تابعت عن كثب تلك الهجمات الشرسة التي نالت من المعتمرين في رمضان وبالأخص في العشر الأواخر، والذين نُعتوا بأشنع الألفاظ وأحطّ الصفات، فقيل لو ذهبوا للجهاد لكان خيرًا لهم، وقيل هم يلعبون ولا يتعبّدون! بل وقيل أن عبادتهم مردودةٌ عليهم!
وقد تفحّصت الآراء -إن صحّ اعتبارها كذلك- هنا وهناك فوجدت فيهم العامة الجُهّال الذي يركبون الموجات تباعًا، تِبعًا "للترند" الشائع ويبدون آرائهم بكل شجاعةٍ وثقة، وهمُ الذين لا يحوزون الأبجديات البديهية في أي علمٍ من علوم الدنيا، فكيف بعلوم الدين؛ ومنهم المحسوبون من أهل الصلاح والفلاح، أصحاب الفكر والعقل، وهؤلاء وإن كان بعضهم ذهب في اجتهاده إلى أولوية إخراج المال لأهل فلسطين بدلًا من الإعتمار، إلّا أنهم في حقيقة الأمر لم يتهموا إخوانهم الذين يخالفونهم في نيّاتهم، ولم يُبطلوا عبادتهم العظيمة بجرة قلمٍ على منشورٍ "فيسبوكي".
إن الأغبياء الجالسين خلف شاشات الهاتف، الآكلين للحوم إخوانهم بغيبتهم ونميمتهم، المتصرفين وكأنهم ملائكةٌ مكلّفون بالإطلاع وتسجيل أعمال العباد، كبيرها وصغيرها، المطّلعين على نيّات الخلق، وما النيّات إلا شأنٌ لربّ الخلق، لا علم لمخلوقٍ بها سواه؛ إن هذه الفئة الركيكة الطاغية داخل أوساط المجتمع عادةٌ ما تكون فئةً كسولة، سطحية الفكر، جاهلةً شحيحة، لم تمد يد العون للمجاهدين بمالهم، ولا بدعائهم، أساتذة في فن التثبيط، يسخرون من المقاطعين، ويضحكون على المتظاهرين، يعبدون الحاكم، ويمجّدون إنجازاته مهما كنت تافهةً لا تُرى؛ ولا عجب أن تجد أحدهم ينتقد رواد البيت الحرام وهو يحتسي "النسكافيه" ويرتدي قميص "أديداس" ويدهن شعره بكريم "نيفيا" للرجال، أو عفوًا للذكور، وهؤلاء لا يَحسُن بعاقلٍ أن يُلقي بالًا لترهاتهم، ولا أن يَهُمّ قلبه بما قالوا أو كتبوا.
إن من المعتمرين من يعتمر وفلسطين لا تغيب قطّ عن دعائه، ويده لا تقصُر عن نصرتهم بالمال وهو في خِضم أداءه لمناسك العمرة، يدعو ويبكي ويرجو ويستنصر اللّه لهم، ومنهم من يُمدّ المجاهدين بالمال منذ بداية المعركة، ويسندهم بالمقاطعة، ويدعمهم بالتعريف بقضيتهم وترغيب الناس بالنفير لأجلهم.
أما مسألة الجهاد، فأي جهادٌ تتكلمون عنه؟! فعندكم نساءُ تعتمرن، أتسألونهن الجهاد؟ وفيهم رجالٌ من بلادٍ يسوسها حكامٌ أنجاسٌ عملاء، لو تحرك فردٌ منهم ينادي بالجهاد لوُجهت نحوه كل أجهزة الأمن بمختلف مسمياتها، بعتادها وسلاحها المستورد من الغرب. قال سيد قطب رحمه اللّه في هذا الشأن [ إن هذه الجيوش العربية التي ترونها ليست للدفاع عن الإسلام والمسلمين، إنما هي لقتلكم ولن تطلق طلقةً واحدة على الصهاينة ] والشاهد خير دليل.
وأما عن رأيي في كل هذا فدونكم إياه:
من لم يعتمر أو يحج من قبل فله أن يذهب للبيت الحرام ويؤدي فريضة الحج أو مناسك العمرة ونسأل اللّه له التمام والقبول، ومن ذهب قبل ذلك ويريد التكرار فأقول إن المسلمين المستضعفين أولى بماله من عبادة الحج أو العمرة، وتعبّده بإهدائهم ماله أعظم -واللّه أعلم- من تعبّده هناك، وأيًّا كان اختياره فهو خيرٌ له إن شاء اللّه، يُجازى به والله لا يضيع أجر المحسنين، وأما نسف أعمال الخلق، واتهامهم في نيّاتهم، وإبطال أعمالهم فواللّه لا يصدر إلّا من جاهلٍ أحمق. عافانا اللّه.
وأخيرًا فإن الأزمات والفتن والمقتلات العظيمة التي حصلت خلال تاريخ المسلمين الطويل لم تمنع أسلافنا آنذاك من أداء فريضة الحج ومناسك العمرة، وقد أحسنوا بأن أدوهُما وذادوا في نفس الوقت عن الإسلام والمسلمين، كلٌ بما استطاع، وكلٌ بما اقتدر عليه.
تقبّل اللّه من المعتمرين عمرتهم، ومن الحُجّاج حَجّتهم، ونصر اللّه المجاهدين المؤمنين، وأعزّ المستضعفين الصابرين.