قائد الشرطة والتاجر.
التاجر الطيب وفى بوعده، لقد كافئ هارون. ولكن كيف كافئه؟
جعله بائع أباريق. ولكن هارون شاب أُمّيّ كما سلف منا القول! لم تكن هذه مشكلة بذات بال. لقد عيّن التاجر معلماً لكي يعلم هارون القراءة، والكتابة، والحساب. لتأهيله في مزاولة التجارة، وبيع البضاعة، وتدوين عمليات البيع، وكل صغيرة وكبيرة. وبعد تصرم أسابيع، أجاد الفتى القراءة والكتابة والحساب أحسن إجادة.
أصبح هارون أسعد حالا بعمله الجديد، حتى لأنك ترى الناس ذاهبين إلى دكانه وآيبين من دكانه. فمن قائل: اشتريتُ إبريقاً للماء من الأباريقي. ومن قائل: اشتريتُ إبريقاً للشاي من الأباريقي.
كان هارون يكتسب جمالاً وزينة يوماً بعد يوم. كما قال فيه الشاعر:
قبلته فاسودت المقل التي هي فتنتي واحمرت الوجناتُ
يا قلب إن زعم العواذل أنه في الحسن يوجد مثله قل هاتوا
يا قلب إن زعم العواذل أنه في الحسن يوجد مثله قل هاتوا
انتشرت قصة أمانة هارون في الناس، وعرفوا بأنه عثر على كيس النقود بسبب بذور البازلاء التي أعطته إياه المرأة الطيبة. ولقد وصلت القصة إلى أسماع المرأة نفسها فابتهجت أشد البهجة، وصممت على مقابلة هارون.
- مرحبا يا بني
- أهلاً يا خالة. كيف أساعدكِ؟
- ألم تعرفني؟ −قالت المرأة بابتسامتها الطيبة المشعة بالخير.− أنا صاحبة كيس البقوليات.
ولمّا عرف هارون أنها هي تلك المرأة نفسها خرّ عند قدميها يقبلهما؛ عرفاناً بالجميل وعرفاناً بالخير الذي أصابه بفضلها بعد الله.
كان لدى تلك المرأة الفاضلة بنتاً حسناء تصغر هارون بعام، فتزوجها. فكانت الزوجة نعم الرفيقة لحياته، وكانت أم الزوجة نعم المعوضة لذكرى أمه. فيا لها من قصة تزرع الأمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نقلت فقرة لأبي العلاء المعري من كتابه الفصول والغايات، صفحة 17
*بيتا الشعر مأخوذان من المجلد الثاني من ألف ليلة وليلة من قصة قمر الزمان
التعديل الأخير: