أضحت أصوات الصواريخ والرشاشات جزءًا منا،
وإن فررنا بعيدًا، توقظنا الأصوات حتى في يقظتنا وإن ابتعدنا عن حدود الوطن،
الوطن؟ كلمة حُرمنا من عيش معناها وفُطِمنا عن تذوقها من قبل أن نولد حتى.
إن كان الوطن بالنسبة لكَ الملاذ الآمن فنحن نفر منه باحثين عن مأوى يقيتا بطش حربه
وينجينا فتكَ أسلحته. لفظتنا أمواج البحر كأننا علقمٌ بأحشائه،
لم يشدني إلا المتصنمة وسط البحر كأنها عمود منسي بحي مهجور.
أعَادتها الموجَة البَاردَةُ التي اصطَدَمَت بقدَميها لأرضِ الواقِع ونبهتهَا أن موعِد المَدِّ قد حان
وكأنها تسأَلهَا : "
أَولَم تَستَسلمي للحَقيقَة بعد؟"
-
أَنا أم..
ردّت بارتِجافٍ وهوَان وكأنها تُخاطب المَوجة،
لَسَعتها ريحٌ بَاردةٌ وما أنِ ارتَطمَت بجِسمِهَا الذِي يغلِي كبُركانٍ نشِط تبَخرَت وتَلاشَت.
عَادَتِ الموجَةُ مِن جدِيدٍ لكِنها لم تأتِي فَارِغةَ الوِفاضِ هذه المرة، حَمَلَت مَعها وِشَاحاً وردِياً مُزركَشًا
بشَكلٍ طُفولِي بَهيج، وِشاحٌ تَعرِفه أَشَد المَعرِفة، عُقدَة عُقدَة، فهِي التِي حاكَته بأنَامِلهَا المُنهكة لصَغِيرتِها
ذاتِ العَشرِ سنَوات، جَرَت ناحِيتَه وهِي تتعَثّر فِي جَزعِها مَخافَة أَن يَلتَهِمَه البَحرُ مِن جَديد.
جَثَت علَى ركبَتيها بانكِسارٍ وحَمَلت الوِشَاح وهِي تَعصِرُهُ وتَشُمّه آمِلةً أن تَعثُر علَى رائِحةِ صغِيرتِها عَالِقَةً
بينَ خُيوطِه المُبتلّةِ المَالِحة.
انطَلقَت مِنها صرخَةٌ كَادَت تُذهِبُ روحَهَا معَها وبدَأت تَخدِشُ وَجهَهَا وتَنتِفُ شَعرها بهستِيريا ألِيمة مُنكسِرة:
-
لَم نكُن نُريدُ سِوى أن نَعِيش بِسلام... أَن تستيقِظَ صغِيرَتي عَلى أصوَاتِ العصَافيرِ لا القَنابِل... أردتُها أن تستَنشِقَ
عَبيرَ الزهورِ لا رائِحة المَوتِ والبَارود.. أرَدتُ لهَا ذِكريَات مُزركَشَة وتَهويذات نومٍ سَعيدَة ، كَانَ حُلمُنا صَغيراً جِداً
وأَبسَطَ مِن أن يَتَحقّق، لَم نَطلُب شيئاً مُستَحيلاً فَقط أرَدنا "وَطَنًا" ، وإن كَان غُرفَةً مُهترِئة بِحي صفِيحي كئِيب،
فقد كانَ سيكونُ وَطننا ومَلاذَنا.. وإِن جُعنَا كُنا سَنكونُ سُعداء..
أردت لابنتي أن تعيش طفولتها حبًّا لا حربًا..
ارتَسَمَت شِبه ابتِسامَةٍ باهِتَة عَلى ثَغرِها وسرعان ما اختفَت لتُكمِل بارتِجاف
-
... المُهِم أننا معاً وبأَمان يا صغِيرتِي..
أَمسَكَت رأسهَا بألَمٍ مِن الصُداعِ المهوِلِ الذي اجتَاحها وخَنقَتها غُصّةٌ مَريرَة وهِي تَسمعُ نِداءات رِجال الإنقاذِ المُتكَررة لَها.
حَاوَلَت الوقُوف ومُواجَهَة ارتِجافَها والدوار لكِن خَانَتها قدَماها ولَم تَستطِع الوقُوف لأكثرَ مِن ثَوانِي مَعدودَات.
تَوَجهت ناحيتهم وهي تزحَف وشفتاها ترتجفان وقَد اختفت الدماء مِن سائِر وَجهها.
-
We are deeply sorry for your loss, your daughter...
صوت طَنينٍ مُرعبٍ اكتَسح مَسامِعَها، بَصَرُها شَاخص ومَعِدَتُها فِي تقَلُّص مستَمِر... استفرَغَت إلى أَن جُرِح حَلقُها وغَرِقت
فِي دِمائِه لِتدخُلَ في صدمَة عَنِيفة وتَفقِد إحسَاسَها بالعَالم الخَارِجِي نِهائِيا، حَاوَل المُسعِفون إنقَاذها وإخرَاجها مِن حالتِها
تِلك لكِن دونَما جَدوى.
أُخِذَت الأُم لأقربِ مُستشفَى في انتظَارِ إعادَتِها لبَلدِها الذي أَتت مِنه بينَما أُعطِيت الأوَامِر بأن تُدفن الطِفلة وباقِي جُثثِ الغرقَى
بمَقبَرة اللاجِئين والمُهاجِرين السريين.
تفككتِ الجموعُ وعادَ السكونُ يعمُّ المَكان لم يَظَلّ بالشاطِئ سِوى الوِشاح الوردِي وهو يتَراقَصُ على أنغَامِ أحلامٍ لَم يُكتَب لهَا يوماً
أن تتَحقق، لتختَطِفه موجَة قَاسِية ويُبتَلع بغَياهِب البحرِ وتُبتَلع مَعهُ تهوِيذاتُ أم حزِينَة وقَهقَهاتُ طِفلَةٍ لم تُجَرب يوماً معنَى أن
وأن القُوة الحقِيقية كانَت عِند مَن يلتَفُّون عِند الرحيل لا مَن يهابونَ الالتِفات.
أم أن فكرَة المُجازفة والتضحِية بالحياةِ ما كانت إلا جزءًا من خططِ الضفّةِ الأولى نفسِها؟