(باران) شاب عمره زهاء عشرين عاماً. ممتلئ الصحة دائب النشاط. وهو من الرجال ذوي الوجوه الناضرة. كما أنه لين العريكة حسن المعشر. غير أن ضيق ذات يده لم يكن يسمح له بالتقدم لخطبة الفتاة التي يحبها، نانيس، لأن الفقر ضاربٌ أطنابه بالبلاد.
(نانيس) فتاة غضة الشباب، أحلى وجهاً من القمر. إنها في نحو الثامنة عشرة من عمرها. ويكون أبوها من أسمى قومه مكانة ورفعة.
يُشغِل (باران) مصابيح الشوارع في الهزيع من الليل. وقد أظفرته هذه الظروف بموافاة (نانيس) كل ليلة. ويدور سمرهما حول شتى الموضوعات.
وذات مرة قال لها:
- أي نانيس، يلذ لي، مرة ثانية، أسمعك تقولين لي: أحبك!
- كلا!،- قالت نانيس وقد علت محياها حمرة الخفر والحياء
- انظري فوقك! النجوم كلها تلمع!،- قال باران.- كم نجمة تريدين أن أقطف لكِ؟
- ولا حتى واحدة!،- ضحكت الفتاة.- تمنّ أمنية يا باران!
- ليت زواجنا يتحقق،- قال الشاب جملته وأتبعها بتنهيدة.- آنذاك،سوف أنزل والدكِ من نفسي منزلة الأب.
- ليس هذا ويا للأسف دافعاً يقنع أبي بأن تكون صهراً له. فبالأمس كنت قد جسست نبضه حول رأيه في مسألة زواجي من رجل فقير، فأبى عليّ وقال: لا للزواج من رجل فقير... نعم للزواج من رجل ثري.
- أيستوجب فقر الشباب ازدراء والدك لهم؟!
- إنه ينظر إلى موضوع الزواج بعقل وتفكير كثير من الناس.
آنئذ وشحت عينيّ (باران) غمامة من الكآبة وقال: " لا تعكري عليّ صفو سروري"
- اطمئن بالاً يا عزيزي، رغم ذلك، لن أتزوج سواك.
- أأؤمن بهذا الكلام؟
- إيمانك بالله ،- قالت نانيس.- والآن، من صواب الرأي، عليك بالانصراف، فربما يستيقظ أبي في أي لحظة ويرانا معاً.
- وأي ضرر في أن يرانا؟،- قال باران مبتسماً وسع فمه
- عندئذٍ لن يرى أحدنا الآخر بعد ذلك!
- لا. إذا حدث ذلك فسوف أموت من الحزن.
- صه... صه... اذهب الآن، وموعدنا يتجدد غداً
- هو ذاك
انتهى لقاؤهما. حيته (نانيس) بابتسامة حلوة وبإشارة من يدها. ثم توارت عن العيان. عاد الشاب تواً إلى بيته مسروراً. وترك نفسه غارقاً في سبحات خياله.
تشاء المقادير أن يكون ل(باران) جار، اسمه جارم، نفسه تنطوي على العداوة والبغضاء. وإن شاء القارئ أن يعرف سبب نقمة (جارم) على (باران)، بسطنا له حادثة وقعت بينهما، كان فيها (باران) المظلوم و(جارم) الظالم، الأمر الذي حدا بالشابين أن يتعاركا. فطوح باران بجارم. ورغم أن هذا الأمر ليس بذي بال بالنسبة لباران، الذي سرعان ما ينسى الظلم، إلا أن جارم منذئذ يحمل الحزازة في صدره.
كان (جارم) يتسقط أخطاء (باران)، وهو أتبع له من ظله. وذات مرة، خرج (جارم) في جنح الليل وتمكن من أن يلقي بسمعه على حديث العشيقين، فلجأ إلى الوشاية بهما كتابةً. فأيقظ فيه هذا الفعل شعور الفوز، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة شيطانية.
وهذا نص الرسالة التي كتبها:
"سيدي والد نانيس:
أريد أن أكشف لك الشيء الذي يجري وراء ظهرك: باران، مُشغِل مصابيح الشوارع، وابنتك المَصُون يقضيان قسطاً من الليل في سمر ممتع، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.
انتقلت الرسالة من المُرسِل إلى المُرسَل إليه.
اربد وجه الأب من الغضب. ونفر إلى ابنته. ووبخها توبيخاً عنيفاً. وكانت مجهشة البكاء. وعندما أدجن الليل، ضبط (باران) متلبساً بجريمته وأمسك بخناقه وأغلظ له القول: "ويلك من فتى قليل الشرف! ".
لم يُحِر (باران) جواباً، فقد كان وجهه شاحباً. فساقه الأب الثائر أمامه وغاب معه عن أنظار نانيس. وأطلق سراحه قريب مسجد الحارة وزمجر صائحاً: "إياك من الاقتراب من عتبة بيتي".
رغم أن الأمور سارت كما يهوى (جارم) ويشتهي، إلا أن رؤية (باران) في أشد لحظاته ذلاً ما كان ليروي منه الغليل المضطرم بالبغض والكراهية والشحناء.
كانت (نانيس) مسهدة الجفون. كذلك قضى (باران) ليلته سهداً وغماً.
مرت عدة أيام عقب تلك الحادثة. لم يكتفِ الأب بإلزام ابنته التواري في ستر البيت، بل زاد عليها تلويحه لها برغبته في أن يزوجها من رجل يكبرها بسنوات كثيرة.
وفي يوم من الأيام. ضربت (نانيس) تحذير والدها عرض الحائط وكتبت رسالة إلى حبيبها، هذا نصها:
"عزيزي باران
لقد أمرني أبي بالزواج من صديقه لأنه في سعة وغنى. ولن أقوى على تنفيذ أمره وإذا أرغمني على ذلك قتلت نفسي بالسم. أودعك وأستودعك الله.
نانيس"
ثم عهدت إلى صبي من أولاد الحارة بحمل رسالتها. طار الصبي من بيت المُحِبة إلى بيت المُحِب. أصبحت الرسالة في متناول (باران). وعندما قرأها استند إلى الباب حتى لا يقع من شدة الخور. لكنه لم يلبث أن استعاد معنوياته ما دام تغيير الواقع لا يزال في حكم المستطاع.
سعى الشاب مسعى حثيثاً نحو دكان والد الفتاة. فارتسم العُبُوس على وجه هذا الأخير عندما رأى (باران) مقبلاً عليه:
- ويحك! كيف تجرؤ على المثول أمامي بعد الذي حصل؟!
جثا الشاب على ركبتيه وقال متوسلاً: "بربك يا سيدي، لا تكن شديد الوطأة عليّ. في ذمتي، يا سيدي، كنت أنوي دخول البيت من بابه، في سبيل طلب يد ابنتك.
- ما الذي يحوجني لكي أسمح لرجل فقير بالزواج من ابنتي؟
- كم من رجلٍ فقير أغناه الله من فضله!.
- لا تدنُ من الدكان والبيت! امضِ من هنا!
- ناشدتك الله! أن لا تحول بيني وبين الزواج بابنتك
- هل أدلك على شرط إذا حققته زوجتك ابنتي؟
- يا حبذا!
- تدفع لابنتي مهراً، ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً
- ولكن هذا الرقم يناهز ميزانية مؤسسة يا سيدي! كنت أقول...
- ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً! وليس عندي غير هذا الشرط
حينذاك، أبرقت أسارير الأب سروراً عندما رأى (باران) ناكس الرأس مقروح الجَنَان خائب الأمل. فالشاب لا يملك هذا المبلغ المعجز، والرجل العجوز يعرف ذلك.
اضطر (باران) إلى النكوص على عقبيه، يحز في صدره الحزن واليأس.
مرت ثلاثة أيام على المقابلة التي لم تسفر على أيما اتفاق.
كان (باران) فيها نهباً مقسماً للألم والقهر. فأظلمت الدنيا في عينيه، وودّ لو يتخطفه الموت من الحياة التي ما عاد له فيها أمل يزينها له. لاح الفجر في الأفق وتسربت خيوط النور إلى الدنيا. باران عاكفٌ إلى الصلاة والدعاء. وقال متضرعاً إلى الله تعالى:
- يا رب، هبني ثروة مقابل عمري كله! تمكنني من الزواج من الفتاة التي أحبها.
ما كادت الشمس تطلع من خدرها، حتى سمع (باران) صوت قعقعة في ركن ما، فسرح بصره في أنحاء الغرفة، وهو يتمشى فيها، راهف السمع. فوقعت عيناه على الجرة الموضوعة فوق المنضدة الصغيرة بجانب سريره. لقد وجد في الجرة نقوداً. إنها ثروة طائلة!.
طار صواب (باران) من الفرح. وسجد سجدتين شكراً لله المعطي الوهاب. وظل ينظر إلى الكنز وقتاً طويلا.
سرى الشاب في رابعة النهار إلى حبيبته، متناسياً الحظر الساري عليهما كليهما.
- لقد تحققت المعجزة يا نانيس! الآن في بيتي ثروة تمكنني من دفع مهرك لأبيكِ
كادت الفتاة تفقد عقلها بعد هذه الثورة العاطفية، وقالت: بربك! أأنت صادق فيما تقول؟
- أجل. هذا ما حصل! وإنني، على غرار حالك، غير مصدق!
- كيف؟ أنبئني!
- دعوت الله بالرزق فاستجاب لي!
- وتركت هذه الأموال الطائلة عرضة لخطر السرقة؟.
- لا بأس من المجازفة في سبيل الإفضاء بسري إليكِ
- هيا عد إلى بيتك، وبينما أنت تنكص عائداً إلى بيتك، سوف أستمطر لك بركات الله وحفظه ورعايته.
- ليكن!
تقضّى النهار وجاء الليل. كان (باران) ناشراً أمامه على المنضدة: ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً. ولم يشبع من مد بصره إلى هذا المبلغ. حتى فوجئ بصوت دق على الباب. فراعه صوت الدق المختلف عن كل مرة. وهرع ليفتح الباب، فدهش أشد الدهش لمرأى والد (نانيس).
"نمى إلى علمي المعجزة التي حصلت لك، ولست شاكاً أو مرتاباً في تورطك باللصوصية، إذ لم تتسلم الشرطة بلاغاً عن أيما سرقة خلال الأمس واليوم"، قال أبو نانيس، "بالإضافة إلى هذا، أنا أعرفك! فأنت لست خداعاً أفاكاً ولله الحمد والمِنّة. ولا أؤاخذ عليك سوى فعلتك تلك التي أعرفها وتعرفها أنت."، وأضاف قائلاً، "لكن دعنا من الماضي فالحاضر هو الأهم. مساء الغد توافيني في بيتي مصحوباً بالشيخ، أسامع أنت يا فتى؟".
استطار (باران) فرحاً وقال: حباً وكرامة!.
أدبر الليل فجاء النهار، فتلاه المساء وكان القمر، وقتذاك، يبدو ويختفي. وفد (باران) إلى بيت أبي (نانيس) رفقة الشيخ. وتم عقد قرانهما. وكان الفتى آنئذ أسعد السعداء.
خفّ العريس والعروس إلى المركبة واستويا فيها وانطلق الحوذي بهما إلى عشهما السعيد.
في تلك الأثناء كانت نار الحسد تأكل قلب (جارم) وخفقت حناياه بمشاعر الغيرة، حتى أنه بدأ يغمغم ويصر على أسنانه حالما رأى خصمه: إن الحظ ليس وقفاً على الطيبين من الناس، بل إنك لتجد أرذل الناس يتمرغ بالنعيم. أنا أعرفه، حق المعرفة، ذلك الصعلوك الحقير!.
عندما خلا الزوج إلى زوجته، قال: لا أصدق أننا أصبحنا متدانيين!
- كنت أصلي من أجل أن نكون معاً، فقد أحببتك حباً لم أحبه أحداً.
- نحن الآن في سعادة جمة
أوصى أبو (نانيس) بارسال الكفاف من الطعام إلى الزوجين. بعد تناول اللحم والثريد، قشرت نانيس البرتقالة لباران وطرحت القشر. ثم أطعمته بيدها فتناول يدها وقبلها ومتع عينيه برؤيتها.
يومٌ بعد يوم حتى انتظم عشرون يوم. كان منزل الزوجين يفيض هناءة وسعادة. لكن ذلك لم يستمر طويلاً. إذ نقص (باران) من الوزن وفي وقت النوم كان يتصبب عرقاً. وكانت هذه أعراض خطيرة يتكبدها المسكين، والخطب جد عظيم.
ثم أنه في الأيام التالية، تغير (باران) وتبدل شكله تبديلاً كبيراً. لقد فقد الرجل نضارة وجهه، كما أنه بدأ يَهِنُ ويذبل. لاحت على (نانيس) علامات القلق والجزع وقالت له: ماذا يحصل لك يا باران؟! لكنك الآن تبدو أكبر سناً من أبي نفسه!
حينذاك أمسك زوجها بيدها وقال: "أرهفي إليّ بسمعك يا عزيزتي. لقد نذرت عمري مقابل أن أظفر بكِ زوجة رائعة. وها أنا أتقدم بالعمر بمثل سرعة المطر المُساق من العاصفة. وفي نهاية المطاف سوف تؤول بي هذه العاصفة السريعة إلى الموت"، وأضاف، " لا أخفيكِ سراً، أحس أني عشتُ ردهاً طويلا من الزمن. ولم يبق لي إلا لحظات قصار"
ضربت (نانيس) كفاً بكف في تأثر بالغ وقالت: "رباه! ما أشق على نفسي أن أعيش بعدك! أية أعصاب يمكن أن تتحمل هذا؟"
- دقيقة بسنة!
هكذا أصبح (باران) يتقدم بالعمر. الأمر الذي حدا به أن يكون متوكئاً على عصاه التي لا تفارق يده. ورأى (جارم) غريمه على ذلك الحال، فشمت به وظهرت على وجهه علائم الفرح الوحشي والغبطة الجشعة.
لم يعد بإمكان (باران) الخروج من البيت. فاضطجع ضجوعاً في الفراش. وكان يبدو ميتاً أكثر مما هو حياً. لم تترك (نانيس) زوجها وكانت معنية به وتقف على كل شؤونه.
في الوقت الذي حضر الأب فيه؛ لزيارة ابنته، أرهبه منظر زوجها وهو يعاني من الشيخوخة. وهو الذي كان بالأمس مثل ذئب في مقتبل العمر.
- باران شكله هرِمٌ! ما شأنه؟
شرحت (نانيس) لأبيها ما جرى. وكانت عيناها تشرق بالدمع.
قال الأب ناصحاً: "لو أعطيته عسلاً لعاد عليه بفائدة عظيمة"
- إنه يرفض الطعام يا أبتاه.
- هل أجلب الطبيب؟
- لا طبيباً قادرٌ على شفاء باران من علته... سبق السيف العذل.
ولما اقتربت من زوجها الطاعن بالسن ولامست جبهته، لاحظت أنه يعاني من حمى شديدة. كان جسمه كله بارداً كالثلج ما عدا رأسه، فقد كان يلتهب من الحمى. قربت كوب الماء من فمه. لكنه قال بصوت واهن: "أريد قبلا أن أقبل يدك، وبعد ذلك أتجرع الماء"
كادت نانيس تختنق من البكاء. وثقل على الأب مراقبة (باران) وهو يُحتضر ويدخل في النزع الأخير. بعد مرور ساعة من الزمن. دنت أخيراً اللحظة التي انتهى فيها شقائه في هذه الدنيا.
خنقت العبرات نانيس وقالت: "لقد رحلت يا باران! وإني غير مصدقة أنك رحلت، لعمري ما الدنيا بدار إقامة"
- عظم الله أجرك! البقاء لله،- تحشرج صوت الأب.- كفى بالله وكيلاً.
عادت المرأة، المفجوعة بموت أحب الناس إليها، إلى بيت أبيها مجروحة الفؤاد. ولم تجد ما تتعزى به وتتأسى إلا الذكريات، وتخيل طيف زوجها الراحل وهو يطوف أمام عتبة البيت بصورته الشابة النضرة.
تصرمت الأيام والشهور. بعد انتهاء عدة الأرملة، سمعت أباها يرحب بضيفه ويقول له: أهلاً! أهلاً يا جارم! شرفت الدار.
أراد جارم الزواج بنانيس. فقررت المرأة الأرملة بأن تفوّت عليه ما يبغي ويضمر. فليس خافياً عليها أن جارم ليس سوى شمّاتاً لئيم النفس شحيح المروءة.
(نانيس) فتاة غضة الشباب، أحلى وجهاً من القمر. إنها في نحو الثامنة عشرة من عمرها. ويكون أبوها من أسمى قومه مكانة ورفعة.
يُشغِل (باران) مصابيح الشوارع في الهزيع من الليل. وقد أظفرته هذه الظروف بموافاة (نانيس) كل ليلة. ويدور سمرهما حول شتى الموضوعات.
وذات مرة قال لها:
- أي نانيس، يلذ لي، مرة ثانية، أسمعك تقولين لي: أحبك!
- كلا!،- قالت نانيس وقد علت محياها حمرة الخفر والحياء
- انظري فوقك! النجوم كلها تلمع!،- قال باران.- كم نجمة تريدين أن أقطف لكِ؟
- ولا حتى واحدة!،- ضحكت الفتاة.- تمنّ أمنية يا باران!
- ليت زواجنا يتحقق،- قال الشاب جملته وأتبعها بتنهيدة.- آنذاك،سوف أنزل والدكِ من نفسي منزلة الأب.
- ليس هذا ويا للأسف دافعاً يقنع أبي بأن تكون صهراً له. فبالأمس كنت قد جسست نبضه حول رأيه في مسألة زواجي من رجل فقير، فأبى عليّ وقال: لا للزواج من رجل فقير... نعم للزواج من رجل ثري.
- أيستوجب فقر الشباب ازدراء والدك لهم؟!
- إنه ينظر إلى موضوع الزواج بعقل وتفكير كثير من الناس.
آنئذ وشحت عينيّ (باران) غمامة من الكآبة وقال: " لا تعكري عليّ صفو سروري"
- اطمئن بالاً يا عزيزي، رغم ذلك، لن أتزوج سواك.
- أأؤمن بهذا الكلام؟
- إيمانك بالله ،- قالت نانيس.- والآن، من صواب الرأي، عليك بالانصراف، فربما يستيقظ أبي في أي لحظة ويرانا معاً.
- وأي ضرر في أن يرانا؟،- قال باران مبتسماً وسع فمه
- عندئذٍ لن يرى أحدنا الآخر بعد ذلك!
- لا. إذا حدث ذلك فسوف أموت من الحزن.
- صه... صه... اذهب الآن، وموعدنا يتجدد غداً
- هو ذاك
انتهى لقاؤهما. حيته (نانيس) بابتسامة حلوة وبإشارة من يدها. ثم توارت عن العيان. عاد الشاب تواً إلى بيته مسروراً. وترك نفسه غارقاً في سبحات خياله.
تشاء المقادير أن يكون ل(باران) جار، اسمه جارم، نفسه تنطوي على العداوة والبغضاء. وإن شاء القارئ أن يعرف سبب نقمة (جارم) على (باران)، بسطنا له حادثة وقعت بينهما، كان فيها (باران) المظلوم و(جارم) الظالم، الأمر الذي حدا بالشابين أن يتعاركا. فطوح باران بجارم. ورغم أن هذا الأمر ليس بذي بال بالنسبة لباران، الذي سرعان ما ينسى الظلم، إلا أن جارم منذئذ يحمل الحزازة في صدره.
كان (جارم) يتسقط أخطاء (باران)، وهو أتبع له من ظله. وذات مرة، خرج (جارم) في جنح الليل وتمكن من أن يلقي بسمعه على حديث العشيقين، فلجأ إلى الوشاية بهما كتابةً. فأيقظ فيه هذا الفعل شعور الفوز، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة شيطانية.
وهذا نص الرسالة التي كتبها:
"سيدي والد نانيس:
أريد أن أكشف لك الشيء الذي يجري وراء ظهرك: باران، مُشغِل مصابيح الشوارع، وابنتك المَصُون يقضيان قسطاً من الليل في سمر ممتع، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.
انتقلت الرسالة من المُرسِل إلى المُرسَل إليه.
اربد وجه الأب من الغضب. ونفر إلى ابنته. ووبخها توبيخاً عنيفاً. وكانت مجهشة البكاء. وعندما أدجن الليل، ضبط (باران) متلبساً بجريمته وأمسك بخناقه وأغلظ له القول: "ويلك من فتى قليل الشرف! ".
لم يُحِر (باران) جواباً، فقد كان وجهه شاحباً. فساقه الأب الثائر أمامه وغاب معه عن أنظار نانيس. وأطلق سراحه قريب مسجد الحارة وزمجر صائحاً: "إياك من الاقتراب من عتبة بيتي".
رغم أن الأمور سارت كما يهوى (جارم) ويشتهي، إلا أن رؤية (باران) في أشد لحظاته ذلاً ما كان ليروي منه الغليل المضطرم بالبغض والكراهية والشحناء.
كانت (نانيس) مسهدة الجفون. كذلك قضى (باران) ليلته سهداً وغماً.
مرت عدة أيام عقب تلك الحادثة. لم يكتفِ الأب بإلزام ابنته التواري في ستر البيت، بل زاد عليها تلويحه لها برغبته في أن يزوجها من رجل يكبرها بسنوات كثيرة.
وفي يوم من الأيام. ضربت (نانيس) تحذير والدها عرض الحائط وكتبت رسالة إلى حبيبها، هذا نصها:
"عزيزي باران
لقد أمرني أبي بالزواج من صديقه لأنه في سعة وغنى. ولن أقوى على تنفيذ أمره وإذا أرغمني على ذلك قتلت نفسي بالسم. أودعك وأستودعك الله.
نانيس"
ثم عهدت إلى صبي من أولاد الحارة بحمل رسالتها. طار الصبي من بيت المُحِبة إلى بيت المُحِب. أصبحت الرسالة في متناول (باران). وعندما قرأها استند إلى الباب حتى لا يقع من شدة الخور. لكنه لم يلبث أن استعاد معنوياته ما دام تغيير الواقع لا يزال في حكم المستطاع.
سعى الشاب مسعى حثيثاً نحو دكان والد الفتاة. فارتسم العُبُوس على وجه هذا الأخير عندما رأى (باران) مقبلاً عليه:
- ويحك! كيف تجرؤ على المثول أمامي بعد الذي حصل؟!
جثا الشاب على ركبتيه وقال متوسلاً: "بربك يا سيدي، لا تكن شديد الوطأة عليّ. في ذمتي، يا سيدي، كنت أنوي دخول البيت من بابه، في سبيل طلب يد ابنتك.
- ما الذي يحوجني لكي أسمح لرجل فقير بالزواج من ابنتي؟
- كم من رجلٍ فقير أغناه الله من فضله!.
- لا تدنُ من الدكان والبيت! امضِ من هنا!
- ناشدتك الله! أن لا تحول بيني وبين الزواج بابنتك
- هل أدلك على شرط إذا حققته زوجتك ابنتي؟
- يا حبذا!
- تدفع لابنتي مهراً، ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً
- ولكن هذا الرقم يناهز ميزانية مؤسسة يا سيدي! كنت أقول...
- ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً! وليس عندي غير هذا الشرط
حينذاك، أبرقت أسارير الأب سروراً عندما رأى (باران) ناكس الرأس مقروح الجَنَان خائب الأمل. فالشاب لا يملك هذا المبلغ المعجز، والرجل العجوز يعرف ذلك.
اضطر (باران) إلى النكوص على عقبيه، يحز في صدره الحزن واليأس.
مرت ثلاثة أيام على المقابلة التي لم تسفر على أيما اتفاق.
كان (باران) فيها نهباً مقسماً للألم والقهر. فأظلمت الدنيا في عينيه، وودّ لو يتخطفه الموت من الحياة التي ما عاد له فيها أمل يزينها له. لاح الفجر في الأفق وتسربت خيوط النور إلى الدنيا. باران عاكفٌ إلى الصلاة والدعاء. وقال متضرعاً إلى الله تعالى:
- يا رب، هبني ثروة مقابل عمري كله! تمكنني من الزواج من الفتاة التي أحبها.
ما كادت الشمس تطلع من خدرها، حتى سمع (باران) صوت قعقعة في ركن ما، فسرح بصره في أنحاء الغرفة، وهو يتمشى فيها، راهف السمع. فوقعت عيناه على الجرة الموضوعة فوق المنضدة الصغيرة بجانب سريره. لقد وجد في الجرة نقوداً. إنها ثروة طائلة!.
طار صواب (باران) من الفرح. وسجد سجدتين شكراً لله المعطي الوهاب. وظل ينظر إلى الكنز وقتاً طويلا.
سرى الشاب في رابعة النهار إلى حبيبته، متناسياً الحظر الساري عليهما كليهما.
- لقد تحققت المعجزة يا نانيس! الآن في بيتي ثروة تمكنني من دفع مهرك لأبيكِ
كادت الفتاة تفقد عقلها بعد هذه الثورة العاطفية، وقالت: بربك! أأنت صادق فيما تقول؟
- أجل. هذا ما حصل! وإنني، على غرار حالك، غير مصدق!
- كيف؟ أنبئني!
- دعوت الله بالرزق فاستجاب لي!
- وتركت هذه الأموال الطائلة عرضة لخطر السرقة؟.
- لا بأس من المجازفة في سبيل الإفضاء بسري إليكِ
- هيا عد إلى بيتك، وبينما أنت تنكص عائداً إلى بيتك، سوف أستمطر لك بركات الله وحفظه ورعايته.
- ليكن!
تقضّى النهار وجاء الليل. كان (باران) ناشراً أمامه على المنضدة: ألفاً وثمانمائة وستة وعشرين جنيهاً. ولم يشبع من مد بصره إلى هذا المبلغ. حتى فوجئ بصوت دق على الباب. فراعه صوت الدق المختلف عن كل مرة. وهرع ليفتح الباب، فدهش أشد الدهش لمرأى والد (نانيس).
"نمى إلى علمي المعجزة التي حصلت لك، ولست شاكاً أو مرتاباً في تورطك باللصوصية، إذ لم تتسلم الشرطة بلاغاً عن أيما سرقة خلال الأمس واليوم"، قال أبو نانيس، "بالإضافة إلى هذا، أنا أعرفك! فأنت لست خداعاً أفاكاً ولله الحمد والمِنّة. ولا أؤاخذ عليك سوى فعلتك تلك التي أعرفها وتعرفها أنت."، وأضاف قائلاً، "لكن دعنا من الماضي فالحاضر هو الأهم. مساء الغد توافيني في بيتي مصحوباً بالشيخ، أسامع أنت يا فتى؟".
استطار (باران) فرحاً وقال: حباً وكرامة!.
أدبر الليل فجاء النهار، فتلاه المساء وكان القمر، وقتذاك، يبدو ويختفي. وفد (باران) إلى بيت أبي (نانيس) رفقة الشيخ. وتم عقد قرانهما. وكان الفتى آنئذ أسعد السعداء.
خفّ العريس والعروس إلى المركبة واستويا فيها وانطلق الحوذي بهما إلى عشهما السعيد.
في تلك الأثناء كانت نار الحسد تأكل قلب (جارم) وخفقت حناياه بمشاعر الغيرة، حتى أنه بدأ يغمغم ويصر على أسنانه حالما رأى خصمه: إن الحظ ليس وقفاً على الطيبين من الناس، بل إنك لتجد أرذل الناس يتمرغ بالنعيم. أنا أعرفه، حق المعرفة، ذلك الصعلوك الحقير!.
عندما خلا الزوج إلى زوجته، قال: لا أصدق أننا أصبحنا متدانيين!
- كنت أصلي من أجل أن نكون معاً، فقد أحببتك حباً لم أحبه أحداً.
- نحن الآن في سعادة جمة
أوصى أبو (نانيس) بارسال الكفاف من الطعام إلى الزوجين. بعد تناول اللحم والثريد، قشرت نانيس البرتقالة لباران وطرحت القشر. ثم أطعمته بيدها فتناول يدها وقبلها ومتع عينيه برؤيتها.
يومٌ بعد يوم حتى انتظم عشرون يوم. كان منزل الزوجين يفيض هناءة وسعادة. لكن ذلك لم يستمر طويلاً. إذ نقص (باران) من الوزن وفي وقت النوم كان يتصبب عرقاً. وكانت هذه أعراض خطيرة يتكبدها المسكين، والخطب جد عظيم.
ثم أنه في الأيام التالية، تغير (باران) وتبدل شكله تبديلاً كبيراً. لقد فقد الرجل نضارة وجهه، كما أنه بدأ يَهِنُ ويذبل. لاحت على (نانيس) علامات القلق والجزع وقالت له: ماذا يحصل لك يا باران؟! لكنك الآن تبدو أكبر سناً من أبي نفسه!
حينذاك أمسك زوجها بيدها وقال: "أرهفي إليّ بسمعك يا عزيزتي. لقد نذرت عمري مقابل أن أظفر بكِ زوجة رائعة. وها أنا أتقدم بالعمر بمثل سرعة المطر المُساق من العاصفة. وفي نهاية المطاف سوف تؤول بي هذه العاصفة السريعة إلى الموت"، وأضاف، " لا أخفيكِ سراً، أحس أني عشتُ ردهاً طويلا من الزمن. ولم يبق لي إلا لحظات قصار"
ضربت (نانيس) كفاً بكف في تأثر بالغ وقالت: "رباه! ما أشق على نفسي أن أعيش بعدك! أية أعصاب يمكن أن تتحمل هذا؟"
- دقيقة بسنة!
هكذا أصبح (باران) يتقدم بالعمر. الأمر الذي حدا به أن يكون متوكئاً على عصاه التي لا تفارق يده. ورأى (جارم) غريمه على ذلك الحال، فشمت به وظهرت على وجهه علائم الفرح الوحشي والغبطة الجشعة.
لم يعد بإمكان (باران) الخروج من البيت. فاضطجع ضجوعاً في الفراش. وكان يبدو ميتاً أكثر مما هو حياً. لم تترك (نانيس) زوجها وكانت معنية به وتقف على كل شؤونه.
في الوقت الذي حضر الأب فيه؛ لزيارة ابنته، أرهبه منظر زوجها وهو يعاني من الشيخوخة. وهو الذي كان بالأمس مثل ذئب في مقتبل العمر.
- باران شكله هرِمٌ! ما شأنه؟
شرحت (نانيس) لأبيها ما جرى. وكانت عيناها تشرق بالدمع.
قال الأب ناصحاً: "لو أعطيته عسلاً لعاد عليه بفائدة عظيمة"
- إنه يرفض الطعام يا أبتاه.
- هل أجلب الطبيب؟
- لا طبيباً قادرٌ على شفاء باران من علته... سبق السيف العذل.
ولما اقتربت من زوجها الطاعن بالسن ولامست جبهته، لاحظت أنه يعاني من حمى شديدة. كان جسمه كله بارداً كالثلج ما عدا رأسه، فقد كان يلتهب من الحمى. قربت كوب الماء من فمه. لكنه قال بصوت واهن: "أريد قبلا أن أقبل يدك، وبعد ذلك أتجرع الماء"
كادت نانيس تختنق من البكاء. وثقل على الأب مراقبة (باران) وهو يُحتضر ويدخل في النزع الأخير. بعد مرور ساعة من الزمن. دنت أخيراً اللحظة التي انتهى فيها شقائه في هذه الدنيا.
خنقت العبرات نانيس وقالت: "لقد رحلت يا باران! وإني غير مصدقة أنك رحلت، لعمري ما الدنيا بدار إقامة"
- عظم الله أجرك! البقاء لله،- تحشرج صوت الأب.- كفى بالله وكيلاً.
عادت المرأة، المفجوعة بموت أحب الناس إليها، إلى بيت أبيها مجروحة الفؤاد. ولم تجد ما تتعزى به وتتأسى إلا الذكريات، وتخيل طيف زوجها الراحل وهو يطوف أمام عتبة البيت بصورته الشابة النضرة.
تصرمت الأيام والشهور. بعد انتهاء عدة الأرملة، سمعت أباها يرحب بضيفه ويقول له: أهلاً! أهلاً يا جارم! شرفت الدار.
أراد جارم الزواج بنانيس. فقررت المرأة الأرملة بأن تفوّت عليه ما يبغي ويضمر. فليس خافياً عليها أن جارم ليس سوى شمّاتاً لئيم النفس شحيح المروءة.
التعديل الأخير: