أراد الطالب الجامعي (يحيى) قضاء إجازة نهاية الأسبوع في الحديقة التي تم افتتاحها منذ أيام قليلة. لم تكن أمه راضية بشأن ذهابه إلى هناك وقالت له:
-عزيزي يحيى، لا تذهب إلى الحديقة!- لست مرتاحة لهذه النزهة على الإطلاق.
-لماذا لستِ مرتاحة يا أمي؟
-يكفي أن الحديقة تطل على سبخة كبيرة لا أحد يعرف ماذا يعيش فيها. اذهب إلى البحر..
-كلا يا أمي، لا أحب البحر!، أحب الحديقة.. لقد روى لي صديقي الجمال الذي رآه هناك، لذا سأذهب إلى الحديقة.
-انتبه على نفسك جيداً يا ولدي
-أوه، مهلاً يا أمي.. أريد منكِ تزويدي بالأطعمة ومطارة الشاي.
تأنق الشاب العشريني أمام مرآة الخزانة، ولبس أروع قميص لديه؛ استعداداً للنزهة. ناولته أمه حقيبة مملوءة بالمأكولات والمشروبات الساخنة وعلى وجهها الوضّاء أمارات القلق:
-لا تتأخر كثيراً!
-حسناً! سأرجع قبل منتصف الليل
لوَّح لأمه وهو يركب سيارته. ثم انطلق إلى وجهته المعلومة.
كانت الحديقة مكتظة بالناس. سار يحيى إلى زاوية نائية؛ لكي يبتعد عن صخب الأصوات ويختلي بنفسه. وبينما هو يسير سمع شاباً يقول لصاحبه: لقد فُتحت عيني الثالثة. نقرت جبيني بأصابعي وقمتُ بتفعيل الغدة الصنوبرية، ومنذ ذلك الحين أرى أشياء لا يراها غيري.
وماذا رأيت؟
-أوه! رأيتُ...
ما عاد صوتهما مسموعاً ليحيى. ولكن الجملة الذي تفوه بها ذلك الشاب لا تزال تضطرم في ذهنه مثل ارتطام مكعبات الثلج بحواف الكأس مخلفة صدى قادم من عالم آخر. ألقى بنفسه على البساط العشبي. وحدق في النجوم العنقودية المنثورة في سماء الليل. ثم أغمض عينيه. وأخذ شهيقاً عميقاً لملأ رئتيه بنسمات هواء الصيف. وأصغى إلى همس الأشجار الواقفة قبالة السماء. وأحس أن الأرض تحمله مثل مصعد نحو أعماق الفضاء السحيق. أبدع يحيى بالإنصات إلى لغة الطبيعة من حوله. ثم فعل مثلما قال الشاب. ونقر بأصابعه النقطة بين عينيه. واصل الضغط على رأسه وأحس بالصداع. فنام ورأى في الحلم ما يلي:
ظهر رجلٌ في عنفوان الشباب في عهدٍ قديم -حيث كانت الأهرامات قد بُنيت حديثاً- ولا يزال محتفظاً بشبابه حتى وقتنا هذا. عاش هذا الإنسان العتيق خلال مسيرة حياته سائحاً في الأرض. ولا بد أن يقع اختياره في كل مرة على يابسة غير مأهولة بالبشر: يقطن هذا الرجل إما في قارة صحراوية أو قطعة أرض ضامرة وسط المحيط الهادر. ولكنه أخيراً قرر مبارحة مقامه الأخير، ليأتي إلى هذه الحديقة العامة؛ ويتخذها مقره التجسسي على الناس، ويبث أفكاره السوداوية الشيطانية إلى خواطرهم. ولا أحد يستطيع أن يطلع على خبره إلا من يمتلك عين عقل متفتحة مبصرة للأشياء التي لا يميل الناس في غالب الأوقات إلى الانتباه لها. ومن يطلع على سر هذا الرجل -المختلف بطبيعته عن سائر أنواع البشر- حتى لو كان عن طريق الرؤى فسوف يُظهر نفسه له؛ من أجل أن يشطره نصفين!.
"يحيى! أفق من نومك! يوجد شيطان بين جنبات الحديقة يتعقبك بعينه القادحة! غادر الحديقة في الحال!" قطع صوتاً ما حلمه المجهول التفسير. كان صوتاً ملائكياً بدا له آتياً من عالم المنام. قال الشاب في نفسه: "ربما أخذت غفوة وأنا لا أعلم".
مد يده داخل الحقيبة وأخرج مطارة الشاي وعلبة الكعك الصلب وقدح زجاجي. وشرع يأكل ويرتشف الشاي. بعد هنيهة حامت قطة حوله وهي تموء له، فرمى لها قطعة كعكة. ثم لاحظ أن القطة تنظر بتركيز شديد ناحية الجهة الشرقية الشديدة العتمة فقد كان عمود الإنارة هناك مكسوراً. استمرت القطة لدقائق تحدق هناك مصدرة صوت قرقرة فأدرك الشاب أنها خائفة من شيئاً ما متوراياً خلف الأشجار. فرَّت القطة بعيداً عن المكان.
كان الزوار يغادرون الحديقة تباعاً. الأمر الذي نكَّدَ عليه؛ لأنه يعرف لا يجدر به البقاء في مكان مثل هذا بمفرده. سقط قدح الشاي الساخن من يده، لحظة رؤيته ظلاً يتحرك بين الأشجار في نفس تلك الجهة. وقرر في نهاية الأمر مغادرة الحديقة لكن بعد أن يذهب إلى دورة المياه. لم يكن المبنى كبير من الداخل. فله باب حديدي ثقيل بمزلاج. وفيه مقعد مرحاض. هذا بخلاف صنبور مفلوق تتسرب منه المياه لتقطر على الأرضية الرخامية مكوِّنة بركة. بعد ذلك خرج مسرعاً ليجمع أغراضه ويغادر الحديقة. لكنه تفاجأ بما رأى..
إذا لم تكن عيناه تغشانه فقد رأى إنساناً غريباً، لم ير أفظع منه خلقة، يجلس في بقعته.
فكر يحيى في نفسه مستوحشاً من ذلك الجالس عند حقيبته: "إنه الشخص نفسه الذي رأيته في الحلم!"
ولمَّا نظر حوله في جميع الجهات، راعه خلو الحديقة من الناس. ولم يكن هذا الجزء الأسوء من القصة. بل انتبه إلى أن البوابة قد أُغلقت ولا شك أن ذلك قد تمَّ بفعل فاعل.
"لقد أصبحت لوحدي في الحديقة!" قال يحيى وهو يشهق في ذعر ناقلاً بصره بين ذالك الشخص الجالس في انتظاره والبوابة المغلقة.
فكر يحيى بالفرار عندما شاهد الغريب يموِّه أنه منشغل باقتلاع العشب. لكن لم تكن لتنطلي هذه الخدعة الشيطانية على الشاب الفطن؛ لأنه لمح ركبته ترتفع عن الأرض كأنه على وشك الوقوف والجري باتجاهه. ركضَّ يحيى -بأقصى سرعة سمحت له ساقيه- إلى دورة المياه دون النظر خلفه. على جناح السرعة أغلق الباب بالمزلاج. وتراجع بضع خطوات إلى الوراء. لقد صدق حدسه؛ إن ذلك المخلوق الغامض هو الذي كان يتتبعه في الظلمة، وهو الآن يقرع الباب. جلس يحيى على غطاء المرحاض محاولاً تهدئة مخاوفه وبعث الأمل في نفسه بأنه سيكون بخير.
"يحيى!" قال الصوت القادم من الخارج بهمس مسموع وفي صوته المنغم غموضاً وبرودة غريبة
سرت قشعريرة خوف في جسم يحيى جاعلة بذلك كل شعرة من أطرافه تقف. وتساءل في نفسه: إنه يلفظ اسمي! كيف يعرف اسمي؟"
_________________________________________________________
لفترة قصيرة عمّ الهدوء المكان. وفجأة عاد الشخص الذي في الخارج يشن هجومه على الباب. ولكن هذه المرة بحدة أكبر وأعنف. وكان يحيى يصرخ يائساً: يا ربي! ساعدني!
ظل يركل الباب حتى تداعى أمامه محدثاً صوت دوي حاد. التصق يحيى في الزاوية وكان شاحباً ملؤه الخوف عندما رأى صاحب الخلقة الممسوخة يدنو منه. لكن حدث شيء يشبه المعجزة. تزحلقت قدمه بسبب المياه المكوّمة على الأرضية فسقط على وجهه سقطة مدوية. ولم يفوت يحيى فرصة الهروب السانحة حتى اندفع إلى خارج الحمام. وركض بسرعة قصوى نحو بوابة الحديقة المغلقة، وقبض على القضبان يهزها وصرخ بأعلى صوته: انقذوني! النجدة!
لكن الأمر كان أشبه بطلب المساعدة من قطط الحديقة. فلم يكن أحد يسمعه. نظر إلى مبنى الحمام الواقع في وسط المنتزه؛ لأنه كان يتوقع أن يخرج الشيطان في أي لحظة.
خطرت في بال يحيى فكرة حسنة. وهي التخفي وراء الأشجار الكثيرة وأسيجة العشب. فالحديقة كبيرة المساحة ومن الصعب على عدوه البري العثور عليه. ظل يزحف على ذراعيه وركبتيه. متنقلا من شجرة إلى شجرة ومن سياج عشبي إلى آخر. وبين الفينة والفينة كان يرفع رأسه قليلاً وينظر إلى مدخل الحمام. في المرة العاشرة التي رفع فيها بصره نحو مدخل الحمام رأى الشيطان يخرج لتوه ويتلفت يمنة ويسرة باحثاً عنه.
زحف الشاب المسكين إلى الجهة الأخرى ورأى زمرة من الكلاب الضالة تدخل أرض الحديقة من فتحة كبيرة بين القضبان تكفي لمرور رجل ضخم عبرها. تهلَّل وجه يحيى لرؤيته الفتحة فلم يخطر في باله أنها موجودة من الأساس. رغم أن الكلاب الضالة قد تكون خطيرة جداً في بعض الأحيان ولكنها أيضاً تكون جبانة حين تجد من الإنسان الجلد والمقاومة. هذا ما فكر به يحيى. لذلك قام بنزع قميصه ولوّح به كما لو كان سلاحاً. فهربت الكلاب النابحة. ارتدى قميصه على عجل وهو يركض صوب الفتحة. وجد نفسه أمام السبخة الكبيرة البيضاء. لكنه لم يجزع وعرف أن عليه الدوران حول القضبان للوصول إلى سيارته. تحسس جيبه؛ للتأكد من أن مفتاح سيارته لم يسقط منه في خضم هذه المطاردة الملحمية. مد يده في داخل جيب بنطاله الضيق وقبض عليه بيده وهو يركض لأنه سوف يركب سيارته بعد قليل. لكنه سمع صوت خطوت سريعة تجري وراءه. وفجأة قبضت يداً قوية على قميصه من الخلف. وبحركة جريئة من الشاب هوى بطرف المفتاح ونخز به عين ملاحقه فاحتقن وجهه المخيف من الغضب وراح ينتفخ كالبالون. زحف يحيى إلى الوراء بواسطة مرفقيه ووجهه مقابل الوجه المستدير. ثم نهض مواصلاً ركضه رغم احساسه بألم في جنبه. أسرع إلى السيارة وكان متحاملاً على الألم. وحين التفت إلى الوراء وجد ذلك الشخص على مبعدة أمتار قليلة منه وكان غضبان غضبة لا يغضب مثلها إلا رجل واحد. كان يحيى يقرأ عنه.
شرع يحيى يضع المفتاح في ثقب باب السيارة ولكنه سقط من يده. تمالك أعصابه... وقال جملة قد انقلب كل شيء على إثرها:
-إن كان الذي ببالي فسوف أقرأ سورة الكهف!
ماذا حدث؟
الآن لا يسمع يحيى سوى صوت أنفاسه اللاهثة. ولا يحس بشيء عدا نسيم الصيف الذي يداعب وجهه المتصبب عرقاً. تلفت حوله ولكن لا أحد غيره في الجوار!!
التقط مفتاح سيارته من الأرض، وأدار محرك السيارة وانطلق مبتعدا عن الحديقة التي باتت في ذهنه موطن الشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضغط يحيى بلا توقف على زر جرس المنزل. وحين فتحت له الأم والقلق بادياً على وجهها، انهار باكياً على البساط الموضوع عند الباب. لم يكن مصدقاً أنه يرى أمه ومنزله من جديد. صاحت الأم وهي تضم رأس ابنها: "يحيى! ماذا بك؟ لماذا أنت معفر بالطين والأوساخ؟ من فعل بك هذا؟"
أجاب يحيى ونشيج البكاء يقطع كلماته: الشيطان! الشيطان! أراد قتلي.
صاحت الأم: الشيطان!
هرعت الجارة وزوجها من الباب المجاور يسألونهما بذعر: ما الأمر؟ ما الأمر؟
أجاب يحيى وكلماته يدخل بعضها في بعض: "أراد رجلٌ غير معروف قتلي في الحديقة!"
ناولته أمه كأس ماء وقالت بصوت متهدج عطوف: "اهدأ حبيبي! أنت الآن في المنزل- أنت في حفظٍ وأمان
بعد أن هدأ يحيى قليلاً، قام برواية القصة من أولها لآخرها. لا أحد يستطيع وصف شعور الأم وهي تستمع لكلمات ولدها الوحيد وهو يقص على الملأ أنه كاد يُقتل منذ قليل.
سأله الجار: "صِفْ لي شكل الرجل الذي هاجمك"
- لقد كان دميم الخلقة على نحو لا يوصف
أمسك الرجل بذراع يحيى وقال: "يحيى، يجب أن تذهب معي حالاً إلى مركز الشرطة.. يجب عليك إخطار المحقق عمّا حصل معك"
لم تشأ الأم ترك ولدها يذهب بمفرده فذهبت معهما.
لحظة عودتهم من مركز الشرطة. قالت الجارة الطيبة وهي تضع إبريق الحليب على الموقد: "لا بد أن يحيى جائعاً. الأكل سيكون جاهزاً خلال دقائق قليلة"
-لا أريد أن آكل
"بل ستأكل يا يحيى"، تابع الجار الطيب "لكن عليك أولاً أن تغتسل"
وقف يحيى تحت رشاش الماء مستمتعاً بانسياب الماء الدافئ على رأسه وكتفيه. بفضل الاستحمام بدأ يسترجع عافيته الجسدية والنفسية بشكل ملموس. ارتدى ثياباً نظيفة ومكوية. وجلس على طاولة الطعام في المطبخ.
قالت الجارة مخاطبة الأم قبل أن تغادر: "إذا احتجتما لشيء فما عليكما سوى طرق بابنا"
فتشكرتهما الأم شكراً حاراً.
مرّ شهر على الحادثة المروعة. خلال هذا الشهر، كان يحيى ينام في الصالة مبقياً جميع الأضواء مشتعلة. في بعض المرات كان يفيق من نومه مذعوراً ويرى صورة ذلك المخلوق الممسوخ يطارده في منامه. من البديهي أن يحيى لا يريد سماع ذكر الحديقة فما بال الذهاب إليها.
رغم أن إدارة الحديقة قد أقامت حارساً قوياً يحرس البوابة وكل أركان الحديقة. لكن بعد أسبوع واحد فقط عُثِرَ عليه ميتاً في وسط الحديقة بسكتة قلبية وعلى وجهه علامات الذعر.
-عزيزي يحيى، لا تذهب إلى الحديقة!- لست مرتاحة لهذه النزهة على الإطلاق.
-لماذا لستِ مرتاحة يا أمي؟
-يكفي أن الحديقة تطل على سبخة كبيرة لا أحد يعرف ماذا يعيش فيها. اذهب إلى البحر..
-كلا يا أمي، لا أحب البحر!، أحب الحديقة.. لقد روى لي صديقي الجمال الذي رآه هناك، لذا سأذهب إلى الحديقة.
-انتبه على نفسك جيداً يا ولدي
-أوه، مهلاً يا أمي.. أريد منكِ تزويدي بالأطعمة ومطارة الشاي.
تأنق الشاب العشريني أمام مرآة الخزانة، ولبس أروع قميص لديه؛ استعداداً للنزهة. ناولته أمه حقيبة مملوءة بالمأكولات والمشروبات الساخنة وعلى وجهها الوضّاء أمارات القلق:
-لا تتأخر كثيراً!
-حسناً! سأرجع قبل منتصف الليل
لوَّح لأمه وهو يركب سيارته. ثم انطلق إلى وجهته المعلومة.
كانت الحديقة مكتظة بالناس. سار يحيى إلى زاوية نائية؛ لكي يبتعد عن صخب الأصوات ويختلي بنفسه. وبينما هو يسير سمع شاباً يقول لصاحبه: لقد فُتحت عيني الثالثة. نقرت جبيني بأصابعي وقمتُ بتفعيل الغدة الصنوبرية، ومنذ ذلك الحين أرى أشياء لا يراها غيري.
وماذا رأيت؟
-أوه! رأيتُ...
ما عاد صوتهما مسموعاً ليحيى. ولكن الجملة الذي تفوه بها ذلك الشاب لا تزال تضطرم في ذهنه مثل ارتطام مكعبات الثلج بحواف الكأس مخلفة صدى قادم من عالم آخر. ألقى بنفسه على البساط العشبي. وحدق في النجوم العنقودية المنثورة في سماء الليل. ثم أغمض عينيه. وأخذ شهيقاً عميقاً لملأ رئتيه بنسمات هواء الصيف. وأصغى إلى همس الأشجار الواقفة قبالة السماء. وأحس أن الأرض تحمله مثل مصعد نحو أعماق الفضاء السحيق. أبدع يحيى بالإنصات إلى لغة الطبيعة من حوله. ثم فعل مثلما قال الشاب. ونقر بأصابعه النقطة بين عينيه. واصل الضغط على رأسه وأحس بالصداع. فنام ورأى في الحلم ما يلي:
ظهر رجلٌ في عنفوان الشباب في عهدٍ قديم -حيث كانت الأهرامات قد بُنيت حديثاً- ولا يزال محتفظاً بشبابه حتى وقتنا هذا. عاش هذا الإنسان العتيق خلال مسيرة حياته سائحاً في الأرض. ولا بد أن يقع اختياره في كل مرة على يابسة غير مأهولة بالبشر: يقطن هذا الرجل إما في قارة صحراوية أو قطعة أرض ضامرة وسط المحيط الهادر. ولكنه أخيراً قرر مبارحة مقامه الأخير، ليأتي إلى هذه الحديقة العامة؛ ويتخذها مقره التجسسي على الناس، ويبث أفكاره السوداوية الشيطانية إلى خواطرهم. ولا أحد يستطيع أن يطلع على خبره إلا من يمتلك عين عقل متفتحة مبصرة للأشياء التي لا يميل الناس في غالب الأوقات إلى الانتباه لها. ومن يطلع على سر هذا الرجل -المختلف بطبيعته عن سائر أنواع البشر- حتى لو كان عن طريق الرؤى فسوف يُظهر نفسه له؛ من أجل أن يشطره نصفين!.
"يحيى! أفق من نومك! يوجد شيطان بين جنبات الحديقة يتعقبك بعينه القادحة! غادر الحديقة في الحال!" قطع صوتاً ما حلمه المجهول التفسير. كان صوتاً ملائكياً بدا له آتياً من عالم المنام. قال الشاب في نفسه: "ربما أخذت غفوة وأنا لا أعلم".
مد يده داخل الحقيبة وأخرج مطارة الشاي وعلبة الكعك الصلب وقدح زجاجي. وشرع يأكل ويرتشف الشاي. بعد هنيهة حامت قطة حوله وهي تموء له، فرمى لها قطعة كعكة. ثم لاحظ أن القطة تنظر بتركيز شديد ناحية الجهة الشرقية الشديدة العتمة فقد كان عمود الإنارة هناك مكسوراً. استمرت القطة لدقائق تحدق هناك مصدرة صوت قرقرة فأدرك الشاب أنها خائفة من شيئاً ما متوراياً خلف الأشجار. فرَّت القطة بعيداً عن المكان.
كان الزوار يغادرون الحديقة تباعاً. الأمر الذي نكَّدَ عليه؛ لأنه يعرف لا يجدر به البقاء في مكان مثل هذا بمفرده. سقط قدح الشاي الساخن من يده، لحظة رؤيته ظلاً يتحرك بين الأشجار في نفس تلك الجهة. وقرر في نهاية الأمر مغادرة الحديقة لكن بعد أن يذهب إلى دورة المياه. لم يكن المبنى كبير من الداخل. فله باب حديدي ثقيل بمزلاج. وفيه مقعد مرحاض. هذا بخلاف صنبور مفلوق تتسرب منه المياه لتقطر على الأرضية الرخامية مكوِّنة بركة. بعد ذلك خرج مسرعاً ليجمع أغراضه ويغادر الحديقة. لكنه تفاجأ بما رأى..
إذا لم تكن عيناه تغشانه فقد رأى إنساناً غريباً، لم ير أفظع منه خلقة، يجلس في بقعته.
فكر يحيى في نفسه مستوحشاً من ذلك الجالس عند حقيبته: "إنه الشخص نفسه الذي رأيته في الحلم!"
ولمَّا نظر حوله في جميع الجهات، راعه خلو الحديقة من الناس. ولم يكن هذا الجزء الأسوء من القصة. بل انتبه إلى أن البوابة قد أُغلقت ولا شك أن ذلك قد تمَّ بفعل فاعل.
"لقد أصبحت لوحدي في الحديقة!" قال يحيى وهو يشهق في ذعر ناقلاً بصره بين ذالك الشخص الجالس في انتظاره والبوابة المغلقة.
فكر يحيى بالفرار عندما شاهد الغريب يموِّه أنه منشغل باقتلاع العشب. لكن لم تكن لتنطلي هذه الخدعة الشيطانية على الشاب الفطن؛ لأنه لمح ركبته ترتفع عن الأرض كأنه على وشك الوقوف والجري باتجاهه. ركضَّ يحيى -بأقصى سرعة سمحت له ساقيه- إلى دورة المياه دون النظر خلفه. على جناح السرعة أغلق الباب بالمزلاج. وتراجع بضع خطوات إلى الوراء. لقد صدق حدسه؛ إن ذلك المخلوق الغامض هو الذي كان يتتبعه في الظلمة، وهو الآن يقرع الباب. جلس يحيى على غطاء المرحاض محاولاً تهدئة مخاوفه وبعث الأمل في نفسه بأنه سيكون بخير.
"يحيى!" قال الصوت القادم من الخارج بهمس مسموع وفي صوته المنغم غموضاً وبرودة غريبة
سرت قشعريرة خوف في جسم يحيى جاعلة بذلك كل شعرة من أطرافه تقف. وتساءل في نفسه: إنه يلفظ اسمي! كيف يعرف اسمي؟"
_________________________________________________________
لفترة قصيرة عمّ الهدوء المكان. وفجأة عاد الشخص الذي في الخارج يشن هجومه على الباب. ولكن هذه المرة بحدة أكبر وأعنف. وكان يحيى يصرخ يائساً: يا ربي! ساعدني!
ظل يركل الباب حتى تداعى أمامه محدثاً صوت دوي حاد. التصق يحيى في الزاوية وكان شاحباً ملؤه الخوف عندما رأى صاحب الخلقة الممسوخة يدنو منه. لكن حدث شيء يشبه المعجزة. تزحلقت قدمه بسبب المياه المكوّمة على الأرضية فسقط على وجهه سقطة مدوية. ولم يفوت يحيى فرصة الهروب السانحة حتى اندفع إلى خارج الحمام. وركض بسرعة قصوى نحو بوابة الحديقة المغلقة، وقبض على القضبان يهزها وصرخ بأعلى صوته: انقذوني! النجدة!
لكن الأمر كان أشبه بطلب المساعدة من قطط الحديقة. فلم يكن أحد يسمعه. نظر إلى مبنى الحمام الواقع في وسط المنتزه؛ لأنه كان يتوقع أن يخرج الشيطان في أي لحظة.
خطرت في بال يحيى فكرة حسنة. وهي التخفي وراء الأشجار الكثيرة وأسيجة العشب. فالحديقة كبيرة المساحة ومن الصعب على عدوه البري العثور عليه. ظل يزحف على ذراعيه وركبتيه. متنقلا من شجرة إلى شجرة ومن سياج عشبي إلى آخر. وبين الفينة والفينة كان يرفع رأسه قليلاً وينظر إلى مدخل الحمام. في المرة العاشرة التي رفع فيها بصره نحو مدخل الحمام رأى الشيطان يخرج لتوه ويتلفت يمنة ويسرة باحثاً عنه.
زحف الشاب المسكين إلى الجهة الأخرى ورأى زمرة من الكلاب الضالة تدخل أرض الحديقة من فتحة كبيرة بين القضبان تكفي لمرور رجل ضخم عبرها. تهلَّل وجه يحيى لرؤيته الفتحة فلم يخطر في باله أنها موجودة من الأساس. رغم أن الكلاب الضالة قد تكون خطيرة جداً في بعض الأحيان ولكنها أيضاً تكون جبانة حين تجد من الإنسان الجلد والمقاومة. هذا ما فكر به يحيى. لذلك قام بنزع قميصه ولوّح به كما لو كان سلاحاً. فهربت الكلاب النابحة. ارتدى قميصه على عجل وهو يركض صوب الفتحة. وجد نفسه أمام السبخة الكبيرة البيضاء. لكنه لم يجزع وعرف أن عليه الدوران حول القضبان للوصول إلى سيارته. تحسس جيبه؛ للتأكد من أن مفتاح سيارته لم يسقط منه في خضم هذه المطاردة الملحمية. مد يده في داخل جيب بنطاله الضيق وقبض عليه بيده وهو يركض لأنه سوف يركب سيارته بعد قليل. لكنه سمع صوت خطوت سريعة تجري وراءه. وفجأة قبضت يداً قوية على قميصه من الخلف. وبحركة جريئة من الشاب هوى بطرف المفتاح ونخز به عين ملاحقه فاحتقن وجهه المخيف من الغضب وراح ينتفخ كالبالون. زحف يحيى إلى الوراء بواسطة مرفقيه ووجهه مقابل الوجه المستدير. ثم نهض مواصلاً ركضه رغم احساسه بألم في جنبه. أسرع إلى السيارة وكان متحاملاً على الألم. وحين التفت إلى الوراء وجد ذلك الشخص على مبعدة أمتار قليلة منه وكان غضبان غضبة لا يغضب مثلها إلا رجل واحد. كان يحيى يقرأ عنه.
شرع يحيى يضع المفتاح في ثقب باب السيارة ولكنه سقط من يده. تمالك أعصابه... وقال جملة قد انقلب كل شيء على إثرها:
-إن كان الذي ببالي فسوف أقرأ سورة الكهف!
ماذا حدث؟
الآن لا يسمع يحيى سوى صوت أنفاسه اللاهثة. ولا يحس بشيء عدا نسيم الصيف الذي يداعب وجهه المتصبب عرقاً. تلفت حوله ولكن لا أحد غيره في الجوار!!
التقط مفتاح سيارته من الأرض، وأدار محرك السيارة وانطلق مبتعدا عن الحديقة التي باتت في ذهنه موطن الشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضغط يحيى بلا توقف على زر جرس المنزل. وحين فتحت له الأم والقلق بادياً على وجهها، انهار باكياً على البساط الموضوع عند الباب. لم يكن مصدقاً أنه يرى أمه ومنزله من جديد. صاحت الأم وهي تضم رأس ابنها: "يحيى! ماذا بك؟ لماذا أنت معفر بالطين والأوساخ؟ من فعل بك هذا؟"
أجاب يحيى ونشيج البكاء يقطع كلماته: الشيطان! الشيطان! أراد قتلي.
صاحت الأم: الشيطان!
هرعت الجارة وزوجها من الباب المجاور يسألونهما بذعر: ما الأمر؟ ما الأمر؟
أجاب يحيى وكلماته يدخل بعضها في بعض: "أراد رجلٌ غير معروف قتلي في الحديقة!"
ناولته أمه كأس ماء وقالت بصوت متهدج عطوف: "اهدأ حبيبي! أنت الآن في المنزل- أنت في حفظٍ وأمان
بعد أن هدأ يحيى قليلاً، قام برواية القصة من أولها لآخرها. لا أحد يستطيع وصف شعور الأم وهي تستمع لكلمات ولدها الوحيد وهو يقص على الملأ أنه كاد يُقتل منذ قليل.
سأله الجار: "صِفْ لي شكل الرجل الذي هاجمك"
- لقد كان دميم الخلقة على نحو لا يوصف
أمسك الرجل بذراع يحيى وقال: "يحيى، يجب أن تذهب معي حالاً إلى مركز الشرطة.. يجب عليك إخطار المحقق عمّا حصل معك"
لم تشأ الأم ترك ولدها يذهب بمفرده فذهبت معهما.
لحظة عودتهم من مركز الشرطة. قالت الجارة الطيبة وهي تضع إبريق الحليب على الموقد: "لا بد أن يحيى جائعاً. الأكل سيكون جاهزاً خلال دقائق قليلة"
-لا أريد أن آكل
"بل ستأكل يا يحيى"، تابع الجار الطيب "لكن عليك أولاً أن تغتسل"
وقف يحيى تحت رشاش الماء مستمتعاً بانسياب الماء الدافئ على رأسه وكتفيه. بفضل الاستحمام بدأ يسترجع عافيته الجسدية والنفسية بشكل ملموس. ارتدى ثياباً نظيفة ومكوية. وجلس على طاولة الطعام في المطبخ.
قالت الجارة مخاطبة الأم قبل أن تغادر: "إذا احتجتما لشيء فما عليكما سوى طرق بابنا"
فتشكرتهما الأم شكراً حاراً.
مرّ شهر على الحادثة المروعة. خلال هذا الشهر، كان يحيى ينام في الصالة مبقياً جميع الأضواء مشتعلة. في بعض المرات كان يفيق من نومه مذعوراً ويرى صورة ذلك المخلوق الممسوخ يطارده في منامه. من البديهي أن يحيى لا يريد سماع ذكر الحديقة فما بال الذهاب إليها.
رغم أن إدارة الحديقة قد أقامت حارساً قوياً يحرس البوابة وكل أركان الحديقة. لكن بعد أسبوع واحد فقط عُثِرَ عليه ميتاً في وسط الحديقة بسكتة قلبية وعلى وجهه علامات الذعر.
التعديل الأخير: