عادت رينا وأسامة وراشيل إلى بلدتهم الصغيرة في الأرياف، حيث نشأوا وكبروا. بلدة هادئة، يلفّها الصمت وعبق التاريخ، لكن سكانها يمتلكون نوعًا من الغرابة التي تجعلهم أقرب إلى الأساطير منهم إلى البشر العاديين، فهم لا يرحبون بالغريب بسهولة، وينظرون إليه بفضول وحذر في آنٍ واحد، كأنهم يحاولون قراءة ما تخفيه الأرواح قبل أن تلوح به الأجساد.
عاد الأصدقاء الثلاثة في إجازة قصيرة قبل أن يعودوا إلى جامعتهم في المدينة الكبرى لتقديم مشروع تخرجهم، الذي يمثل تتويجًا لسنوات طويلة من الصداقة والأحلام المشتركة.
كان المساء يتسلل ببطء، يلوّن السماء بظلال البرتقالي والأحمر القاني، بينما تجلس رينا بين صديقيها أسامة وراشيل على ضفة النهر. كان النهر ينساب بهدوء، يداعبه نسيم الخريف البارد الذي كان يحمل معه رائحة الأوراق المتساقطة ورطوبة الأرض.
أوراق الشجر الصفراء والحمراء، وقد جفّت من رحيق الصيف، تتراقص على وجه الماء كأنها قوارب ورقية صغيرة في رحلة أخيرة قبل أن تستقر في أعماق النهر.
كانت رينا، ذات العينين البنفسجيتين النادرتين والشعر البني المنسدل على ظهرها، تجلس بينهما وكأنها محور الكون.
عيناها اللتان تلمعان بالذكاء والنقاء، كانت تلاحقان حركة الماء المتلألئ بضوء الغروب، بينما كانت غرتها الأمامية الطويلة تزيد من جمال وجهها الرقيق.
التفتت رينا إلى أسامة، الذي يرتدي قميصًا داكنًا يظهر قوامه الممشوق، ووجهه الذي يتسم بملامح حادة وعينين عسليتين غامقتين.
كانت نظرته ثابتة على الأفق البعيد، وشعره الأسود كظلمة الليل يداعبه الهواء. كان أسامة يمتلك شخصية قوية، يظهرها في كل حركة من حركاته، وتترجمها عينيه عندما يتعلق الأمر بحماية من يحب.
ثم نظرت إلى راشيل الجالس على الجهة الأخرى، صاحب الابتسامة المريحة التي لا تفارق وجهه. كان يمتلك عينين زرقاوين وشعرًا أشقر، كأنهما يختزنان في داخلهما نور الشمس.
ابتسامته تبعث الدفء والأمان، لكن وراء هذا الهدوء كان يكمن ذكاء حاد وثقة لا حدود لها، تظهر في لمعة عينيه عندما يركّز على فكرة ما.
كانت علاقتهم الثلاثة مبنية على عهد لم يُكتب على ورق، بل نُقش في قلوبهم منذ أيام الدراسة الابتدائية، عهدٌ بأن يبقوا معًا، وأن يعملوا معًا، وأن يبنوا مشروعهم الخاص بعد التخرج.
قال راشيل بنبرة هادئة تملأها السعادة:
"هل تصدّقون؟ بعد كل هذه السنوات، أخيرًا حان الوقت لنبدأ معًا... لمشروعنا الخاص".
أومأ أسامة برأسه ووجهه يرتسم عليه تعبير جاد:
"أجل، لقد حلمنا بهذا طويلاً.
مشروع التخرج هو البداية الحقيقية."
ابتسمت رينا ابتسامة واسعة، ولفّت ذراعها حول كتف أسامة، ويدها الأخرى على كتف راشيل، كأنها تضمّهم إليها. "لا أطيق الانتظار! سيكون مشروعنا أفضل مشروع في تاريخ الجامعة.
سنعمل عليه ليل نهار حتى ينجح."
قال أسامة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة "أثق بكم.
أعلم أننا سننجح معًا."
أضاف راشيل بحماس: "بالتأكيد، لا شيء سيقف في طريقنا. فكرة المشروع التي اقترحناها ستكون ثورة في مجالنا!"
كانت هذه الأحاديث تملأ الجو بالود والتفاؤل، وتظهر مدى عمق العلاقة التي تجمعهم. لم يكن الأمر مجرد حلم طفولي، بل كان وعدًا راسخًا وثقة مطلقة في قدراتهم.
الثقة تتجسد في نظراتهم المتبادلة، وفي ضحكاتهم التي كانت تملأ المكان.
في وقت لاحق من تلك الليلة، كانت رينا في بيتها الصغير، الذي يملؤه الهدوء بعد أن ودّعت صديقيها.
الجو في الداخل دافئًا، لكن معدتها كانت تئن من الجوع.
الساعة الثانية فجرًا، وهي تعلم أن الأكل في هذا الوقت ليس فكرة جيدة، لكن الجوع كان قد تمكّن منها. بدأت تقلي بعض الطعام، وصوت القلي الهادئ كان يكسر صمت الليل.
فجأة، انتبهت إلى صوت غريب.
طرقة خفيفة على الباب، ثلاث دقات واضحة ومميزة. تجمدت في مكانها للحظة، ثم تقدمت بحذر نحو الباب.
نظرت عبر العين السحرية، لكنها لم ترَ أحدًا. لم يكن هناك أحد على عتبة الباب، فقط الظلام وصمت الشارع. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، فمن الذي سيدق الباب في هذا الوقت ثم يختفي؟
فتحت الباب ببطء، ولم تزل السلسلة الحديدية معلقة لتأمين الباب. دفعت الباب قليلاً، ثمّ دارت عينيها في الظلام تبحث عن أي أثر، لكن بلا جدوى.
همست لنفسها: "غريب!"
قبل أن تغلق الباب، لاحظت شيئًا صغيرًا على الأرض، أمام العتبة مباشرةً.
ظرفٌ أبيض أنيق، وُضع بعناية فائقة، وفوقه وردة حمراء زاهية. مدّت يدها، وارتجفت أصابعها قليلاً وهي تلتقط الظرف.
كان مكتوبًا عليه: "إلى رينا"
بحروف مطبوعة بالكمبيوتر، خالية من أي توقيع بشري.
شعرت رينا ببعض الريبة، ونظرت مرة أخرى في الظلام. أغلقت الباب بسرعة، وعادت إلى الداخل وهي تحمل الظرف بين يديها.
جلست على كرسي في غرفة المعيشة أمام النافذة المفتوحة قليلاً، وفتحت الظرف.
بداخله، كانت هناك ورقة أخرى، مكتوب عليها بخط الحاسوب أيضًا:
"مرحبًا عزيزتي رينا،
صحيح أننا نسكن في البلدة نفسها، لكنني أردت إخبارك بشيء في غاية الأهمية.
أرغب بلقائك غدًا عند مدخل قصر روزولت في البلدة المجاورة.
لقد عثرت على ذلك الشيء الذي كنا نبحث عنه منذ فترة طويلة."
تجمدت رينا في مكانها.
اتسعت عيناها بدهشة، كأنها لم تصدق ما تقرأه. تلك الجملة، "ذلك الشيء الذي كنا نبحث عنه"، أثارت في ذهنها ذكريات بعيدة لم تكن تتوقع أن تعود إلى الواجهة الآن.
"سألقاك هناك عند غروب الشمس.
سأكون مشغولًا قبل ذلك، ولن أتواجد في منزلي. لا تأتي لرؤيتي."
شعرت رينا بالارتباك، وكأن كل ما حولها أصبح غريبًا. قصر روزولت؟ لم تسمع بهذا الاسم من قبل. ولماذا لا يريد أسامة أن تراه في منزله؟ هذه النبرة الجافة، وكأنها أمر وليس طلبًا، لم تكن تشبه أسامة الذي تعرفه.
نهضت رينا من كرسيها، وتوجهت إلى المطبخ لتطفئ الموقد.
وضعت الرسالة على الطاولة بجانب هاتفها، ثم عادت لتجلس أمام النافذة المفتوحة، تتأمل الرسالة وعلامات الاستفهام تحيط بعقلها.
امتدت يدها إلى الهاتف، وأدخلت رقمًا تعرفه جيدًا. انتظرت للحظة، لكن الرد كان
"الرقم المطلوب خارج نطاق التغطية، الرجاء المحاولة لاحقًا".
أمسكت رينا بهاتفها بقوة، ثم تمتمت بصوت خفيض: "ما الذي يحدث يا أسامة؟"
فجأة، شعرت بظل يتحرك خارج النافذة.
ظلٌ خافت يتسلل في الظلام، يمرّ بسرعة أمامها. شهقت بخوف، وفتحت النافذة على الفور. وبشكل لا إرادي، صرخت باسمه: "أسامة؟"
لم يكن هناك أحد، فقط هدوء الليل ونسيمه البارد. تنهدت رينا بعمق، وأغلقت النافذة، لكن قلبها كان لا يزال يخفق بشدة.
في صباح اليوم التالي، استيقظت رينا في تمام التاسعة صباحًا، بعد ليلة لم يغمض لها فيها جفن. كان التعب بادياً على وجهها، فعيناها البنفسجيتان كانتا محاطتين بهالات سوداء، وأثر الأرق كان واضحًا في ارتعاشة خفيفة في يديها.
لم تستطع تحمل المزيد من الانتظار، ففي عقلها كانت جملة واحدة تتردد بلا توقف:
"عثرت على ذلك الشيء الذي كنا نبحث عنه".
على الرغم من أن أسامة طلب منها صراحةً ألا تذهب إلى منزله، إلا أن فضولها وقلقها كانا أقوى من أي تعليمات.
أسرعت رينا إلى دراجتها الهوائية، وقادتها في شوارع البلدة الهادئة. كان منزل أسامة يبعد ربع ساعة فقط، لكن الطريق بدا أطول في ظل صمت البلدة الغريب.
وصلت إلى منزله، وتوقفت أمام الباب، ثم رفعت يدها لتدقّ عليه.
طرقت مرة، اثنتين، ثلاثًا...
لكن لا رد. استمرت في الطرق بقوة، وكأنها تأمل أن يفتح أسامة الباب في لحظة ما، حتى وإن كان متأكدة من عدم وجوده. كانت يداها قد احمرّتا من شدة الطرق، لكنها لم تتوقف إلا عندما شعرت بالإحباط.
تراجعت ببطء، وشعرت بأن أعصابها تكاد تتلف. أخرجت هاتفها واتصلت به، لكن الصوت نفسه أجابها: "الرقم المطلوب خارج نطاق التغطية..."
تنهدت رينا بانزعاج، فمزيج القلق والارتباك جعلها في حالة لم تعتد عليها.
عادة ما تكون هادئة، لكن هذه الرسالة الغامضة، واختفاء أسامة، كانا كفيلين بزعزعة ثباتها.
فجأة، خطر ببالها راشيل. منزله قريب.
اتصلت به وهي على دراجتها، لكن نفس الرد جاءها، "خارج نطاق التغطية".
في تلك اللحظة، رفعت رينا عينيها عن هاتفها وألقت نظرة على الطريق حولها.
الهدوء كان غريبًا جدًا. لا أحد في الشارع. لا يوجد أثر للعم طارق المزارع الذي كان يحرث أرضه كل صباح، ولا صوت صراخ جارتها روجين وزوجها نبيل الذي اعتادت عليه وكأنه جزء من روتينها اليومي.
كانت واثقة أنهما سيتطلقان يوماً ما .. لكنهم لم يفعلا للآن.
حتى العجوز الذي كان يجلس أمام بستان العم طارق، والذي كان يتبادل معه الأحاديث ويروي له حكاياته عن زوجته الراحلة وأبنائه المسافرين، لم يكن موجودًا.
المدرسة الابتدائية، التي درست فيها مع أسامة وراشيل، كانت خالية من أصوات التلاميذ والضحكات التي كانت تملأ المكان عادة. كانت البلدة بأكملها قد أفرغت من أهلها.
لم تنتبه رينا لهذا الأمر إلا عندما وصلت إلى عتبة باب راشيل. شعرت بقشعريرة تسري في عمودها الفقري، لكنها تجاهلتها ودقت الباب مرة أخرى. لم يستجب أحد.
طرقت بقوة أكبر، وفجأة، انفتح الباب وظهرت "جينيل"، والدة راشيل.
كانت جينيل امرأة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، لكنها كانت لا تزال تحتفظ بجمال أخّاذ. شعرها الأشقر كان ينسدل على كتفيها كشلال ذهبي، وعيناها الزرقاوان كانتا تشعان ببريق ناعم. كانت هناك شامة مميزة على جانب فمها، تزيدها سحرًا وجاذبية. لا شك أن راشيل قد ورث منها الكثير من وسامته. ابتسمت جينيل ابتسامة عريضة بمجرد أن رأت رينا، وقالت بصوت دافئ: "رينا العزيزة! لم أركِ منذ زمن! تفضلي بالدخول!"
بادلتها رينا الابتسامة وقالت "أهلاً بكِ عمتي، سررتُ بلقائكِ أيضًا بعد طول غياب."
لكن ملامح جينيل تغيرت فجأة، وانحنى حاجبها بتعجب وهي تتمتم "عمتي؟"
ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة، "ناديني باسمي يا عزيزتي، فأنا لست عجوزًا!"
ضحكت رينا، "لم تتغيري قط يا جينيل."
دخلت رينا إلى المنزل، وشعرت بسعادة حقيقية لرؤيتها، فجينيل كانت لها بمنزلة الأم. كانت ذكريات الماضي تتدفق إلى عقلها، وتذكرت اللحظات الصعبة التي مرت بها عندما اختفى والداها فجأة في تلك البلدة الغريبة التي اعتادت على حوادث الاختفاء والموت الغامضة.
عندما كان عمرها ثماني سنوات، في تلك الليلة الماطرة، استضافتها جينيل في منزلها، واعتنت بها، وحاولت التخفيف عنها. لكن رينا لم تبكِ. ظلت تحدق في الفراغ بعينيها البنفسجيتين، اللتين لم تبدوان كعيني طفل، بل كعيني شخص بالغ أثقلته الهموم وملّ من الحياة.
في تلك الليلة، ذهبت جينيل إلى المطبخ لتعد العشاء، بينما جلس راشيل بهدوء وصمت بجانب رينا.
كان راشيل طفلًا ذكيًا جدًا، وهو الأول على فصله. في تلك اللحظة، وضع يده الصغيرة على رأسها، ثم احتضنها، وهمس في أذنها بصوت حنون:
"أعدك بأنني سأكون معك دائمًا. لن أجعلكِ تشعرين بالحزن كلما أرقك شيء ما. سأكون دائمًا هنا."
توقفت ابتسامته للحظة، وتغير تعبير وجهه إلى ملامح أكثر جدية، كأنه لم يعد الطفل الذي تعرفه. كانت ملامح وجهه تلك المرة تبدو أقوى وأكثر ثقة، وهمس مرة أخرى:
"بالتأكيد ستجدينني دائمًا هنا.
لن أدعكِ تشعرين بذلك مجددًا."
كانت هذه الذكرى هي ما دفعها للقدوم إلى راشيل. أرادت أن ترى ابتسامته التي تبعث في قلبها الطمأنينة.
استيقظت رينا من ذكرياتها فجأة، وتذكرت سبب قدومها.
سألت جينيل، التي كانت منهمكة في إعداد الشاي في المطبخ: "جينيل، أين راشيل؟"
نظرت جينيل إلى رينا بدهشة:
"أخبرني أنه سيذهب للعمل."
قالت رينا بتعجب: "يعمل؟ على ماذا؟ وأين؟"
أجابت جينيل وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:
"لا أدري في الحقيقة، لم يخبرني.
ظننت أنه ذهب ليلتقي بكِ وبأسامة للعمل على المشروع، لكن وجودكِ هنا الآن غريب. سأتصل به."
بينما كانت جينيل تتصل، أخبرتها رينا أنها حاولت الاتصال بأسامة وراشيل، لكنهما كانا خارج نطاق التغطية.
سمعت جينيل نفس الرد على هاتفها، تنهدت، ثم قالت:
"أجل، التغطية سيئة جدًا هذه الأيام في البلدة. لكن لا تقلقي، إنه يعود في المساء عادةً. ما رأيكِ بقضاء بعض الوقت معي؟"
وافقت رينا بابتسامة، لكن ملامح القلق لم تفارق وجهها.
سألت جينيل وهي تحاول إخفاء توترها: "جينيل، هل تعرفين قصر روزولت في البلدة المجاورة؟ لم أسمع عنه من قبل."
تغيرت ملامح وجه جينيل فجأة. انخفض صوتها، وبدت على وجهها نظرة قلق عميق.
"البلدة المجاورة مهجورة يا عزيزتي، وقصرها الذي يحمل اسمها، قصر روزولت، هو مكان قديم ومهجور أيضًا.
لا يمكن الوصول إليه إلا عبر طريق واحد محاط بغابة كثيفة ومخيفة. كل من ذهب إلى هناك لم يعد... والذين عادوا، عادوا نصف مجانين."
تغيرت نبرة صوتها مرة أخرى، وعادت ابتسامتها التي لا تخلو من القلق: "ولماذا تسألين يا عزيزتي؟"
قالت رينا بسرعة، وهي تحاول أن تبدو طبيعية قدر الإمكان:
"فقط أسأل... سمعت عنه من بعض الأشخاص."
لم تجرؤ رينا على إخبارها بالرسالة، أو بالبحث الذي كانت تقوم به مع أسامة.
استوعبت رينا ما قالته جينيل، وتساءلت في نفسها عن سر هذه الغابة وما الذي يختفي فيها، لكنها لم تستطع أن تسأل. بعد أن رأت رد فعل جينيل، شعرت بأن هناك ما هو أكثر مما تبوح به الكلمات، وأن السكوت أفضل في هذه اللحظة.
بعد مرور ساعات قليلة، وحين بدأ النهار يميل نحو العصر، غادرت رينا منزلها. كانت قد ارتدت ملابس مناسبة للسفر، وأعدّت حقيبة صغيرة وضعت فيها بعض الحاجيات، وهاتفها المحمول.
كان عليها أن تذهب، فالأمر أصبح أكثر من مجرد فضول، بل أصبح حاجة لفهم ما يجري.
في طريقها، صادفت العم طارق. كانت عيناه الشاحبتان تحدقان فيها وكأنه كان ينتظرها تحديدًا. لم يلوّح لها بيده كعادته، ولم يبتسم تلك الابتسامة الدافئة التي تعرفها. كانت ملامح وجهه خالية من أي تعبير، وشحوب غير طبيعي يكسو بشرته.
شعرت رينا بارتباك شديد، ومرت ببالها الأسئلة: "لماذا لم يبدأ بالحراثة اليوم؟ ولماذا هذا الصمت الغريب؟"
توقفت رينا بجانب دراجتها عندما اقتربت منه، وابتلعت ريقها بصعوبة. "عم طارق... هل يمكن أن تخبرني كم يبعد الطريق إلى قصر روزولت بالسيارة؟ وما هو الطريق المؤدي إليه؟"
سألت بصوت منخفض يكاد يكون همسًا، كأنها تخشى أن يزعج سؤلها هدوء المكان.
أجابها العم طارق بصوت هادئ، مجرّد من أي انفعال:
"يوم كامل بالسيارة، وطريق واحد فقط يؤدي إليه."
وأشار لها نحو الطريق. لم يضف أي كلمة أخرى. أعطت رينا نفسها بضع لحظات لتستوعب ما قاله، ثم شكرته وعادت إلى منزلها، تاركةً إياه يحدّق في الأفق بصمت غريب ومخيف.
ركبت رينا سيارتها، وسارت بها على الطريق الممهّد. كانت تتأمل كل ما حدث في الساعات الماضية: الرسالة الغريبة، هدوء البلدة المفاجئ، رد فعل جينيل، والآن العم طارق.
كل شيء كان مختلفًا، وكأنها لم تعد تعرف المكان الذي عاشت فيه طوال حياتها.
مرت ساعتان، والطريق لا يزال طويلًا.
شعرت رينا أن المسافة أطول بكثير مما كانت تتوقعه. بدأت الغابة الكثيفة تظهر على جانبي الطريق. كما قالت جينيل، الطريق لا يدخل في الغابة، بل يمرّ على حافتها، لكن الأشجار كانت متشابكة وكثيفة، وكأنها تبتلع كل ضوء.
فجأة، انتبهت لشيء ما.
كان هناك ظل أسود،
مختبئًا خلف جذع شجرة ضخم، يحدق بها بصمت. أغمضت عينيها بسرعة،
ثم فتحتهما، لكن الظل كان قد اختفى.
"هل كنت أتخيل؟"
تمتمت لنفسها، وهي تزيد من سرعة سيارتها.
مع غروب الشمس، وصلت رينا إلى نهاية الطريق. كان أمامها جبلاً صخريًا، يعلوه قصر قديم.
أوقفت سيارتها، وأخذت حقيبتها، ثم بدأت في صعود الجبل سيرًا على الأقدام.
كان الصعود متعبًا،
ولكن كلما ارتفعت، بدأت ملامح القصر تظهر أكثر وضوحًا.
كان القصر بناءً ضخمًا، حجارة جدرانه متآكلة، ونوافذه مكسورة، وأبوابه الخشبية الضخمة مهترئة من عوامل الزمن.
كانت هناك نباتات متسلقة تلتف حول الجدران، مما يزيد من شعور المكان بالخلو والنسيان.
لم يكن القصر يبدو كمسكن للنبلاء، بل كشاهد صامت على تاريخ قديم ومظلم.
عندما وصلت إلى الأعلى، رأت شخصًا يقف أمام الباب الرئيسي للقصر، يحدق في ساعته. اتسعت عيناها بدهشة، إنه راشيل!
"راشيل! لماذا أنت هنا؟"
صرخت رينا بصوت عالٍ، وهي تلهث من التعب. "يا إلهي، كم كان صعود هذا الجبل متعبًا... هل كنتُ أمشي لنصف ساعة؟ هذا لا يُصدّق!"
التفت راشيل إليها، وظهرت على وجهه علامات الذهول والغضب في آنٍ واحد. ضيّق عينيه قليلًا وقال بنبرة هادئة لكنها مشحونة بالضيق:
"لماذا أنا هنا؟
رينا، لماذا أرسلتِ لي تلك الرسالة بتلك الطريقة الطفولية؟ كان بإمكانكِ أن تحدثيني وجهًا لوجه. لماذا أحضرتينا إلى هذا المكان؟"