بدأ كلُّ شيء في القرن السابع عشر ميلادي، وتحديداً في بلاد سمِّيت آن تلك الحقبة ببلاد "السحرة ماغوس" أو "بلاد الظَّلمة" نظراً لما انتشر فيها من استخدامٍ للسِّحر والشعوذة ومنها الأسود الأشد خطورة.
وُجدت وانتشرت مخلوقات شرسة بواسطة السحر أعدادها مهولة، طائشة مسعورة لا يسد جوعها سِوَى الدماء، تمَّ تجنيدها مؤخراً في – الوادي العظيم - والاستغناء عن البشر في الحرب.
بذلك اصبحت بلاد "ماغوس" القوَّة المسيطرة بين البلدان ومن ثمَّ تمَّ تحريم تعليم السِّحر على العامة...
جُمع جميع السحرة ليحصروا علمهم للحاكم والدولة فقط فيمَ نشروا أعداداً من المخلوقات المسحورة بين البلدان لن تهاجم أو تقتل إلا بإشارةٍ من دولة ماغوس التي كان من الواضح
أن ارسالها لتلك المخلوقات ونشرها في العالم بأسره لم يكن سوى تهديداً للجميع من بدء أي حرب أو مخططات تؤذي الدولة. تمهيداً لحكمها للعالم.
كلُّ شيءٍ كان يسير كما هوَ مخطط حتَّى جاء ذلك اليوم الذي وُلدت فيهِ الأميرة المسحورة "كاجال" الإبنة الثانية للحاكم "قوبرناذور" في ليلة توم مقمرة...
.
.
.
في ليلة اكتمل فيها قمري التوم، الذين كانا بدرين أرجوانيي اللون بدرجتين متفاوتتين عن بعضهما البعض، كان الحاكم "قوبرناذور" يسير
متقدماً الحرس في طرق قلعته الضخمة بصورة عصبية بعض الشيء رغم تغليفه لملامح وجهه بالجمود، كانت الممرات ذات
مساحة معقولة، الجدران والأرضية من أحجارٍ سوداء، تضيء الطرق مشاعل مثبَّتة في الجدران، الأرضية مغطاة بسجادٍ أزرق اللون مزيّن بنقوشٍ ذهبية أنيقة من عند الجانبين.
أبعد الحاكم وشاحه عن صدره ليسدله على كتفيه العريضين، كان طويل القامة وعريض المنكبين، ببشرة مائلة للحمرة، شعره بني اللون مموَّج بعض الشيء يصل
طوله إلى مستوى كتفيه، شاربيه خفيفين بعض الشيء وحاجباه عريضان، عيناه حادتا الشكل ويرسم على وجهه تعابير باردة، ما إن وقعت عيناه على إحدى الأبواب الخشبية
والتي يقف أمامها بعض الخادمات حتّى احتدت نظراته مسرعاً من خطواته، انتبهت الخادمات له فافسحن الطريق باحترام.
توقّف أمام الباب ليتأمله للحظات، أخذ نفساً دون أن يفتح فاهه بل كان يسلط نظراته للأمام بقوة، فتح الباب الذي أصدرَ صوتاً عالياً يفيد بدخوله فما كان للأطباء داخل الغرفة إلا أن
فسحوا الطريق له هم الآخرون، تقدّم الحاكم مقترباً من تلك المرأة المنهكة على السرير والتي بدى على وجهها وجسمها المتعب آثار مرضٍ غريب، كانت ببشرة
شاحبة تميل للإصفرار، شعرها ذهبي طويل تسرحه على شكل ظفيرة منسدلة على كتفها الأيمن، متوسطة الجمال بجسمٍ رشيق... فتحت عينيها الدامعتين إثر
الإنهاك فحدّقت بالحاكم زوجها ثم همست بصوتٍ مبحوح حزين: قوبرناذور .
جثَى على ركبته بينما امسك بيدها الذابلة فقبّلها بلطف، مسَح على شعرها بملامح صامتة ثم تركها ليقف محدقاً بالأطباء فقال: وأين الرضيعة؟!
اومأ أحد الأطباء رأسه ثم أشار بيده ليتحدثوا في مكانٍ هادئ... فاتَّجهوا إلى غرفةٍ أخرى وتحديداً أمام سريرٍ خشبي صغير ترقد فيه المولودة ابنة الحاكم الثانية مغطَّاة بقماشٍ قطني أبيض، ابعد الطبيب القماش
عن الرضيعة ليتفاجأ الحاكم بشدة بياضها المثير للرعب، كان بياضها ساطعاً وكأنها شعلة فضية، ذات شعرٍ حالكِ السوَاد وكثيف بعض الشيء، لم تكن نائمة أو تتصرف كأي مولودٍ حديث بل
كانت تفتح عينيها ذات الرمشِ الكثيف على وسعها وتحدِّق بمن حولها بملامح هادئة، خديها مملتئان وعدسة عينيها شديدة السواد.
رفع الطبيب بصره ليحدق بالحاكم قائلاً بريبة: لاشك وأن سحراً له علاقة في ذلك، رغم أنه ليس من اختصاصي ولكن أخشى بأن يكون أمرُ علاجها مستحيلاً...
كان يقول ذلك بنبرة يائسة فيمَ كان الحاكم يحدِّق بتلك الرضيعة بشرود وجبينه يعرق توتراً هامساً في نفسه:
"هل أخفق الأمر؟!"
.
.
.
الأمر لم يكن ليقف عند هذا الحد بالنسبة للحاكم الذي لم يتقبل لا هوَ ولا امرأته تلك الحقيقة المرّة... تلك الحقيقة التي كان تعريف كلِّ منهما لها يختلف عن الآخر...
إيليقانسيا زوجة الحاكم وأم الإبنة المسحورة التي أسمتها "كاجال" فيمَ بعد، آمنت بأن أحدهم نصب سحراً لصغيرتها الأميرة بداعي الحقد والحسد وعلى هذا على صغيرتها أن تقاسي الآلام
حتَّى يحين أجلها القريب، فيمَ كانت الحقيقة الأخرى لدى الحاكم قوبرناذور مختلفة تماماً... إذ في اليومِ الذي يليه استدعى الحاكم جميع السَّحرة ليجدوا حلّاً لحالة المولودة الغريبة، إذ قال مخاطباً إياهم
بنبرة عصبية هامساً في تلك الغرفة الضيِّقة والتي يحرسها عدد شحيح من الحراس في الخارج: ظننت بأن ذلك السحر سيجعل وريثي للحكم هو الأقوى!!، لكن مالذي أراه؟!، إنها رضيعة أنثى!، وفوق هذا تحمل جلدة مشعة مقززة!.
توتر السحرة الذين كانوا مشتركين في الأمر، فقال أحدهم بعد أن ضرب الحاكم الطاولة غاضباً "مالكم سكتم؟!"..: نبوءة رابيذو كانت كذبة.
فتح رابيذو والذي كان من أحد نخبة السحرة عينيه بهدوء ليسلِّطها على الساحر الآخر... الذي التفت الحاكم إليه ليسأله بحدة: ماذا قلت ياسينيفال؟!.
تابع الساحر سينيفال وهو يعقد حاجبيه مسلطاً نظراته على الساحر رابيذو: النبوءة كانت تنص على أن من سيرث حكمك شاب يحمل دماء العائلة المالكة!، وهذا لن يكون إلا إن كان ابنك بالدم، سيكون قوياً، ساحراً عجيباً بفضل سحر نُصب في طعام الملكة مستهدفاً الجنين... بهذا سيعتبر ولي العهد الأقوى في التاريخ كلِّه!.
ثم تابع وهو يحرك رأسه نفياً: لا شيء من هذا تحقق.. بل ولدت أنثى، بجلدة مريبة، قصيرة الحياة وقد تفتقر لمهارة السحر أيضاً!.
وجه نظراته للساحر رابيذو مجدداً ليكمل: الساحر رابيذو لم يخفق يوماً في نبوءةٍ ما... لهذا أرجح بأنه يكذب!، ولسببٍ ما سيطلعنا عليه بعد قليل...
التفت الحاكم قوبرناذور ناحية الساحر رابيذوا فضاقت عيناه هامساً: رابيذو... ألديك ماتقوله؟!.
فابتسم الساحر رابيذو ذو الأسنان المصفرَّة، ليجيب بصوتٍ حاد: السحر الذي خالط طعام الملكة مستقصداً الجنين سلاح ذو حدِّين، إن كان ذكراً نال ما سيناله من خير وفق نبوءتي.. وإن كانت أنثى ستكون نتائجه عكسية.
بدى الجميع منصتين له فيمَ كان يحدِّق الحاكم به بشيءٍ من قلَّةِ الصبر، فتابع الأخير: من أعراضه للأنثى ضعف المقدرة على السير، وبشرتها المضيئة الغريبة بالإضافة إلى شدَّة سواد شعرها المنافي لجينات نسلها، كما أنه مع أربع سنين قادمة سيكون الوقت كافياً لموتها، ومع هذا... الوقت لا يزال مبكراً للحكم على نبوءتي بأنها مجرد كذبة أعلم بأن رقبتي ستقطع فوراً لسخافتها!.
رفع سينيفال أحد حاجبيه بوجهٍ جامد فضح حسده، فيمَ قال الحاكم الذي ارخى حاجبيه بصورة أبدت القليل من الراحة لكلام الساحر رابيذو: اكمل.
فازداد اتساع ابتسامة الساحر رابيذو وسط استياء الساحر سينيفال الذي أشاح وجهه، ليكمل الأول بنبرة هادئة: سنعقد حياتها بطفلٍ ذكر!.
ضاقت عيني الحاكم وكأنه يطلب توضيحاً وسط دهشة بقية السحرة وكأنهم فهموا مايرمي إليه، فأجاب الساحر رابيذو من فوره ليشرح للحاكم: سنعقد روحها بروح شخصٍ ما!، بإعطاء جزء من دمائها الملكية له، وجزء من دماءِه لها!. بذلك ستكون حياتها مرهونةً بحياته، إن مات... ماتت هيَ، وإن ماتت هيَ لأي عارض، مات هوَ الآخر!.
ملامح الصدمة كانت تعتلي وجه الساحر سينيفال هو الآخر والذي باتت أسنانه واضحة من فرط انفعاله وغضبه، خصوصاً عندما لاحظ أن كلامه أثار اهتمام الحاكم إذ انحنى بظهره للأمام، فقال بنبرة ملكية: وهل بالإمكان فعل هذا حقاً؟!.
أجابه رابيذو: بالطبع!، كل ماعلينا فعله هوَ أن نجد شخصاً ملائماً لنتأكد من كونه صاحب النبوءة.
الحاكم بحيرة وكأنه يطلب توضيحاً: ملائماً تقول؟!.
الساحر رابيذو وهو يومئ برأسه: سليم البدن والعقل، ذكر صغير السن، و... محظوظ!.
قال "محظوظ" بابتسامة غريبة أثارت انتباه الحاكم الذي هزَّ رأسه مستفسراً عن قصده، فما كان للساحر إلا أن يتفضَّل بالإجابة: شخصٌ لن يموت بالسهولة المتوقعة، بل سيكون الحظُّ حليفه دائماً لينجيه حتّى في أحلكِ المواقف.
ارخى الحاكم ثقله على كرسيه الوثير، فقال: وكيف لنا أن نجد شخصاً بهذه الصفات؟!.
ضحك الساحر رابيذو ضحكةً قصيرة وهو يتقدم بضع خطواتٍ بطيئة للأمام وسط تحديق الجميع به بارتياب، سكت قليلاً ثم رفع رأسه محدقاً بالحاكم بخبث... فقال: على سبيل المثال... يخرج من الوادي العظيم حياً!.
عبث الحاكم بلحيته البنية وهو يرسم ابتسامة خبيثة على شفتيه وكأنه فهمَ فكرة الساحر رابيذو التي لمَّح لها، وبالفعل... بعد مضيِّ ثلاث سنين وتسعة أشهر تقريباً
أمرَ الحاكم بجمع جميع الأطفال الذكور المتراوحة أعمارهم مابين الخامسة إلى التاسعة من أعمارهم، وفي ساحة القلعة الفسيحة يقف الأطفال الذي كان بعضهم مستنكراً والآخر خائفاً باكياً، أما أهالي الأطفال
فتمَّ منعهم من الدخول بينما اعتقل من حاول التعدي على الحرس ومحاولة استرجاع أطفالهم، أو حتَّى قتلهم بقطع رؤوسهم أمام الملأ عضة وعبرة للجميع، في ذات الوقت
تحدّثت الخادمات مع بعضهن البعض في ساحة القلعة إذ قالت إحداهن باستياء: سيتم رميهم في الوادي العظيم!.
فقالت الأخرى: أحياناً لا استطيع تصديق مثل هذه القلوب المتحجرة!، الوادي العظيم هوَ موطن الوحوش المسحورة المجنَّدة للحرب، لمَ عليهم أن يفعلوا هذا بهم؟!
أجابت الأولى بحيرة: ربما هيَ نبوءة ما بشأن الأولاد الذكور، وهم يحاولون إبادتهم بهذه الطريقة...
تدخلت أخرى وفي عينيها دموع حارة: سمعت بأن للأمر علاقة بمرض الأميرة، هذا ظلم!، لمَ لا يتقبَّلوا مرضها وحسب؟! هذا هوَ قدرها!.
