مَنبوذَةٌ مِنَ الطَرَفَينِ.
تائِهَةٌ بَينَ مَنْ أنا؟ وَمَنْ أكونْ؟
أكانَ القََمَرُ المُكتَمِلُ ما جَعَلَني مَنبوذة ؟
أم هو فَتَحَ عَينَيَ عَلى الحَقيقَةِ التي أصرَرْتُ تَجاهُلَها
حَقيقَة كَونِي مَسخَاً.
×××
سَماءٌ صافيةٌ يَتوسَطُها بَدرٌ. كانَ هذا هوَ المَنْظَرُ الذي تُحَدِقُ بِهِ بِخَوفٍ مِن نافِذَتِها في الطابِقِ الثاني.
ارتَعَشَتْ، فَأغلَقَتِ النافِذةَ مُسدِلةً السِتارَ عَلَيها. ثُم استَدارَتْ لِتَنْظُرَ إلى غُرفَتِها التي لَم تَحوي إلا سَريراً بِمِلاءاتٍ بَيضاءٍ يَتَوَسَطُها ومِرآةً تُواجِهُ البابَ.
أخَذَتْ نَفَسَاً عَميقَاً مُحاوِلَةً تَهدِئَةَ نَفْسِها ثُم اتَجَهتْ بِثباتٍ نَحو بابِ الغُرفَةِ الخَشَبي. كَمْ تَمَنَتْ لَو كانَ مِن مَعدَنٍ، عَلَهُ مَنَحَها أمانَاً أكبَرَ اللَيلَةَ.
أقفَلَتْهُ بِهُدوءٍ ثُمَ التَفَتَتْ، لِتَلمَحَ انعِكاسِ صُورَتِها عَلى المِرآةِ. كانَ شَعرُها الأشقِرُ يُغَطْي وَجهَها تَماماً، حَتى باتَ ادراكُ مَلامِحها صَعباً.
ازاحَتْ بِضعَ خُصلاتٍ مِنهُ كُنَ يُغَطينَ عَينَيها، لِتَظهَرا خَلفَهُنَ، زَرقاوانِ كَالبَحرِ الصافيْ. ما إنْ طَرَفَتْ حَتى صُبِغَتا بِحُمرَةٍ قانيَةٍ،
وأسنانُها كُلها باتَتْ أنياباً. شَدَتْ ثَوبَها الأبيَضَ المُهتَرئ وتَسارَعَتْ دَقاتُ قَلبِها وهيَ تَسمَعُ عِواءَ ذِئابٍ يَتَعالى مِنَ الخارِجِ.
هَمَسَتْ مُحَدِقَةً بِذاكَ الإنعِكاسْ :"مَسخ".
رَغمَ تِكرارِ هذا الامر شَهريَاً، إلا أنَها لَم تَعْتَدهُ إلى الآن. واستَمَرَتْ بِحَبسِ نَفسِها كُلَ لَيلَةٍ قَمراءَ أمَلَاً بِالنَجاةِ. كانَ كُلُ فِكرِها أنَها لَو أُمْسِكَتْ يَومَاً سَتُقْتَل.
كَيفَ لا وهيَ هَجينَةٌ في عالَمٍ يَحكُمُهُ المُستَذئِبونَ. أكانَتْ ضَحيةَ ذاكَ الحُبِ الأعمى الذي جَمَعَ بَينَ مُستَذئِبٍ تَمَرَدَ على قَبيلَتِه وَفَتاةٍ مِن آخِرِ سُلالةٍ بَشَريَةٍ؟
أم كانَت ضَحيةَ حَظِها الذي جَعَلَها مِن ضِمنِ الأقَليَةِ الذين يولَدونَ كما اسمَتْهُم -مُسوخَاً- .
ها هيَ الليلَةُ تُكمِلُ عامَها السادِسَ عَشر دونَ أن تَعرِفَ مَن تَكونْ.
لَمْ تَستَطِع –حَتى لِمرَةٍ واحِدَةٍ- التَحولَ إلى ذِئبٍ كامِلٍ لِتُطْلِقَ عَلى نَفسِها مُستَذئِبٌ، وتَحولُها الجُزئيُ هذا يَأبى أنْ يُسمِيها بَشَرية.
أعادَها إلى وَعيها وَقعُ خُطُواتٍ عَلى السُلَمِ. وأعادَ مَعَهُ خَوفَها وارتِجافَها.
كانَتْ تُدرِكُ أنَ الَمنْزِلَ خالِيٍ مُنذُ وَفاةِ والِدَيْها، فَمَنْ عَساهُ يَتَجِهُ نَحوَها صُعُودَاً؟
اتَكَأتْ عَلى البابِ دافِعَةً إياهُ بِقوَةٍ. أمَلَاً أنْ تَمنَعَ الصاعِدَ مِنْ فَتحِه.
ثُمَ سَرَحَتْ في ذِكرَياتِها، حَتى شَعَرَتْ أنَ شَريطَ حَياتِها يَمُرُ أمامَها قَبلَ ان توَدِعَ هذا العالَم.
تَذَكَرَتْ مَنْزِلَ طُفولَتِها الخَشَبي ذُو الغُرفَةِ الواحَدَةِ، عِنْدَما كانْوا يَسكُنُونَ قُربَ البَشَرِ.
تَذَكَرَتْ ابتِسامَةَ والِدَتِها الَتي تَبعَثُ في نَفسِها السَكينَةَ والطاوِلَةَ التي كانَتْ تَجْمَعُهُمْ عَلى العَشاءِ
وَوالِدَها وَمُغامَراتِهِ التي يَقُصُها عَلَيهما بِفُكاهةٍ. كَمْ افتَقَدَتْهُما.
غَطَت الدُموعُ عَينَيها وَهيَ تَتَخَيلُ طَيفَيهِما يَمُرانِ أمامَها لِيَطبَعا عَلى جَبينِها قُبلَةً وَيَهمِسا لَها "نُحِبُكِ".
كَمْ كانَتْ غَبيةً حينَ عَصَتْ أوامِرَهُما وأفسَدَتْ الهُدوءَ الذي كانّا يَعيشانِهِ.
لِما أصَرَتْ أنَهُما عَلى خَطَأٍ حِينَ اخْبَرَاها بِاستِحالَةِ تَقَبُلِ العالَمِ اختِلافَها.
تَذَكَرَتْ هُروبَها مِنَ المَنزِلِ في عامِها الثامِنِ، حينَ قرَرَتْ اثباتَ خَطَئهِما.
لكِنْ اتَضَحَ أنها المُخطِئة. فَما إن رَأى أصدِقاؤها المَزعومونَ تَحَولُها حَتى فَرَوا مِنْها هارِبينَ بِأعيُنٍ مليئة بِالدُمُوعِ.
فَعادَتْ إلى مَنْزِلِها مُحبَطَةً مَكسُورَةً. لَمْ تَملِكْ مِنَ الجُرأَةِ ما يُأَهِلُها لِإخبارِ والِدَيها ، فَأحتَفَظَتْ بِهِ سِرَاً.
لكِنَ سِرَها الصَغيرَ لَمْ يَلبَثْ طَويلَاً حَتى كُشِفَ، حَينَ اقتَحَمَ أهلُ القَريَةِ دارَهُم حامِلينَ فُؤسَاً وَمَعاوِلاً لِقَتلِها.
فَما كانَ أمامَ والِدِها إلا أنْ يَنقَضَ عَلَيهُم بِأنيابِهِ لِحِمايِتِها.
ارتَعَشَتْ مُحاولِةً نِسيانَ تِلكَ الليلة الَتي غَيرَتْ كُلَ شَيءٍ مَعَها، وبِالأخَصِ والِدَتَها الَتي سُلِبَتْ روحَ الحَياةِ مِنها تارِكَةً إياها مُجَوفَةً.
وَتَحَوَلَتْ نَظَراتُ الحُبِ في عَينَيها إلى سُخطٍ وَكَراهيَةٍ. حَتى اكتَشَفَتْ أنَ قَتلَ نَفسِها كانَ أفضَلَ حَلٍ.
فَوَدَعَتْهُا بِجُملَتِها الأخيرةِ التي كانَتْ كَخِنجَرٍ طَعَنَ قَلبَيهُما وتَرَكَهُما يُقَطِرانِ دَماً
"المَوتُ أفضَلُ مِنْ العَيشِ مَعَ مَسخَينِ مِثلَيكُما".
رَحَلَتْ والِدَتُها. ثُمَ رَحَلَ والِدُها بَعدَها بِعامٍ تارِكَينَ إياها وَسَط المُستَذئِبينَ وَحيدَةً وَهيَ لَمْ تَتَجاوز الرابِعَةَ عَشر بَعد.
تَساقَطَ الدَمعُ مِن عَينَيها وَاعتَصَرَ قَلبُها نَدَمَاً.
شَعَرَتْ بِأنفاسٍ جائِعَةٍ تَختَرِقُها وَزَمجَرَة قَبلَ أن يَدفَعَها البابُ أرضَاً لِيَنقَضَ عَلَيها ذِئبٌ يَنهَشُها.
نَظَرَتْ إلى انعِكاسِها في المِرآةِ مُودِعَةً، لكِنَ صَدمَتَها كانَتْ أكبَرَ مِنْ أنْ تُوصَفَ.
إذ بَدَأ الشَعرُ يَنبُتُ على جِسمِها. وباتَتَ ذِئباً.
#مُلهم_3
التعديل الأخير بواسطة المشرف: