مسرحية في الصحراء (1 زائر)


عبدالله 3

“فَمَتَى رَأَيْتَ بُسْتَاناً يُحْملُ في رُدْن ، ورَوْضَةً تُقَلُّ في حِجر
إنضم
14 يناير 2022
رقم العضوية
12560
المشاركات
352
مستوى التفاعل
1,256
النقاط
132
أوسمتــي
3
توناتي
3,265
الجنس
ذكر
LV
0
 
الاسم: هبة.

العمر: 58 عاماً.

التحصيل العلمي: بكالريوس أدب ألماني- ماجستير في التمثيل المسرحي.


كانت السيدة المخضرمة المثقفة والتي تمتلك ملامح صارمة وقورة، تكتب مراجعة أكاديمية عن مسرحية "بيت الدمية"، ثم طرحت القلم؛ لأنها تعبت من الكتابة. أرادت شرب مشروب ساخن؛ فاتجهت إلى المطبخ. وضعت السيدة هبة الركوة على البوتاجاز ثم استندت على حوض المغسلة في انتظار غليان القهوة. ارتشفت فنجان قهوتها، وكانت سارحة في التفكير والتوغل في ظلمات العقل الباطن المُشبع بالأفكار الهائجة، والذكريات المحبطة، والأحلام اليائسة التي لم ولن يكتب لها أن تكون حقيقة ماثلة في هذا العالم المفرط في الواقعية والراشح بالمنغصات والآلام والصدمات.

بعد فترة يسيرة قالت لنفسها وهي تفتح عينيها أوسع ما استطاعت أن تفتحهما: لماذا لا أؤدي مسرحية في الصحراء ليلاً؟ ليس لشيء! إنما لكي أقدم عرض ترفيهي للنجوم والشهب. إن ذلك يذكرني بالأيام الخوالي: عندما كنت أقدم مشروع التخرج وكنت ألعب فيه دور الجنيّة الواقعة في حب الشاب الأمير المنتمي للعصور الوسطى.

في ظهيرة اليوم التالي، اعتمرت السيدة هبة قبعة رأس وانطلقت إلى سيارتها القديمة الطراز.

سارت المركبة على حصباء الطريق لثلاثة ساعات متواصلة. كانت شمس العصر لا زالت متوهجة وتلفح الكون بالدفء.

اختارت السيدة هبة إيقاف سيارتها في بقعة سهلة مجاورة للسبخات. نزلت من سيارتها وتأملت عزلة المنطقة وخلوها من الطير والنبات. شعرت بالجوع فتناولت شطائر اللحم البارد وشربت من قنينة البيبسي. كان النهار يوشك على الانقضاء.

أتى المساء ولمعت النجوم الزرقاء. كان الليل حاراً والرياح فاترة. بدا الكون كما لو كان يمهد الأجواء للسيدة هبة. في تلك الأثناء كانت تتحدث إلى أفكارها الخاصة. أيقظت في نفسها ذكريات مريرة محزنة؛ لأنها أرادت مواجهة الماضي من جديد مستعصمة بشعور الغضب العاقل الواعي. أخذت السيدة هبة شهيقا عميقا تمهيدا لبدء العرض المسرحي. كانت في قرارة نفسها مؤمنة بأدواتها التمثيلية. قالت بصوت قوي يٌسمع صداه من مسافة أميال وأميال:


"التوحد! التوحد! إنني مصابة بالتوحد. يخيل إلي أنك تنصتين إلى كلماتي يا أيتها النجوم البعيدة. ثمة موهبة تتحشرج في حنجرتي.. إنها موهبة الكلام المكبوت في داخل الروح. سوف أحكي حكايتي العاطفية، والتي من سوء الطالع لم تكن لها نهاية سعيدة؛ بل نهاية مخزية. عندما كنت شابة عشرينية كان شكلي يخلو من البهاء مثل فنجان قهوة يخلو من السكر. ولهذا السبب لم أحظى يوماً برجل يشاطرني توحدي. ورغم جمالي المتوسط، كنت أعرف أنه من حقي أن أتزوج بشاب لطيف ويبادلني الحب. في تلك الفترة من عمري، كنت أعمل على تثقيف شاب جميل المحيا في اللغة الألمانية. كنا نستذكر الدروس في حجرة القعود. استبدت بي مشاعر الانجذاب والإعجاب اتجاهه منذ أول يوم قابلته فيه. كنت أبتهج كلما التقت نظراتي نظراته. كان حبي له مثل المدّ والجزر في حركة دؤوبة لا تهدأ.


كنت أعرف أن ابنة خالته تريد الاستحواذ عليه، وأنها لن تتوانى عن سحق كل أنثى تسعى للتقرب منه. ذات مرة، كانت موجودة أثناء الدرس، وقرأت في عينيها الشامختين المتعجرفتين تقول لي: انتهى الدرس! غادري المكان أيتها المخلوقة القميئة الممسوخة؛ كي أجلس قرب حبيبي". في الحقيقة إن ذلك الشاب يتمتع بجمال يوسفي. كنت أصلي في حجرتي المظلمة الباردة بفضل جهاز التكييف. وقلت بخشوع وتذلل للرب السميع الرؤوف: " يارب امنحني شاباً على ذات الصورة الحسنة والهيئة الكاملة من الشاب الذي أحبه. إن لم يكن في البُعد الواقعي فاجعله ينتظرني هناك في قطعة من الفردوس".


كنت أول شيء أفعله عند بدء كل يوم هو أن أجعل عقلي يستحضره فأراه يبتسم لي ابتسامة حانية رقيقة. وتمادى بي الخيال بأن أتخيله يرتشف فنجان القهوة معي إما في المطبخ أو في الصالة. لم يسبق لأمه أن قامت بواجب الضيافة نحوي. لم تسقني حتى كوب ماء؛ ذلك بأنها تبغضني لأنني لست جميلة ولست فاتنة. ولأنني وحيدة. ففي الواقع، ليس لي أُمْ، ولا أَبْ، ولا أَخْ، ولا أُختْ، ولا حتى قطة تسلي وحدتي. لا أملك إلا قدر لا بأس به من الثقافة ووظيفة شريفة تلبي احتياجاتي البسيطة في الحياة. سوف أعود إلى صلب الموضوع يا أيتها النجوم؛ أعلم أنني تطرقت إلى موضوع آخر. كان حبي لذاك الشاب يزداد ويتفاقم بصورة هيستيرية. ولأنني لا أرى نفسي من الفئة التي ترى في التعبير عن الحب جريمة، قلت له: "أنا أحبك! فهل تتزوجني على سنة الله ورسوله؟ ونُكَوِّنْ معاً أسرة سعيدة". حينذاك حدق فيّ تحديقا طويلاً قاسياً ينم عن الصدمة والمفاجئة. أما والدته فقد جاءت مسرعة إلي ورشقتني بكلمة نابية فاحشة وحملتني على النهوض وساقتني إلى الباب. كانت تدفعني كما لو كنت بهيمة -عديمة الشعور- وبهذا التصرف الفظ تمكنت تلك العجوز الغضوب أن تنزل بي أعظم مهانة. أتذكر أن الدوار كاد يعصف برأسي وأهوي على الأرض. لم أصدق أنني وصلت إلى المنزل حتى لجأت إلى زنزانتي المحبَّبة وحبست نفسي فيها. أتذكر أني بكيت في لوعة بقية ذلك اليوم. بقيت لفترة طويلة نسبياً رازحة تحت وطأة العار والذل. كانت معرفتي بحقيقة الناس وحقيقة الحياة أفضل تعزية لنفسي. هذا هو الملف العاطفي الفاشل الذي أملكه يا أيتها النجوم."


أطبقت السيدة هبة فمها؛ لأن هذا الاعتراف العاطفي الفيّاض استلزم منها أن تعمد على تهدئة أعصابها المشحونة. غير أن الذكرى الموجعة تبقى راسخة في المخيلة حتى لو تقادم العهد بالإنسان القانط المكسور. كانت السيدة هبة تعلم أن كلماتها وأدائها التمثيلي الصادق قد وصل إلى النجوم؛ لأنها غدت أكثر لمعاناً وإشراقة. اعتبرت هذا المشهد بمثابة مواساة من النجوم البعيدة.
 
التعديل الأخير:

المتواجدون في هذا الموضوع

المواضيع المتشابهة

أعلى أسفل