قالت الأولى بحيرة: وما علاقة هذا بمرضها؟!، بل بالأحرى... هل الشائعة بخصوص مرضها صحيحة؟!.
اومأت إحداهن رأسها لتجيب: أجل، كما أننا لم نستطع أن نرها منذ ولادتها، وهذا يثبت أن ثمةَ أمرٍ ما يمنعهم من إخراجها من البرج الغربي.
ثم تابعت: ماسمعته هو أنه قد تمَّ نصب سحرٍ في طعامِ الملكة في شهور حملها الأولى مستهدفاً الأميرة في بطنها!.
قالت أخرى مستغربة: أمتأكدة أنه يستهدف الأميرة؟!، ماذا لو كان منصوباً للملكة وأثر على الأميرة عن طريقِ الخطأ؟!
ثم أخذن يتحدثن عن الموضوع باهتمام بينما كان أحد الأطفال والذي بدى في الثامنة من عمره يحدِّق بهن بهدوء، بدى وكأنه سمع جزء من محادثتهن إلا أنه لم يفهمها فعلاً، كان طفلاً ذو قامة
تميل للطول بالنسبة لمن هم في مثل عمره، لم يكن هزيلاً ولا بديناً بل بدت عظام جسمه كبيرة بعض الشيء مما أعطى له حجماً متميزاً عن بقيَّةِ الأطفال، بشرته مائلة
للبياض ذو شعرٍ أسود محلوق أي شعراتٍه المبعثرة كانت بطول مفصل الإصبع الواحد، حاجباه عريضان ونظراته حادة، التفت لأحد الأطفال الذي بدى
أصغر منه سناً ويخاطبه قائلاً بارتباك: آري!، مالذي يحدث؟! لماذا لا يسمحون لآبائنا بالدخول؟!.
بدت كلمة "آري" وكأنه اختصار لاسمه الحقيقي دليلٌ على أنه صديق مقرَّبٌ له... فأجابه آري وكان ذو صوتٍ طفوليٍّ مبحوح محدقاً بالخادمات: لا أدري، سمعتهن يتحدَّثن عن أميرةٍ مريضة أو ماشابه.
حلَّ صمت بينهما فيمَ أخذ آري يتأمل الأطفال حوله والذين بدوا تائهين محتارين، حتّى وقعت عيناه على أحدهم فابتسم ملتفتاً إلى صديقه ليقول: انظر إلى ذاك الولد يابروبا، إنه يبكي!.
قال "يبكي" بسخرية جعلت من بروبا يتصنع الشجاعة ليقول مجارياً آري: إنه مدلَّل!، مالذي يستدعي الخوف؟!، وفي الأصل إن حدث شيء لن أجعل الأمر يمرًّ بهذه السهولة.
تقدّم بروبا ليقف أمام آري ليشرح له مستخدماً ذراعيه: إن حاولوا فعل أيَّ شيءٍ بي، سأسير من بين أقدامهم وانطلق هارباً بسرعة، وإن امسك بي أحدهم فسأعضه بقوّة حتّى ينزف دماً!.
ثم ضحك بروبا رغم خوفه فقال: ماذا عنك يا آري؟!.
فضحك آري مجيباً: سوف اركله هناك بالطبع!.
وكأنه يقصد مكاناً حساساً فضحكا معاً بقوّة جذبت اهتمام بقية الأطفال ومن بينهم الخادمات اللاتي دمعت أعينهن بينما أخفى بعض الحرس وجوههم بقبعاتهم العسكرية من الأمام، لم يمضِ الكثير
من الوقت حتّى ظهرَ الحاكم أعلى شرفةِ قلعته الضخمة محدقاً بالصغار بملامح جامدة لم تبدِ أيَّة شفقة، بجانبه ابنته الكبيرة "سيليان" والتي كانت تبلغ من العمر حينها
ست سنوات، كانت تشبه والدتها كثيراً بالإضافة إلى برود وجمود ملامح والدها، حدَّقت بالأطفال بنظراتٍ مشمئزة ولم تلبث طويلاً حتّى دخلت القلعة متأوهةً بغرور.
بجانب الحاكم كان يقف الساحر رابيذو الذي نصحه بجمع أولاد المدينة ورميهم في الوادي، استمرا بتأمل الأطفال لفترة تزيد عن دقيقتين، انتهى الأمر بإشارةٍ
من الحاكم للحراس بيده أن يرسلوا الأطفال للوادي ويرموهم فيه، بينما قاموا بسحر جميع الأهالي وتخديرهم أخيراً ليعودوا لمنازلهم دون فوضى أكثر من التي أحدثوها طوال النهار.
.
.
.
[الوادي العظيم، شؤم الأميرة الصغيرة]
"لم يكن الأمر مزحة" هذا ماهمس به آري فيمَ بينه وبين نفسه وهو يشاهد بقيَّة الأطفال يصارعون الموت أمام تلك المخلوقات المسعورة التي تم خلقها من العدم بواسطة سحرٍ محرَّم، كانت أحجامها خيالية، بعضها ذات جلودٍ دهنية والأخرى ذات فراءٍ متفاوت الألوان تتفق في كونها باهتة، لم تبدُ تلك الوحوش وكأنها تملك عقلاً
بل تبحث عن الروائح الدخيلة وتهجم بشراسة عشوائيَّة محطِّمةً الصخور حولها حتّى لو عنى ذلك إحداث ضررٍ لجسمها الذي لا يشعر بالألم.
كان الضجيج عالياً والرؤيا مضطربة في عيني آري، تارة يلتفت لليمين وتارة أخرى لليسار دون تفكير، أصوات صرخات الأطفال وخِوار الوحوش هو مايثير أذنيه، يشعر بيدين صغيرتين ملتفةُ بشدة حول
ذراعه اليسرى كانت لبروبا الذي ينظر للخلف ويستمر بالصراخ فزعاً ووجهه مسودّ من هولِ ما يراه...
تمَّ جمع الأطفال أعلى وادٍ صخري، كان مسطحاً عريضاً لا يُرى آخره وعميق بشكلٍ يمكن رؤية قاعه الجاف، كانت الوحوش هادئة فيه ولكن ما إن قام أحد القادة في الحرس الملكي برمي
أرنبٍ أبيضٍ فيه حتّى ثارت بشكلٍ مفاجئ متسابقة لالتهام ذلك الكائن الدخيل عليهم، كل هذا وسط حيرة الأطفال وبكاء بعضهم عدا آري الذي جلس على الجرف ليتمكن
من رؤية الوحوش بشكلٍ أقرب مندهشاً وبروبا بجانبه يهمس قائلاً: يا إلهي...
كانت الرياح قويِّة آنذاك وتعبث بوشاح القائد الذي كان لا يزال يتأمل الفوضى التي أحدثتها الوحوش ما إن قام برميِ الأرنب فيه.
جذب اهتمام آري الذي تأوَّه بحيرة أمرُ القائد الذي وجّهه للحرس قائلاً بنبرة عالية: ألقوهم في الوادي!.
فرسم ابتسامة في غير محلِّها على شفتيه وهو يفتح عينيه على وسعها محدقاً بالقائد مندهشاً وكان الأمر لبروبا الذي عقد حاجبيه محتاراً، همس الأول في نفسه
"مزحة!" وهو ينظر إلى الحراس
الذين أخذوا يركلون الأطفال واحداً تلوى الآخر في الوادي ملبين لأمره عدا واحد الذي بدى وكأنه لم يتحمَّل الأمر فصرخ موجهاً كلاماً يائساً للقائد الذي كان يسلِّط نظراته
على الأطفال: رميهم فقط هوَ ماسيتكفَّل بقتلهم!، أليس الإمتحان الحقيقي هو عندما يجابهون تلك الوحوش؟!.
في تلك اللحظات تقدَّم أحد الحرس من آري الجالس على الأرض، ثم رفع قدمه أمامه موجهاً إياها ناحية بطنه قاصداً دفعه إلا أن آري تدارك الوضع بإمساكه لقدم الحارس بشدة محاولاً
دفعه للجهة المعاكسة ليحمي نفسه وسط صراخ بروبا الذي امسك بذراع آري موجهاً كلامه للحارس بارتعاب: كلا!، كلا!.
بينما قال الحارس وجبينه يعرق محاولاً إبعاد يدي آري عنه: أيهالجرذ الصغير!، ابعد يدك عنِّي.
تقدم القائد مقترباً من جهةِ آري، مجيباً ذلك الحارس الشاب بنظراتٍ باردة: هذا ليس مهماً...
زكَّ الحارس الشاب على أسنانه وهو يتمتم: ماذا؟!
بينما قام القائد بركل الحارس الذي يحاول دفع آري وبروبا بقوَّة مع ظهره كانت كفيلة لاسقاط الثلاثة معاً في الوادي وهو
يكمل بصوتٍ عالٍ تسنى لآري المذهول أن يسمعه: المحظوظ فقط، هوَ من سيعيش.