وقف وحيدًا في الشّارع أمام ذاك المبنى المُبَهْرَجِ ذا التصميم المِعْماري الأوربي العَرِيقِ، شَهَقَ ثم زَفَرَ بثِقْلٍ ليرى فمه يَنْفُث بخارًا أبيض يشهد بِبُرودَة آخر شهور السنة، ضم يديه إلى صدره ليدفئها، كانت أصابعه التي لا تكاد تغطيها قفازاتُه الباليةُ حمراءَ مُتَصَلِّبَةً كأنها تعود إلى جثة تقضي ليلتها الأولى تحت التراب.
رفع 'جود' رأسه إلى السماء، كانت ليلةً مُقْمِرَةً اكْتَسَتْ فيها السماءُ بُحُلَّةٍ من الغيومِ البارزةِ تَحُوطُ البدرَ المنيرَ الذي لا أَنِيسَ لهذا الطفل غيره.
أخفض رأسه ثم التفت يمينا لِتَسْتَقِرَّ عَيْنَاهُ على لوحةٍ معلقةٍ في آخر الشارع قرب محل الحلاق 'جورج'، ذاك الرجل كثيف الشارب بارز البطن، كانت اللوحة تقول :
" Rue de Saint-Paul "
(شارع سان بول)
لكن أَنَّا لجود أن يقرأها وقدمه لم تَطَأْ حُجْرَةَ دِرَاسَةٍ من قَبْلُ؟
أيا يكن، لم يستطع جود قراءة ما كُتِبَ على اللوحة، لكنه كان يُدرك تمامَ الإدراكِ أن هذا الشارع للأغنياء فقط. لقد كان خائفًا، خائفًا من أن يراه أحد النبلاء هناك فيضربه أو يَزُجَّ به في السجن فيتم قطع رأسه بتهمة دخول منطقة مُحَرَّمَةٍ على من هم أمثاله مِمَّنْ حكمت عليهم الآلهة بالمُكُوثِ في أسفل الهَرَمِ حتى حِين، حاملين على عاتقهم ثِقْلَ لَقَبِ حُثَالَةِ المجتمع وأبناء العَاهِرَات.
عاد 'جود' إلى التَّحْدِيقِ في المبنى الفَاهِرِ الذي يقع أمامه:
"Le grand théâtre de Paris"
(مسرح باريس الكبير)
كانت هذه الكلماتُ مكتوبةً على لوحةٍ عريضةٍ معلقةٍ على واجهةِ المبنى بخطٍّ بارزٍ ومضغوطٍ ذَهَبِيِّ اللونِ على خلفيةٍ حمراءَ قانيةٍ.
سمع 'جود' ذات مرة من 'ثيودور' ، شريكُه في المعاناةِ وشريكُه في قطعةِ القُماشِ التي ينامان عليها أيضا، أن في هذا المبنى يوجد أُنَاسٌ كثيرون من النبلاءِ والبورجوازيين، يصفقون ويهتفون من أجل أشخاصٍ يلبسون أقنعةً ويحكون القصصَ و الأساطيرَ ويعزفون الألحانَ، يغنون و يرقصون أيضا.
"Et comment t'as su ce qui se passe dedans toi ?"
(كيف علمت ما يحدث في الداخل أنت؟)
كان هذا هو السؤالُ الذي وَجَّهَهُ 'جود' إلى 'ثيودور' قبل أسابيع حينما أخبره هذا الأخير بما يحدث في مسرح باريس الكبير.
"Bein.. J'ai entendu Gabrielle en parler.."
(حسنا.. لقد سمعت غابرييل يتحدث عنه)
كان هذا هو الجواب الذي قدمه 'ثيودور' 'لجود' ، لكن هذا الأخير قد اكتفى بإِيمَاءَةٍ خفيفةٍ تَنِمُّ عن عدم تصديقه لِمَا قِيلَ، فقد كان من الواضح أن 'ثيودور' قد تسلل إلى الداخل ورأى ذلك خلال إحدى محاولاته السطو على ملكيات الأغنياء.
وها هو 'جود' الآن يقف أمام المبنى وحيدا يحاول التأكد من صحة الأمر.. كان البردُ قارسًا، لكن 'مسرح باريس الكبير' قد كان يبعث أنواراً تخبر المَارَّةَ أنه أدفأ مَكَانٍ في المدينة.. بل تخبرهم أنه الجَنَّةُ بِعَيْنِها.
"Des gens masqués et costumés qui racontent des histoires et des légendes, jouent de la musique, chantent et dansent alors.."
(أشخاص مقنعون ومتنكرون يحكون القصص و الأساطير، يعزفون الألحان، يغنون و يرقصون إذن..)
هذا ما قاله جود لنفسه..
تابع قائلا :
"Moi aussi je veux porter un masque, je veux raconter des histoires et des légendes, je veux jouer de la musique, chanter et danser.."
( أُريد أن أضع قناعًا أيضًا، وأريد أن أَحكيَ القصصَ و الأساطيرَ، أريد أن أعزف الموسيقى، أن أغني وأرقص)
أجل، هذه هي الأفكارُ التي جعلت من 'جود' رغم صِغَرِ سنه يتميز عن غيره من الأطفال بفِطْنَتِهِ ورؤيته للأمور من زاوية مُغَايِرَةٍ، إذ بينما كان 'ثيودور' و'غابرييل' مشغولَيْن برؤية نفسيهما من أغنياء الحفل، يشاهدان الناس يضعون الأقنعة، يحكون القصص و الأساطير، يعزفون الموسيقى ويغنون ويرقصون، كان 'جود' يرى نفسه على الرُّكْحِ، يضع قناعا، يحكي القصص و الأساطير، يعزف الموسيقى، يغني ويرقص.
كان يعلم أن الطريقَ إلى مقعدِ المشاهدِ في المسرحِ صعبٌ، لا يناله إلا نبيلٌ ابن نبيلٍ، أو برجوازيٌّ وَلَّدَهُ نظامٌ اقتصاديٌّ غير عادلٍ أو قِسِّيسٌ محتالٌ، وقد اتفق النبيلُ والبرجوازيُّ والقسيس على ألا يتركوا أحدا من أمثال 'جود' و'ثيودور' و'غابرييل' يصعد قمة الهرم، فالقمة لهم، والقاع له.
بينما كان طريقُ الوصولِ إلى الخشبةِ لا يحتاجُ سوى ضربةَ حظٍّ، والقمرُ مكتملٌ الليلةَ، ويبدو كأن السماءَ فاتحةٌ ذراعيها 'لجود' ، تحتضنه بأقوى ما لديها.
السماءُ تحب 'جود'، الغيومُ والنجومُ تحبه، لكن الآلهةَ تكرهه، فهل لهذه الصدفةِ المنتظرةِ من سبيلٍ؟
أغمضَ جود عينيه ووضع يده اليمنى على نصف وجهه الأيمنِ كأنها أحد أقنعة أولئك الذين يلبسون الأقنعة والأزياء ويحكون القصص و الأساطير ويعزفون الموسيقى ويغنون و يرقصون.
ثم بدأ يغني بصوتِه الطفوليِّ أغنية لطالما تَغَنَّتْ بها شوارع باريس :
?
