- إنضم
- 28 يوليو 2016
- رقم العضوية
- 6832
- المشاركات
- 1,180
- مستوى التفاعل
- 4,687
- النقاط
- 891
- أوسمتــي
- 6
- العمر
- 26
- الإقامة
- الجزائر
- توناتي
- 1,910
- الجنس
- أنثى
S A L W A | 5/7/2023
كانت حفلةً راقِصة، وماذا يفعل الناس أثناء ذلك؟ بكل تأكيد يرقصون، جميعهم ثنائيات، يرقصون بشكلٍ متناغم وجميل، إن لم أخطئ فالمقطوعة كانت مقطوعة الدانوب الأزرق، ذات اللحن الساحر الذي يأسر القلوب ويدفع الأرواح إلى الانغماس في دوامة الفرح.
ماذا عني؟ كنت أقف وحيداً بمنتصف القاعة لا أعرف أحداً ولم يكترث لأمري أحد، كانت كل الأنظار تتجه نحوي وتتبعني بتجاهلٍ مستفز. أما قلبي فكان يغرق في الحزن والوحدة، وكأني كائنٌ غريبٌ في عالمٍ ليس لي مكان فيه.
ولكن فجأة، وكأنما انقطعت الحياة عن المكان، واندثرت الموسيقى وتلاشت الأضواء مع تبدُّد الحاضرين واختفائهم تباعًا. تَحوَّلتُ إلى وحيدٍ في مَرْكَزِ العتمة، ففي لمحةٍ بائسة، أُطفِئَت الأضواء، واختفت الأنغام، وتبدَّى لي الجميع وكأنهم ظِلالٌ مُنحَوْسَة. كان هذا المشهد مُربكًا ومثيرًا في آنٍ واحد، وملأت الرهبة قلبي وتسللت إلى أعماق روحي.
استحال عليّ رؤية أي شيء في هذا الفراغ المُعتم. صرختُ بكل ما أوتيت من قوة: "أين أنتم جميعًا؟ أين أنا؟ هل مِن أحد؟" إلا أن صوتي ابتلعه الظلام الكثيف، وتبدّدت عباراتي في الأرجاء. حاولتُ التحرُّك إلا خطواتي كانت ثقيلةً كالرصاص وشعرت بقوة غامضة تجذبني نحو الأسفل، بدا الامر وكأن الأرض تبتلعني. لا يمكنني إخفاء الرعب الذي اجتاح كياني وسط هذا الظلام اللامتناهي.
أغمضت عيناي بِروحٍ مستسلمة، وعندما فتحتهما مجدداً، وجدت نفسي بمكانٍ آخر تماماً، كان رماديًا كئيبًا، ضيقًا وخانقًا، تسكن الأوجاع جدرانه، ولم أستغرق وقتًا طويلًا لأدرك أنني في زنزانةٍ، لم أكن وحيدا بها، كان هنالك شخص طويل القامة، نحيف الجسم، يرتدي قبعة غريبة الشكل، كان يتراقص بين القضبان ويصرخ قائلًا: "أخرِجوني!" ثم يجلس ليُعيد نفس الأمر بعد لحظات.
كان ذلك المشهد مزعجاً بحق، قلت له بغضب: "يا للإزعاج، فلتهدأ يا رفيقي." ولم أكن متيقنا بعد بشأن عودة صوتي وأنه ممكن سماعه من جديد، وبدا أنه استمع لما قلته، حيث رماني بنظرات مُملؤة بالكراهية والحقد، وأجابني قائلاً: "اخرس أليخاندرو، لا يحق لك أن تتكلم، ولم أعد رفيقك." رددتُ بدهشة: "أليخاندرو؟ من هذا؟ أيضاً أنا لا أدعوك رفيقي لأنك كذلك بل لأنني لا اعرف اسمك، مهلاً أنتحدث الإيطالية الآن؟ لا اذكر أنني زرت إيطاليا من قبل وأيضا أليس أليخاندرو يبدو كاسم مكسيكي؟ أنا أعتقد..." قاطعني الشاب بغضب: "أجل، احسنت أنت ممثل بارع، تتظاهر الآن بالجنون كي تنال عفوهم وتخرج من السجن، أنا لن أسمح بحدوث هذا، أنت ورطتني بهذا الامر بينما ليس لي يد فيه، لذلك ستخرجني أولاً قبل أن تخرج أنت، بحق خالق السماء ما الذي كنت تفكر به عندما أقدمت على سرقة مجوهرات الدونا ماريانا وفي وضح النهار.. وضح النهار!" رمقته بنظرة تعجب واستغراب وقلت: "الدونا ماريانا؟ ما الذي تتحدث عنه؟" وبينما كنت أنتظر إجابته، انطلقت عيناه كشعلتين ناريتين نحوي، ثم أمسك رقبتي بكامل قوته، محاولًا خنقي. لم أقل شيئًا، ولم أحاول منعه، فقد كنتُ على يقين تام بأن المشهد سيتغير هكذا يحدث بالأفلام.
حدث ما توقعته، أنا الآن بمكانٍ آخر شديد الظلمة فعلى خلاف المكان السابق فأنا لم أستطع تمييز أو رؤية أي شيء، لكن حاسة سمعي كانت قويةً للغاية، زقزقة العصافير وكأنها سمفونية مبهجة، تتناغم معها خشخشة أوراق الأشجار في لحن يتمايل بين السكينة والهمس الناعم، فيما كان صوت خرير الماء ينساب برقة ويطوق خيالي، كأنه يعزف نغمة نهر أو بركة تختبئ بجواري، أيضا شعرت بنسيمٍ لطيف يداعبني. بكل تأكيد، وإن لم يكن تخيلًا، فأنا الآن في قلب غابةٍ خضراء.
سمعت وقع أقدامٍ يقترب، وبدا وكأن صاحبها يتجه نحوي. ثم شعرت باستناده عليّ، حاولت الحديث معه لكن يبدو أو بالأحرى تبدو أنها لم تسمعني، حيث غنت هذه الفتاة دون اكتراث لصوتي مقطعا من أغنية غالباً من تأليفها، لم تبدِ الفتاة الشابة أدنى اهتمام لوجودي، بعد أن انتهت من أداء أغنيتها هَمسَتْ بصوتٍ يغلفه الحنين: "صديقتي ليزا، أنتِ الوحيدة التي تُشعرينني بأنني مسموعة ومفهومة." لوهلة اعتقدت أن هنالك فتاةً تُدعى ليزا تجلس بجانبي، إلى أن أدركت حقيقة الأمر، بأنها تتحدث إليّ، قاطعتها بتعجب محاولا اخبارها أنني لست صديقتها ليزا إنما رجل واسمي هو... مهلا ماذا كان اسمي؟ لا يهم، ولكن للأسف، تعثرت في محاولاتي العديدة لجعلها تسمعني، وأدركتُ أنها لن تكون قادرةً على ذلك أبدًا. لذا، استسلمت واكتفيت بالإصغاء إليها، في انتظار تغير المشهد كما حدث سابقا.
بنبرةٍ حزينة انسكبت عباراتها بألم مكبوت، كصوتٍ مكسور ينساب من عمق روحها. قالت برقة وحزنٍ يخيم على كلماتها: "يريدون تزويجي بالقنصل العجوز مارت ذو الكرش المتدلية، أنا لا اريد هذا المصير البائس، ما أريده ويهمني يختلف تمامًا عما يهمهم، فعائلتي تهتم فقط بالمال والثروة. عندما أغنى بشرفة غرفتي يطالبونني دائما بالصمت لأنهم يجدون صوتي مزعجا، مؤخرا عندما أغني يأتون إليّ بمديح خادع، يقولون لي "إن القنصل يجد صوتكِ ساحرا وسيشتري لكِ كماناً، ذاك الذي لطالما حلمتِ باقتنائه"، كمان؟ أثمن ما سيضيع من شبابي هو كمان؟"
في لحظة تأمل عميقة، أردفتْ: "كثيرا ما أتمنى ان اتحول الى شجرة، شجرة هيفاء، شامخة، خضراء وجميلة تماما مثلكِ، حياة الأشجار مذهلة أليس كذلك؟ على الأقل لا تجد الشجرة نفسها مجبرة على شيء لا تريده، إنها حرة في أن تكون كما تريد... أليس كذلك عزيزتي ليزا؟ اهاهاهاها اظن بأني جننت لأتحدث مع شجرة...".
شجرة؟ هكذا إذن أنا شجرة، هذا يفسر عدم قدرتها على سماعي فالأشجار لا تتكلم، ذلك كان صوت أفكاري، هذا يفسر أيضا عدم قدرتي على رؤية أي شيء فليس للأشجار عيون، لكن ماذا عن السمع هل للأشجار آذان؟
تغير المكان مجددا، إنه يشبه غرفة نومي لكنه ليس غرفة نومي، لون الستائر ذاته والخزانة القديمة ذات الباب المكسور لا تزال هناك، لكن صور البيتلز التي تملأ الحائط ليست لي، لا أدري كيف وجدت طريقها إلى هنا، فأنا لم أكن يومًا ممن يعشقون تلك الفرقة، ولا يمكنني حتى تذكر أسماء أعضائها. يا للغرابة والتباس الأمور في هذا العالم المتداخل.
في لحظة مفاجئة، بدأت رؤيتي تتعرض لتشويشٍ غامض، وكأنها تُطوى تحت غطاءٍ ضبابي يخترق الأفق. هل هذا التغير ينحصر في داخلي؟ أم أن المكان نفسه يبدأ بالتلاشي والاندماج مع غيوم الضباب؟ يشعرني الأمر بالارتباك، أنا غير عابئ بما يحدث من حولي. أشعر بأنني في حالة من الضياع، حيث لا أدري السبب ولا الجواب، والضباب يلتف حول حواسي. هنالك صوت طنين مزعج، بترددٍ مستفز وشدة مقلقة، يتحوّل هذا الطنين إلى أُنشودةٍ مُكرّرةٍ تتجاوز حدود التحمُّل، كأنه أداةٌ مرهقة تُعذب الحواس، يتناغم هذا الصوت المزعج مع صوت رنينٍ متعالٍ، يعبث بأعصاب الاسترخاء ويداعب حدود الانتباه.
استمرت الأصوات بالتشابك والتداخل حتى وجدتُ نفسي أقف بين رجُلين أحدهما رجلٌ طويل القامة يبدو عليه التوتر وفرط النشاط ويتجلى ذلك في صوته المرتفع، بينما الآخر كان بديناً بملامح قاسية ذو صوت مُتعَب ومُفزِع. يقول هذا الأخير للأول:
- أنا مُصِرٌّ يا رنين على أن صوت المنبه هو طنينٌ، فهو يتماشى مع طبيعتي الثابتة والمُستفزة. ينطلق كونه صوتًا منخفضًا ومتواصلًا مثل صوت الجندب الذي يكسر جدار الصمت الليلي. إنه يُحاكي الشعور بالتعب والملل، ويُفرض حضوره بلا رحمة.
- لكنني أختلف معك، يا طنين. صوت المنبه هو رنينٌ، يشبه صوت الجرس العالي الذي يدق بقوة في عقلك المستيقظ. يأتي بشكلٍ مفاجئ ومنفرد، مثل أجراس الإنذار التي تدق بصوتٍ مُدوٍّ لتشد الانتباه. إنه صوتٌ يدغدغ الحواس ويُثير الاضطراب، يعكس الحاجة الماسّة للإفاقة والبدء في يوم جديد.
- لكن صوت المنبه يمتلك نغمةً مُنخفضةً وثقيلة، تُذكِّرنا بمشاعر الضجر والروتين، إنه طنينٌ يستمر ولا ينقطع، كمرافقٍ لا يُمكن التخلص منه.
- ومع ذلك، يا طنين، فإن صوت المنبه يرفض بشدة أن يكون طنينًا. إنه يتجلى كرنينٍ قويٍ ومُلتهِبٍ، يُرسل الاهتزازات المختلفة إلى أذنينا ويُشعِرنا بالتوتر والضغط. إنه يُحثُّنا على الاستجابة والتحرُّك الفوري. دعنا نستمع لرأي صاحبنا بهذا الأمر؛ أصوت المنبه طنين أم رنين؟
وجدت نفسي أمامهما، وهما يفترسانني بنظراتهما المُتلهفة. كانا يترقبان مني أن أحسم الأمر بينهما وأقرر، لكن بذلك الوقت، كانت تنمو بداخلي غرابة شديدة تجاههما. كيف يمكن لأسماء مثل رنين وطنين أن تُطلَق على أشخاص؟ وكيف يُمكِنُ أن يندلع حوارٌ شرسٌ بخصوص صوت المنبه؟ أليس هذا الأمر إلا جنونًا عارمًا يتجاوز حدود العقل والمنطق؟
ولكن، وسط هذه التساؤلات، لا يمكنني إنكار الحقيقة الغريبة والمثيرة للاهتمام في هذا الحوار. قد يكون الجنون هو مفتاح فهم هذه الحقيقة المشوقة. قد يكون في جنون هذا العالم قوةٌ خفية تعكس الواقع بطريقةٍ ما.
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى بانت الحقيقة المنشودة أمامي بوضوحٍ مدهش. كانت كل تلك الأحداث والمشاهد مجرد وهمٍ يتلاشى أمام عينيّ، مجرد حُلمٍ ضاع في أعماق اللاوعي، باستثناء صوت المنبه الذي استمر يتردد بين جدران الواقع، مُستَمِرًا في إطلاق صداه المُنْهك، يحاول إخباري بيأسٍ شديدٍ أنني قد تأخرت عن العمل، ولكنني لا أزال في حيرةٍ شديدة، لم أتوصل بعد إلى الإجابة النهائية حول طبيعة صوت المنبه، هل هو طنينٌ مزعج يخترق أذني ويُشَعِرُني بالضجر، أم هو رنينٌ قوي ينبض بالحياة يصيبني بالتوتر ويحثني على الاستيقاظ؟
-تمت-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف حالكم؟ آمل انكم بخير.
أعتذر لتأخري في الترحيب بكم، أردت أن تدخلوا في جو القصة مباشرةً، آمل انها قد نالت استحسانكم، كما آمل بأن عقولكم لا زالت بخير!
لماذا الدانوب الأزرق؟
الدانوب الأزرق مقطوعة موسيقية كلاسيكية مشهورة، سمعتها كثيرا بطفولتي ولازلت اتذكرها جيدا؛ ولهذا السبب اخترتها لقصتي، سمعتها من خلال فيلم كرتون قصير كان يُعرض عدة مرات باليوم الواحد على قناة ديزني، بحثت عنه على اليوتيوب ولحسن حظكم وجدته:
شكرا لِصبركم ولِحسن قراءتكم وبطبيعة الحال شكرا لِوقتكم! دمتم بخير.
ماذا عني؟ كنت أقف وحيداً بمنتصف القاعة لا أعرف أحداً ولم يكترث لأمري أحد، كانت كل الأنظار تتجه نحوي وتتبعني بتجاهلٍ مستفز. أما قلبي فكان يغرق في الحزن والوحدة، وكأني كائنٌ غريبٌ في عالمٍ ليس لي مكان فيه.
ولكن فجأة، وكأنما انقطعت الحياة عن المكان، واندثرت الموسيقى وتلاشت الأضواء مع تبدُّد الحاضرين واختفائهم تباعًا. تَحوَّلتُ إلى وحيدٍ في مَرْكَزِ العتمة، ففي لمحةٍ بائسة، أُطفِئَت الأضواء، واختفت الأنغام، وتبدَّى لي الجميع وكأنهم ظِلالٌ مُنحَوْسَة. كان هذا المشهد مُربكًا ومثيرًا في آنٍ واحد، وملأت الرهبة قلبي وتسللت إلى أعماق روحي.
استحال عليّ رؤية أي شيء في هذا الفراغ المُعتم. صرختُ بكل ما أوتيت من قوة: "أين أنتم جميعًا؟ أين أنا؟ هل مِن أحد؟" إلا أن صوتي ابتلعه الظلام الكثيف، وتبدّدت عباراتي في الأرجاء. حاولتُ التحرُّك إلا خطواتي كانت ثقيلةً كالرصاص وشعرت بقوة غامضة تجذبني نحو الأسفل، بدا الامر وكأن الأرض تبتلعني. لا يمكنني إخفاء الرعب الذي اجتاح كياني وسط هذا الظلام اللامتناهي.
أغمضت عيناي بِروحٍ مستسلمة، وعندما فتحتهما مجدداً، وجدت نفسي بمكانٍ آخر تماماً، كان رماديًا كئيبًا، ضيقًا وخانقًا، تسكن الأوجاع جدرانه، ولم أستغرق وقتًا طويلًا لأدرك أنني في زنزانةٍ، لم أكن وحيدا بها، كان هنالك شخص طويل القامة، نحيف الجسم، يرتدي قبعة غريبة الشكل، كان يتراقص بين القضبان ويصرخ قائلًا: "أخرِجوني!" ثم يجلس ليُعيد نفس الأمر بعد لحظات.
كان ذلك المشهد مزعجاً بحق، قلت له بغضب: "يا للإزعاج، فلتهدأ يا رفيقي." ولم أكن متيقنا بعد بشأن عودة صوتي وأنه ممكن سماعه من جديد، وبدا أنه استمع لما قلته، حيث رماني بنظرات مُملؤة بالكراهية والحقد، وأجابني قائلاً: "اخرس أليخاندرو، لا يحق لك أن تتكلم، ولم أعد رفيقك." رددتُ بدهشة: "أليخاندرو؟ من هذا؟ أيضاً أنا لا أدعوك رفيقي لأنك كذلك بل لأنني لا اعرف اسمك، مهلاً أنتحدث الإيطالية الآن؟ لا اذكر أنني زرت إيطاليا من قبل وأيضا أليس أليخاندرو يبدو كاسم مكسيكي؟ أنا أعتقد..." قاطعني الشاب بغضب: "أجل، احسنت أنت ممثل بارع، تتظاهر الآن بالجنون كي تنال عفوهم وتخرج من السجن، أنا لن أسمح بحدوث هذا، أنت ورطتني بهذا الامر بينما ليس لي يد فيه، لذلك ستخرجني أولاً قبل أن تخرج أنت، بحق خالق السماء ما الذي كنت تفكر به عندما أقدمت على سرقة مجوهرات الدونا ماريانا وفي وضح النهار.. وضح النهار!" رمقته بنظرة تعجب واستغراب وقلت: "الدونا ماريانا؟ ما الذي تتحدث عنه؟" وبينما كنت أنتظر إجابته، انطلقت عيناه كشعلتين ناريتين نحوي، ثم أمسك رقبتي بكامل قوته، محاولًا خنقي. لم أقل شيئًا، ولم أحاول منعه، فقد كنتُ على يقين تام بأن المشهد سيتغير هكذا يحدث بالأفلام.
حدث ما توقعته، أنا الآن بمكانٍ آخر شديد الظلمة فعلى خلاف المكان السابق فأنا لم أستطع تمييز أو رؤية أي شيء، لكن حاسة سمعي كانت قويةً للغاية، زقزقة العصافير وكأنها سمفونية مبهجة، تتناغم معها خشخشة أوراق الأشجار في لحن يتمايل بين السكينة والهمس الناعم، فيما كان صوت خرير الماء ينساب برقة ويطوق خيالي، كأنه يعزف نغمة نهر أو بركة تختبئ بجواري، أيضا شعرت بنسيمٍ لطيف يداعبني. بكل تأكيد، وإن لم يكن تخيلًا، فأنا الآن في قلب غابةٍ خضراء.
سمعت وقع أقدامٍ يقترب، وبدا وكأن صاحبها يتجه نحوي. ثم شعرت باستناده عليّ، حاولت الحديث معه لكن يبدو أو بالأحرى تبدو أنها لم تسمعني، حيث غنت هذه الفتاة دون اكتراث لصوتي مقطعا من أغنية غالباً من تأليفها، لم تبدِ الفتاة الشابة أدنى اهتمام لوجودي، بعد أن انتهت من أداء أغنيتها هَمسَتْ بصوتٍ يغلفه الحنين: "صديقتي ليزا، أنتِ الوحيدة التي تُشعرينني بأنني مسموعة ومفهومة." لوهلة اعتقدت أن هنالك فتاةً تُدعى ليزا تجلس بجانبي، إلى أن أدركت حقيقة الأمر، بأنها تتحدث إليّ، قاطعتها بتعجب محاولا اخبارها أنني لست صديقتها ليزا إنما رجل واسمي هو... مهلا ماذا كان اسمي؟ لا يهم، ولكن للأسف، تعثرت في محاولاتي العديدة لجعلها تسمعني، وأدركتُ أنها لن تكون قادرةً على ذلك أبدًا. لذا، استسلمت واكتفيت بالإصغاء إليها، في انتظار تغير المشهد كما حدث سابقا.
بنبرةٍ حزينة انسكبت عباراتها بألم مكبوت، كصوتٍ مكسور ينساب من عمق روحها. قالت برقة وحزنٍ يخيم على كلماتها: "يريدون تزويجي بالقنصل العجوز مارت ذو الكرش المتدلية، أنا لا اريد هذا المصير البائس، ما أريده ويهمني يختلف تمامًا عما يهمهم، فعائلتي تهتم فقط بالمال والثروة. عندما أغنى بشرفة غرفتي يطالبونني دائما بالصمت لأنهم يجدون صوتي مزعجا، مؤخرا عندما أغني يأتون إليّ بمديح خادع، يقولون لي "إن القنصل يجد صوتكِ ساحرا وسيشتري لكِ كماناً، ذاك الذي لطالما حلمتِ باقتنائه"، كمان؟ أثمن ما سيضيع من شبابي هو كمان؟"
في لحظة تأمل عميقة، أردفتْ: "كثيرا ما أتمنى ان اتحول الى شجرة، شجرة هيفاء، شامخة، خضراء وجميلة تماما مثلكِ، حياة الأشجار مذهلة أليس كذلك؟ على الأقل لا تجد الشجرة نفسها مجبرة على شيء لا تريده، إنها حرة في أن تكون كما تريد... أليس كذلك عزيزتي ليزا؟ اهاهاهاها اظن بأني جننت لأتحدث مع شجرة...".
شجرة؟ هكذا إذن أنا شجرة، هذا يفسر عدم قدرتها على سماعي فالأشجار لا تتكلم، ذلك كان صوت أفكاري، هذا يفسر أيضا عدم قدرتي على رؤية أي شيء فليس للأشجار عيون، لكن ماذا عن السمع هل للأشجار آذان؟
تغير المكان مجددا، إنه يشبه غرفة نومي لكنه ليس غرفة نومي، لون الستائر ذاته والخزانة القديمة ذات الباب المكسور لا تزال هناك، لكن صور البيتلز التي تملأ الحائط ليست لي، لا أدري كيف وجدت طريقها إلى هنا، فأنا لم أكن يومًا ممن يعشقون تلك الفرقة، ولا يمكنني حتى تذكر أسماء أعضائها. يا للغرابة والتباس الأمور في هذا العالم المتداخل.
في لحظة مفاجئة، بدأت رؤيتي تتعرض لتشويشٍ غامض، وكأنها تُطوى تحت غطاءٍ ضبابي يخترق الأفق. هل هذا التغير ينحصر في داخلي؟ أم أن المكان نفسه يبدأ بالتلاشي والاندماج مع غيوم الضباب؟ يشعرني الأمر بالارتباك، أنا غير عابئ بما يحدث من حولي. أشعر بأنني في حالة من الضياع، حيث لا أدري السبب ولا الجواب، والضباب يلتف حول حواسي. هنالك صوت طنين مزعج، بترددٍ مستفز وشدة مقلقة، يتحوّل هذا الطنين إلى أُنشودةٍ مُكرّرةٍ تتجاوز حدود التحمُّل، كأنه أداةٌ مرهقة تُعذب الحواس، يتناغم هذا الصوت المزعج مع صوت رنينٍ متعالٍ، يعبث بأعصاب الاسترخاء ويداعب حدود الانتباه.
استمرت الأصوات بالتشابك والتداخل حتى وجدتُ نفسي أقف بين رجُلين أحدهما رجلٌ طويل القامة يبدو عليه التوتر وفرط النشاط ويتجلى ذلك في صوته المرتفع، بينما الآخر كان بديناً بملامح قاسية ذو صوت مُتعَب ومُفزِع. يقول هذا الأخير للأول:
- أنا مُصِرٌّ يا رنين على أن صوت المنبه هو طنينٌ، فهو يتماشى مع طبيعتي الثابتة والمُستفزة. ينطلق كونه صوتًا منخفضًا ومتواصلًا مثل صوت الجندب الذي يكسر جدار الصمت الليلي. إنه يُحاكي الشعور بالتعب والملل، ويُفرض حضوره بلا رحمة.
- لكنني أختلف معك، يا طنين. صوت المنبه هو رنينٌ، يشبه صوت الجرس العالي الذي يدق بقوة في عقلك المستيقظ. يأتي بشكلٍ مفاجئ ومنفرد، مثل أجراس الإنذار التي تدق بصوتٍ مُدوٍّ لتشد الانتباه. إنه صوتٌ يدغدغ الحواس ويُثير الاضطراب، يعكس الحاجة الماسّة للإفاقة والبدء في يوم جديد.
- لكن صوت المنبه يمتلك نغمةً مُنخفضةً وثقيلة، تُذكِّرنا بمشاعر الضجر والروتين، إنه طنينٌ يستمر ولا ينقطع، كمرافقٍ لا يُمكن التخلص منه.
- ومع ذلك، يا طنين، فإن صوت المنبه يرفض بشدة أن يكون طنينًا. إنه يتجلى كرنينٍ قويٍ ومُلتهِبٍ، يُرسل الاهتزازات المختلفة إلى أذنينا ويُشعِرنا بالتوتر والضغط. إنه يُحثُّنا على الاستجابة والتحرُّك الفوري. دعنا نستمع لرأي صاحبنا بهذا الأمر؛ أصوت المنبه طنين أم رنين؟
وجدت نفسي أمامهما، وهما يفترسانني بنظراتهما المُتلهفة. كانا يترقبان مني أن أحسم الأمر بينهما وأقرر، لكن بذلك الوقت، كانت تنمو بداخلي غرابة شديدة تجاههما. كيف يمكن لأسماء مثل رنين وطنين أن تُطلَق على أشخاص؟ وكيف يُمكِنُ أن يندلع حوارٌ شرسٌ بخصوص صوت المنبه؟ أليس هذا الأمر إلا جنونًا عارمًا يتجاوز حدود العقل والمنطق؟
ولكن، وسط هذه التساؤلات، لا يمكنني إنكار الحقيقة الغريبة والمثيرة للاهتمام في هذا الحوار. قد يكون الجنون هو مفتاح فهم هذه الحقيقة المشوقة. قد يكون في جنون هذا العالم قوةٌ خفية تعكس الواقع بطريقةٍ ما.
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى بانت الحقيقة المنشودة أمامي بوضوحٍ مدهش. كانت كل تلك الأحداث والمشاهد مجرد وهمٍ يتلاشى أمام عينيّ، مجرد حُلمٍ ضاع في أعماق اللاوعي، باستثناء صوت المنبه الذي استمر يتردد بين جدران الواقع، مُستَمِرًا في إطلاق صداه المُنْهك، يحاول إخباري بيأسٍ شديدٍ أنني قد تأخرت عن العمل، ولكنني لا أزال في حيرةٍ شديدة، لم أتوصل بعد إلى الإجابة النهائية حول طبيعة صوت المنبه، هل هو طنينٌ مزعج يخترق أذني ويُشَعِرُني بالضجر، أم هو رنينٌ قوي ينبض بالحياة يصيبني بالتوتر ويحثني على الاستيقاظ؟
-تمت-
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كيف حالكم؟ آمل انكم بخير.
أعتذر لتأخري في الترحيب بكم، أردت أن تدخلوا في جو القصة مباشرةً، آمل انها قد نالت استحسانكم، كما آمل بأن عقولكم لا زالت بخير!
لماذا الدانوب الأزرق؟
الدانوب الأزرق مقطوعة موسيقية كلاسيكية مشهورة، سمعتها كثيرا بطفولتي ولازلت اتذكرها جيدا؛ ولهذا السبب اخترتها لقصتي، سمعتها من خلال فيلم كرتون قصير كان يُعرض عدة مرات باليوم الواحد على قناة ديزني، بحثت عنه على اليوتيوب ولحسن حظكم وجدته:
مِن فضلكم تظاهروا بأن هذا الموضوع بدون هيدر وبدون فواصل، أنا فقيرة للغاية لأطلب تصميما محترما، كما لم يكن بإمكاني نشر الموضوع بدونهم لأنه سيبدو مملا وكئيبا، لذا حاولت تدبر الامر بنفسي وليتني لم افعل وكانت النتيجة كارثية .. :')
التعديل الأخير بواسطة المشرف: