وُلد بدر شاكر السيّاب في قرية جيكور وهي قرية صغيرة تابعة لقضاء ابي الخصيب في محافظة البصرة
حيث كان لا يزيد عدد سكانها آنذاك على (500) نسمة
تمتاز قرية جيكوربكثرة أشجار النخيل المتواجدة بكثرة في بساتين جيكور التي يملك (آل السياب - من قبيلة ربيعة ) وفيها أراضٍ مزروعة بالنخيل تنتشر فيها انهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب وحين يرتفع المد
تملئ الجداول بمائه، وكانت جيكور وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها، مرتعاً وملعباًـ وكان جوّها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة السياب الشعرية وذكرياته المبكرة فيه التي ظلت حتى أخريات حياته تمدّ شعره بالحياة والحيوية والتفجر (لقد كانت الطفولة فيها بكل غناها وتوهجها تلمع أمام باصرته كالحلم. ويسجل بعض اجزائها وقصائده ملأى بهذه الصور الطفولية) كما يقول صديقه الحميم، صديق الطفولة: الشاعر محمد علي إسماعيل
إن هذه القرية تابعة لقضاء أبي الخصيب الذي أسسه (القائد مرزوق أبي الخصيب) حاجب الخليفة المنصور عام 140 هـ والذي شهد وقائع تاريخية هامة سجّلها التاريخ العربي أبرزها معركة الزنج وما تبعها من أحداث هذا القضاء الذي برز فيه شعراء كثيرون منهم (محمد محمود) من مشاهير المجددين في عالم الشعر والنقد الحديث
و(محمد علي إسماعيل) صاحب الشعر الكثير في المحافظة و(خليل إسماعيل) الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته و(مصطفي كامل الياسين)
والشاعر (مؤيد العبد الواحد) الشاعر الوجداني الرقيق وهو من رواة شعر السياب و(سعدي يوسف) الشاعر العراقي المعروف و(عبد اللطيف الدليشي) الأديب البصري و(عبد الستار عبد الرزاق الجمعة) وآخرين لقد فَقَد السياب والدته عندما كان عمره ست سنوات وكان لوفاة أمّه أعمق الأثر في حياته. وبعد إذ أتمّ دروسه الابتدائية في مدرسة (باب سليمان) التي كانت تتكون من أربعة صفوف وتبعد حوالي 10 كيلو متر عن منزله بعد انتهاء الصف الرابع انتقل إلى مدرسة (المحمودية)
وتبعد عن (باب سليمان) كيلومترات اضافية وبعدها انتقل إلى مدينة البصرة وتابع فيها دروسه الثانوية، ثم انتقل إلى العاصمة بغداد حيث التحق بدار المعلمين العالية واختار لنفسه تخصص اللغة العربية وقضى سنتين في تعلم الأدب العربي تتبّع ذوق وتحليل واستقصاء ولكن تغيّر في سنة 1945 من الأدب إلى متخصص في اللغة الانجليزية لقد تخرّج السيّاب
من الجامعة عام 1948، وفي تلك الأثناء عُرف بميوله السياسية اليسارية كما عُرف بنضاله الوطني في سبيل تحرير العراق
من الاحتلال الإنكليزي، وفي سبيل القضية الفلسطينية وبعد أن أُسندت إليه وظيفة التعليم للغة الإنكليزية في الرمادي وبعد أن مارسها عدة أشهر فُصل منها بسبب ميوله السياسية وأودع السجن ولمّا رُدّت إليه حريته اتجه نحو العمل الحر ما بين البصرة وبغداد كما عمل في بعض الوظائف الثانوية
وفي سنة 1952 اضطُر إلى مغادرة بلاده والتوّجه إلى ايران فإلى الكويت وذلك عقب مظاهرات اشترك فيها
وفي سنة 1954 رجع الشاعر إلى بغدادووّزع وقته ما بين العمل الصحافي والوظيفة في مديرية الاستيراد والتصدير ولكن الذي يظهر من خلال سيرة السيّاب أنه لم يأنس ولم يتكيّف في المدينة بغداد بل ظل يحنّ إلى قريته التي ولد فيها (جيكور)، وقد أشار إلى ذلك الأديب الفلسطيني احسان عباس حيث قال: « وأما السياب فإنه لم يستطع أن ينسجم مع بغداد لأنها عجزت أن تمحو صورة جيكور
أو تطمسها في نفسه (لأسباب متعددة)
فالصراع بين جيكور وبغداد، جعل الصدمة مزمنة، حتى حين رجع السياب إلى جيكور
ووجدها قد تغيرت لم يستطع أن يحب بغداد أو أن يأنس إلى بيئتها، وظل يحلم أن جيكور
لا بد أن تبعث من خلال ذاته»
ونلمح ذلك في قصيدته التي تعبّر عن شدة اشتياقه وحبه لقريته حيث يقول:
آه جيكور .. جيكور ما للضحى كالأصيل
يسحب النور مثل الجنالح الكليل
ما لأكواخك المقفرات الكئيبة يحبس الظل فيها نحيبه أين أين الصبايا يوسوسن بين النخيل
عن هوى كالتماع النجوم الغريبة اين جيكور ؟! جيكور ديوان شعري
موعد بين الواح نعشي وقبري .
وعندما ثارعبد الكريم قاسم على النظام الملكي وأقام في 14 تموز سنة 1958 النظام الجمهوري
كان بدر شاكر السياب من المرحبين بالانقلاب والمؤيدين له وقد انتقل من وظيفته إلى تدريس الإنكليزية، وفي سنة 1959 انتقل من وظيفة التعليم إلى السفارة الباكستانية يعمل فيها وبعدما أعلن انفصاله من الحزب الشيوعي عاد إلى وظيفته في مديرية الاستيراد والتصدير
ثم انتقل إلى البصرة وعمل في مصلحة الموانئ
وفي سنة 1962 أُدخل مستشفى الجامعة الامريكية ببيروت للمعالجة من ألم في ظهره
ثم عاد إلى البصرة وظلّ إلى آخر يوم من أيامه يصارع الآلام إلى أن توفي سنة 1964
عُرف عن السيّاب حبه الشديد للمطالعة والبحث وقراءة كل ما يقع بيده من كتب وأبحاث على اختلاف مواضيعها وقد أشار إلى ذلك صديقه الأستاذ فيصل الياسري حيث يقول: «وكان السياب قارئاً مثابراً فقد قرأ الكثير في الأدب العالمي والثقافة العالميّة كما أنه قرأ لكبار الشعراء المعاصرين قراءة أصيلة عن طريق اللغة الإنكليزية التي كان يجيدها وكان يقرأ الكتب الدينية كما يقرأ الكتب اليسارية ويستمر الياسري في وصفه للسياب ليكشف لنا بعضاً من صفاته التي لا يعرفها إلا القليل: « وكذلك السيّاب على ما أذكر لم يكن كثير الكلام، ولكنه كان يفتخر أنه من البصرة المدينة التي أنجبت الأخفش وبشار بن برد والجاحظ وسيبويه والفرزدق وابن المقفع والفراهيدي واضع عروض الشعر
لبدر شاكر السيّاب ديوان في جزءين نشرته دار العودة ببيروت سنة 1971 وجمعت فيه عدة دواوين أو قصائد طويلة صدرت للشاعر في فترات مختلفة
ويُذكر للشاعر شعر لم ينشر بعد, وهو ولا شكّ من أخصب الشعراء، ومن أشدّهم فيضاً شعريّاً، وتقصيّاً للتجربة الحياتيّة
ومن أغناهم تعبيراً عن خلجات النفس ونبضات الوجدان
مراحل شعر السيااب
كان السيّاب شاعراً فذّاً اصطبغ شعره بصبغة الأطوار التي تقلّبت فيها حياته المعاشيّة والاجتماعية والفكريّة
عصَره الألم في شبابه، وشعر بالغربة القاسية وهو في بيت أبيه، كما شعر بها وهو في بيئته ولم يجد قلبه الشديد الحساسيّة مَن يخرجه من أتون آلامه
ولم يجد في طريقه فتاة أحلامه، تلك الفتاة التي يسكب روحه في روحها، فتنتشله من أحلامه وأوهامه، وتُغرقه في عالمٍ من الحنان والرقة ورافق ذلك كله تتبّع فكريّ
وعاطفي لحركة الومانطيقية التي شاعت في اوربا والتي ازدهرت في بعض الأقطار العربيّة ولاسيّما لبنان المقيم والمهاجر،
فاندفع في تلك الحركة، وراح في قصائده الأولى يداعب شجونه في جوّ من الضبابية اليائسة، وفي انحطام لا يخلو من نبضات ثورية حالمة
وراح يناجي الموت وينظر إلى مصيرة نظرة اللوعة والإرنان، ويهوي في لجة عالمه المنهارحيث يقول :
لاتزيديه لوعة فهو يلقاك .. لينسى لديك بعض اكتئابه
قربي مقلتيك من قلبي الذاوي .. ترى في الشحوب سر انتحابه
وانظري في غضونه صرخة اليأس .. واشباح غابر من شبابه
لهفة تسرق الخطى بين جفنيه .. وحلم يموت في أهدابه
تلك كانت المرحلة الأولى من مراحل شعر السيّاب؛ أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الخروج من الذاتية الفرديّة إلى الذاتية الاجتماعية
وقد انطلق الشاعر، في نزعته الاشتراكية ورومنطيقيّته الحادة، يتحدث عن آلام المجتمع وأوصاب الشعب، ويُهاجم الظلم في أصحابه
ويُصوّره في (حفار القبور) مارداً جشعاً يرقص على جثث الموتى ويتغذى جشعه بأرواحهم ويقول:
وا خيبتاه ألن اعيش بغير موت الاخرين ؟!
والطيبات من الرغيف الى النساء الى البنين
هي منة الموتى فكيف اشفق بالانام ؟!
فلتمطرنهم القذائف بالحديد وبالضرام
وبعد هذه المرحلة نرى السيّاب ينزع نزعة (الواقعية الجديدة) - على حدّ قوله - ويعمل على تحليل المجتمع تحليلاً عميقاً
وعلى تصويره تصويراً واقعيّاً فيه من الحقائق الحياتية ما يستطيع الشاعر ادراكه بنفاذ بصره وقوة انطباعيته. وقد امتاز بدر في هذه الفترة من حياته
بنزعته القومية العربية وذلك بعد تركه للحزب الشيوعيّ، وقد بدأت بوادر ذلك في رسائله التي كان يكتبها لأصدقائه
{{مض|ففي الرسائل المبكرة بين الدكتور سهيل إدريس والسياب أوضح صاحب الآداب للشاعر انه قطع على نفسه العهد بخدمة المجموعة العربية وأدبها السائر نحو النور
وكان توجيها للشاعر في الطريق الجديد، ولهذا جاءت الرسائل تحمل نغمة جديدة لم نكن نسمعها مثل: " اننا نؤمن بالإنسانية وبالأمة العربية
لا بأشخاص بذاتهم ولا بحزب سياسي بذاته " ومثل: " أن النصر لنا ولأمتنا "، ومن ذلك:
" أرجو؟. أن أوفق إلى إرضاء قراء مجلتنا القومية الشريفة " وما أشبه ذلك
وراح السيّاب يصوّر واقع بلاده الأليم ويحلم لها بمستقبل تزدهر فيه حرة، متطورة، ينقلب فيها الجهل إلى نور، والجمود إلى حركة، والتزمت إلى انفتاح
يرى بعض الباحثين إن السياب تأثر بشعراء عرب وأجانب في مراحل تطور تجربته الشعرية وبخاصة في الخمسينيات
"في مرحلة الالتزام الماركسي وما تلاها" ناقلاً عن السيّاب قوله إنه يحب البريطانيين وليام شكسبير وجون كيتس. وذكر أن السيّاب كان يقول:
«وأكاد أعتبر نفسي متأثراً بعض التأثر بكيتس من ناحية الاهتمام بالصور بحيث يعطيك كل بيت صورة، وبشكسبير من ناحية الاهتمام بالصور التراجيدية العنيفة
وأنا معجب بتوماس إليوت.. متأثر بأسلوبه لا أكثر… ولا تنس دانتي فأنا أكاد أفضّله على كل شاعر.»
ويقول هذا الباحث : إن السياب ذكر عام 1956 أن البحتري "أول شاعر تأثر به ثم وقع تحت تأثير الشاعر المصري علي محمود طه (الذي توفي عام 1949)
فترة من الزمن وعن طريقه تعرف على آفاق جديدة من الشعر حين قرأ ترجماته للشعراء الإنجليز والفرنسيين."
ويتطرق هذا الناقد إلى تأثر السيّاب بكل من أبي تمام والبريطانية سيتويل وينقل عنه قوله:
«حين أراجع إنتاجي الشعري ولا سيّما في مرحلته الأخيرة أجد أثر هذين الشاعرين واضحاً فالطريقة التي أكتب بها أغلب قصائدي الآن
هي مزيج من طريقة أبي تمام وطريقة إديث سيتويل».
ولطالما أشاد السياب بالشاعر العراقي المعروف محمد مهدي الجواهري (1899-1997)
الذي كان يلقب (متنبي العصر) واعتبره "أعظم شاعر" في ختام النهج التفعيلي للشعر العربي