Plaisir d'amour ne dure qu'un moment
Chagrin d'amour dure toute la vie
متعةُ الحبِّ لا تدومُ سوى للحظةٍ
لكن ألمَ الحبِّ يبقى طولَ الحياةِ
J'ai tout quitté pour l'ingrate Sylvie
Elle me quitte et prend un autre amant
'تركتُ كلَّ شيءٍ من أجلِ ناكرةِ الجميلِ 'سيلفي
لكنها تركتني من أجل حبيبٍ آخرَ
Plaisir d'amour ne dure qu'un moment
Chagrin d'amour dure toute la vie
متعةُ الحبِّ لا تدومُ سوى للحظة
لكن ألمَ الحبِّ يدوم طوالَ الحياة
Tant que cette eau coulera doucement
Vers ce ruisseau qui borde la prairie
طالما تجري هذه المياهُ بهدوءٍ
إلى ذاك السيلِ الذي يحيطُ بالمرجِ
Je t'aimerai me répétait Sylvie
L'eau coule encore. Elle a changé pourtant
سيلفي كانت تقول بتكرار : "سأحبك"
المياه لا زالت تجري، لقد تغيرت رغم ذلك
Plaisir d'amour ne dure qu'un moment
Chagrin d'amour dure toute la vie
متعة الحب تدوم للحظة
لكن ألم الحب يبقى طوال الحياة
?
ذَرَفَ 'جود' دمعةً، ربما قد كان هو أيضا واقعًا في حُبِّ 'سيلفي' تلك فخانته وخانت الشاعرَ مع حبيب آخر.
تمددت حِبالُهُ الصوتية ورفع صوته إلى السماء كأنما يُطْرِبُ القمر والغيوم والنجوم، صار يَصْدَحُ كأنه بُلْبُلٌ حلَّ عليه فصل الربيع.
لم يكد يَتَغَنَّى بالبيتِ الأخيرِ من الأغنيةِ حتى سمع تصفيقًا بطيئًا نابعًا من الخلفِ، لكنه يصبح أقرب شيئا فشيئا.
استدار 'جود' ليرى أمامه رجلاً ببذلةٍ أنيقةٍ حديثةِ الطرازِ يتقدم نحوه وهو يصفق مبتسمًا.
ظل 'جود' يَحْدُجُ الرجلَ بنظراتٍ مُتَمَعِّنَةٍ والخوف يَتَمَلَّكُه وشبح السجن والإعدام يُحَلِّقَانِ فوق رأسه، حتى انحنى الرجل ليصل إلى نفس مستوى طول 'جود' ، ابتسم الرجل من جديد فبادَرَ قائلا :
"Dis-moi, comment tu t'appelles ?"
(أخبرني، ما اسمك؟)
رد عليه جود بصوت منخفض لكنه صارخٌ بالتردد والخوف :
"Jude.."
(جود)
"Jude comment?"
(جود ماذا؟) *يقصد ما اسم عائلتك؟ *
"Juste Jude"
(فقط جود)
"Tu sais Jude ? tu as vraiment une très belle voix.. Une voix angélique.."
(أتدري يا جود؟ لديك حقا صوت جميل.. صوت ملائكي..)
"Merci, mais.. Excusez moi monsieur, qui êtes vous ?"
(شكرا، لكن اعذرني يا سيدي، من تكون؟)
"Edgar Evans, le propriétaire du 'grand théâtre de Paris, n'aie pas peur'"
(إدغار إيفانز، مالك مسرح باريس الكبير، لا تخف)
قال الرجل الغريب هذه الكلمات وأشارَ بأصبعه إلى المسرح، لمعت عَيْنَا 'جود'، وكان رَدُّ الرجلِ على هذه اللَّمْعَةِ الخاطِفَةِ ابتسامةٌ دافئة.
وبعد مرور عِقْدَيْنِ من الزَّمن، كان 'جود' بالفعل واقفا فوق خشبة مسرح باريس الكبير، يلبس قناعا وزيا، يحكي القصص والأساطير، يعزف الموسيقى ويغني ويرقص بينما تملأ ملصقات عرضه شوارع باريس :
?
Plaisir d'amour ne dure qu'un moment
Chagrin d'amour dure toute la vie
مُتْعَةُ الحبِّ لا تدومُ سوى للحظةٍ
لَكِنَّ ألمَ الحب يبقى طوال الحياة
يبدو أن الآلهةَ قد كانت إلى جَانِبِهِ بَعد كل شيء!
النهاية
التعديل الأخير بواسطة المشرف: