- إنضم
- 21 يونيو 2024
- رقم العضوية
- 14211
- المشاركات
- 410
- مستوى التفاعل
- 3,353
- النقاط
- 444
- أوسمتــي
- 8
- الإقامة
- LETHE
- توناتي
- 7,050
- الجنس
- أنثى
داعبت خيوط الشمس الذهبية ستائر النافذة الخمرية ودخلت متسللة لتنضم لجلسة الشاي التي جمعت بين الدكتورة
النفسية مارغريت وأم مريضتها وصديقة طفولتها أكاسيا.
ارتشفت مارغريت من فنجانها بهدوء بينما بدت ملامح عدم الراحة على وجهها العابس، قرنت حاجبيها بانزعاجٍ والتفت
ناحية باب الغرفة المزخرف المقابل للمجلس، وضعت الفنجان بهدوءٍ وغاصت عيناها الزمرديتين بين زخارف الباب الكبير
لتلتفت لأكاسيا وملامح الاهتمام والقلق تسيطر على وجهها:
لِما لم تخبريني أن حالتها ما تزال متدهورة، أكاسيا؟
أشاحت أكاسيا بوجهها عن مارغريت في محاولة منها لصياغة جوابٍ رزين دون أن تنساب معه كل المشاعر التي كبحتها
طوال العشرة أشهر. أدفأ انعكاس الشمس حدقتيها الزرقاوتين المتجمدتين وأذاب بعضًا من جليدهما ليتجمع عبرات بمقلتيها.
أغمضت عينيها بهدوء لتكتسي ملامحها الحادة رداء الجمود، وضعت فنجانها بهدوءٍ وأرجعت خصلة رمادية تجرأت على كسر
وقار ملامحها وأضفى طابع اللطف والرقة عليه لترد بصوت خافت:
خِفت أن تأخذوها مني وأحرم من الإثنين معًا.
علقت نظراتها بمارغريت بانكسار مكابر وأردفت:
هي كل ما تبقى لي، مارغريت. لا أستطيع تقبل فكرة أنها ان تعود لسابق عهدها كما وتؤلمني فكرة تركها، يكفيني رؤيتها أمامي
حتى وإن لم تعد كما كانت..
قاطعتها مارغريت بصوتٍ حازم:
هذه أنانية منكِ، أكاسيا! ترينها كيف تذبل أمامكِ يومًا بعد يومٍ ولم تفكري في إعتاقها وإراحتها من عذابها حتى؟
ردت أكاسيا مدافعة:
بلى! حاولت كثيرًا، مارغريت، لكنني أحاول حمايتها، لا أحد سيشعر بها ويحميها مثلي، يكفي ما قاسته وهي بعيدة عني.
ارتسمت ابتسامة حزينة على ثغر مارغريت ومالت ناحية صديقة عمرها لتمسك بيدها بين كفيها:
عزيزتي أكاسيا، أتعلمين معنى إسمك؟
التفتت أكاسيا لمارغريت وعلامات الاستغراب بادية على وجهها لتكمل مارغريت بصوت حنون:
أنتِ كتلك الشجرة تمامًا، جميلة وقوية وعنيدة ومرعبة لمن أراد اختراق مساحتك وحدودك، فأشواككِ دائمًا بالمرصاد لمن في نيته
تجاوزت التقدير والعناية ببتلاتك الصفراء، ابنتك هي تلك البتلات الصفراء التي تشهرين عن أشواككِ في وجه كل من نوى الاقتراب منها،
وهذه غريزة كل أم، عزيزتي، لكنك تطرفتِ حتى باتت الأشواك التي يفترض أن تكون سابغات لابنتك سيوفًا تنغرس في أعماقها.
علقت أكاسيا نظرها بذلك الباب المزخرف وأعادت نظرها للمفتاح الموضوع بجانب فنجانها بتردد، سحبت يدها من بين كفي مارغريت بشكل مرتعش وحاولت الإمساك بالمفتاح وتدارك رعشة يدها.
عليكِ أن تتخذي قرارًا، اقتربت ابنتكِ من مرحلة اللاعودة، عندها وإن قرضت أظافر العالم ندمًا فلن تكفري عنه ولن تغفري لنفسك أبدًا.
حملت أكاسيا المفتاح واتجهت نحو الباب المزخرف بخطوات متثاقلة كمن يساق إلى الموت، وقفت أمامه، كانت وكلما مرت بِجانِب غُرفَتِها يصلها صوتُها وهي تغني تهويداتها، نفسُ اللحن ونفس النبرة تُعاد وتكررُ علَى مدى كُل تلكَ الأشهر إلى أن حفِظَتها عن ظهرِ قلب، كأنهَا عالِقة في تِلكَ اللحظات بالضبط، علَى مر الأشهر حَافَظت على نفسِ التسريحة وملأت خِزانَتها بنُسخٍ لنفسِ فستَانِها الذي علقَ على جسدِها من حينِها، هي لن تلبس حذاءها مخافَة أن تمر بجانِب سريره وتوقظه بكعبها، ليستيقظ بقنوطه المعتادِ ويُعلقَ معاتِبًا على إفسادها الدائم لأجمل لحظات نومه وأعذب أحلامه. خطَت خطوة ناحِية الباب محاوِلةً ألا تصدِر أصواتًا مخافَة أن تظُنها هو، لن تستَطيع تحمُّلَ نظرات الانكِسارِ والخيبة عِند رؤيتها بداله، ترددت وهي ممسِكة بمقبضِ البابِ الذهبِي، ارتَعشت أصابعها وهي تحاوِل التربُّصَ بالمِقبَض الذي بات يتلاشَى أمامِها وكأن أفكارها حولَ مَنظَرِها الحزين على سريرهَا تَقوم بتبدِيده، طردَت أفكارِها تلكَ وحاولت رسمَ ابتِسامَة طبيعية على وجهها مخفيةً ارتعاشة شفتاها وحتى تفرِّق الغيومَ المُتكاثِفة بِعينيها، أمسَكَت المقبضَ بعد ترددها الطوِيل وقبلَ أن تُحركَهُ وجدت البابَ قد فُتِح بهدوءٍ لطيفٍ مفرِج عن عبير فواح، غَمَرتها رائِحة الفانِيلا وحمَلت روحِها بين جدرانِ الغرفَة النبِيذية المخملية مُسافِرةً بها للعصُورِ الوُسطَى وكأنها تعيش فِي عصرِ كل قطعَةٍ مِن قطَع أثاثِها العَريق، سَحَرتها الإضاءة الخافِتة وأدخلتها في جوٍّ شاعِري عَميق، علّقتُ نظرها بسقفِها متأمِّلةً الثريا الكريستالِية الهادِئة، وكأنها لا تَملُّ مِن سماعِ قصص القطَعِ الأثرية المنثورةِ بشكلٍ بديعٍ بأرجاءِ الغرفة التارِيخية، عادت لوعيها وهي تسمع صوتًا خافِتًا مِن خلفِ البابِ الخشبِي العَتيق، لتستقبلها الرائحة وتأخذها لعالَمٍ آخر، كأنها بِحفلٍ عربي عرِيق مُعطر ببخور الصندَلِ الفاخِر، ركزَت بنظرِها على ابنتها الواقِفة بتوترٍ متحَاشِيةً تصادُم أعينهما مَخافَة أن تكشف اللهفَة التي انقَلَبت خيبَة بعينيهَا، كانَ الصمتُ سيد الموقِفِ لولا تدخل لحنِ تشيلو صامِتٍ وحزينٍ مِن زاوِية الغرفة، مذهِلةٌ هذهِ الآلة، فحتى في صَمتِها فهِي تعزِفُ على وترِ لحظَتِك وتُخرِجُ شعورَك عذبًا طربًا وإن كان بقلبِك علقَمًا مَريرًا، لمَست بعيناها خشَب القيقَب القاسِي وداعَبَت أوتارَه مُحاوِلة إيصَال رسالَة اسفندانية مُفعَمةً بالشوقِ لقريبَتهِم التي ودعَت موطِنها وعانَقَت أوتَار التشيلو بحُب وهيام، أيعقَل أن يتحَول المرء لشيءٍ يُخالِفُ أصلهُ وطبيعَته فِي سبيل الحب؟ الحب؟ التفتت مجددا للواقِفةِ خلف البابِ مطَأطأَة الرأسِ، أصدرَت صوتًا بالكَادِ يسمعُ محاوِلةً إلقاءَ التحيَّة وإخفاءِ ارتِعاشَة صوتِها، بدت كمن يجهِز خطابًا لا كلمَة ترحِيبٍ عادِية، دَاهَمَت شِبهُ ابتِسامَة ثغر أكاسيا واجتاحَتها رغبَة عَارِمة في احتِضانِها وجعلِها تذرِف كلَّ آلامِها خارِج قلبِها البريءِ، هِي لا تستَحق هذا الأمر، لا أحَد يستَحق أن يتأذى بفقدان من يحبهم، حتى الأشخاصُ السيئين لا يَستحِقون أن يحرموا ممن أحبوا فمَا بالُك بشخصٍ بريء مثلِها؟ هي لا تستحِق الانطِفاء، ولِدت لتُشرِقَ فقَط..
ردت أكاسيا التحيةَ بسرعَة والتفتت عائِدةً أدراجها مخافة أن تخونها عبراتها التي أُرهِقت وهي تكبَحها لتلمَح شبَح ابتِسامَةٍ على ثغرِها المرتعِش، وإن كان مبللا بدموعِها، فعلى الأقل ابتَسَمَت.
أخبرتكِ ألا تدخلي بحذائِك، أمي.
اعتصر قلب أكاسيا وأطلقت صرخة ألم وجرت ناحية ابنتها لتعانقها بقوة وتنخرط في بكاء مرير، بادلتها ابنتها العناق ومسحت على شعرها الرمادي الناعم بحنان وانهمرت دموعها مع شبح ابتسامة على ثغرها
لا عليكِ، لا تبكي أمي، لم توقظي ليون اطمئني.
زاد صراخ أكاسيا وخرت جاثية على ركبتيها معانقة ساقي ابنتها في بكاء أليم لتنطق باختناق
سامحيني.. سيلا.. سامحيني على أنانيتي.. أخطأت يا صغيرتي.. اغفري لي أرجوك اغفري لي
نزلت سيلا عند أمها ومسحت الدموع عن وجنتيها وابتسمت بذبول وهي ترتب شعر أمها لتعانقها وتمسح على رأسها بهدوء
كلما عانقت ليون هكذا يهدأ ويوقف بكاءه، ستتحسنين أنتِ كذلك، لا عليكِ، ستصبحين بخير عزيزتي.
دخلت مارغريت الغرفة بعدما رأت المشهد وأسرعت تمسك أكاسيا وتوقفها على قدميها لتجلسها على الكنبة بينما هرولت سيلا نحو مهد طفلها مخافة أن يقتربا منه او يأخذانه منها
لقد دمرت ابنتي يا مارغريت، ضاعت ابنتي لا فرق بيني وبينها هي تسجن نفسها مع ذكرى طفلها وأنا أسجن نفسي وأسجنها مع ذكرى ابنتي قبل وفاة طفلها.
آه يا أكاسيا، القرار بين يديك يا عزيزتي.
التفتت بعينين محمرتين نحو ابنتها التي تغني تهويدة أمام مهد طفلها تارة وتداعب الوسادة تارة أخرى.
قطع تأملها دخول الخادمة مع صينية تقديم عليها أطباق وكأس به عصير.
موعد غداء السيدة سيلا والسيد ليون.
توسعت عينا أكاسيا وهي تستوعب مدى خطورة ما أغرقت ابنتها فيه، فهي قد غيرت قوانين البيت بسائره وأمرت بحذف اللحظة التي أخبروا فيها بموت ليون، حتى الخدم يتصرفون على أساس أنه شخص موجود بينهم ويعتنون به كأنه حي.
نظرت بعينين متوسعتين نحو مارغريت التي تحاول كبح نظرات اللوم لها، فما قامت به أكاسيا ليس شيئًا بسيطًا لتربت عليها وتقول لها أن كل شيء سيكون بخير.
حملت نفسها بتثاقل وصوت طنين يحجب عنها كل ما حولها واتجهت بتعثر نحو الهاتف لتكتب رقمًا بتردد كأنه صراع بين قلبها وعقلها وضحيته أناملها التي تعتصر على شاشة الهاتف ليوقفها صوت ابنتها المتحشرج:
نم يا صغيري الآن نم
عن بيتنا غاب الألم
إن يسألوا عنا نقل
الآن عصفوري استحم
نم يا حبيبي، الآن نم
الآن ليس هناك وداع
إن رحلت لحقتك دون متاع
حياتي ظلام وأنت نور
ولا حياة في الظلام
سأتبع نوري دون وداع
نم يا حبيبي، الآن نم
أكملت كتابة الرقم بعينين دامعتين ليصلها صوت الطرف الثاني:
مرحبًا بكم، مستشفى مودسلي قسم الأمراض العقلية والصحية، نستمع لحالتكم.
التعديل الأخير: