مرّ شهر، العصفوران نقص منهما واحد: ماتت العصفورة وتركت رفيقها، من بعدها، وحيداً بائساً. أنا الآخر كنتُ فاقداً لبعض توازني. حفرتُ للعصفورة قبراً في الفناء في ركن بين أصائِص الرَّيْحان وثويتها فيه. ولم أنسّ وضع قائماً على القبر كتبت فيه:
"ماتت العصفورة في يوم واحد وثلاثين ديسمبر، ودفنتها هنا. أحبها عصفوري، وأحببتها أنا. لن ننساها".
كان يوماً حزيناً لكلينا: أنا والعصفور. العصفور منتصب فوق الغصن داخل القفص، ولم يغرد ولا حتى تغريدة واحدة. كأنه فقد الدافع على مواصلة الحياة؛ رفيقته العصفورة كانت له الحياة والأُنْس. في الزمن الحاضر ليس للعصفور رفيقة، فقط ألم الفقدان وقسوة الوحدة، وانتظار الموت. حتى أنا صديقه لم يعد يريدني، ولا يلقي لي بالاً. لم أقترب منه إكراماً لشعوره وخصوصيته في الحزن. لكن قلبي يتقطع حزناً عليه وهو يذبل ويَهِن. أأكتفي بمراقبته وهو يموت؟ أعوذ بالله! أن أفعل ذلك بصديقي.
إن كان فتح باب القفص يرضيك، فسوف أفتحه. يمكنك الطيران الآن. صار باب القفص مفتوحاً وباب بيتي مشرعاً، إن شئت الذهاب، لتحصل على تجربة جديدة من شأنها أن تعطيك دافعاً يستحق أن تعيش من أجله.
طار العصفور طيراناً شاحباً تعوزه الحيوية والنشاط.. لكنه طار. اختفى العصفور في جوف النهار. شعرت بألم يَحُزُّ في قلبي عندما تأملت القفص الذي فَرُغَ من كلا العصفورين بهذه السرعة القُصْوَى! الدموع تنهمر مني. وا أسفاه على غدر الزمان! أهكذا حال الدنيا يكون؟ عشرة وصداقة، وصباحات عطرة وأمسيات شيقة، ومغامرات مرحة. هذا العصفور ورفيقته منذ شهر كانا يسكنان القفص، ويغنيان، وينامان، ويملأان الدنيا بهجة ومَسَرَّة في عينيّ؛ أما الآن فالقفص فارغٌ منهما ومن الحياة. لكأني أرى القفص يتخذ شكل الدنيا والعصفوران هما الناس والأحباب والفرحة كلها. والآن الوحدة، وصمت زوايا القفص، وصمت زوايا البيت الذي كان يصدح بغنائهما. غناؤهما مالئ حياتي بالسعادة الداخلية، وغيابهما مُفرغ حياتي من الهناءة.
سكن الليل بغتة. قلت لنفسي: أ معقول تترك العصفور الذي عاش عمره كله داخل القفص وداخل البيت في المستنقع؟ كل شيء هناك وحشي ومرعب وعارِ من الرحمة. الأشياء في ذلك المستنقع الأقوى بينها يتغذى على الأضعف. إنه صراع البقاء، حيث لا يمكن لكائن هناك سوى أن يكون أحد أمرين لا ثالث لهما؛ إما مفترس أو فريسة. ويحي من سرعة اتخاذي للقرار الخطأ! أنا قادم يا صديقي العصفور، سوف أنقذك. قبل كل شيء، أحتاج قارباً ومجدافاً؛ كي يحميانني من دواب المستنقع، ومن النوامي اللزجة على سطح الماء، ومن المواطئ العميقة المُغرقة لشخص لا يملك مهارة السباحة. أنا لست مهماً في هذه القصة، بل المهم هو صديقي العصفور. هو كل ما تبقى لدي، ولن أترك المستنقع يبتلعه. سامحني يا الله! والله ما أطلقته إلى خارج القفص إلا من حسن نية أو تسرع تعوزه رشاقة التفكر: عصفور أليف في القفص، لم تتعرض مداركه لأيما تجربة برية، يجب أن يظل في القفص. غلطة الشاطر بألف، هذا ما أفضل قوله لنفسي على أن أقول: كنتُ عديم الرحمة! لأنني لم أشأ رؤيته وهو يموت أمامي؛ ولأنني لا أتحمل فاجعة ثانية، فكفاني تلك الفاجعة الأولى: موت العصفورة. أنا آتٍ إليك يا صديقي.
ما أوسع المستنقع! المياه تغمر الغابة جزئياً. أقصى المستنقع مضمحلاً في الضباب والظلام، ومع ذلك في ميسوري أن أتبين الأشجار الجالسة في الماء. أحْ! اصطدم قاربي بجذع ناتئ وسط المياه، علي الانتباه والمحافظة على تركيزي. لن يكسرني هذا الحادث الصغير، ولسوف أمضي إلى الأمام متحاشياً التضاريس الوعرة. عظيم جداً! إني أتحسن في قيادة القارب؛ ذلك أن التموجات في مقدمة القارب تدفع الماء عن السبيل، وهذا يعطيني حركة سريعة في المستنقع. عين الله ترعاك يا عصفور! أين أنت؟ أقريب أنت أم بعيد؟ أم أنك تعمقت في البعيد فتعديت حدود المستنقع الواسع؟ مع أنني أشك؛ فليس لك لياقة أو طول نفس، وجناحيك لا يسعفانك. لطالما كنت تصطدم بالجدار أو دولاب ملابسي وتقع على الأرض فأضحك عليك وأحملك إلى القفص. كانت رفيقتك العصفورة أكثر منك جسارة وتطير أعلى منك، فلو كانت هي مكانك الآن لوضعت في حسابي أنها ربما تكون قد تعدت حدود المستنقع إلى حدود الأفق.
الظاهر لي أن حركة القارب تكون أفضل كلما زاد عمق الماء. لألقي نظرة على ذلك الجانب، الأشجار تحجب رؤيتي. إن أياً منها ليس عليها عش، بل طحالب اسبانية سامة، وهذا ما يُعمق من احساسي بتأنيب الضمير. أنا الرجل البالغ أواجه المتاعب فكيف بالطائر الضعيف؟! مهلاً! أسمع صوت طائر في الجوار. يا ربي! لم يكن عصفوري، إنه طائر البلشون وهو مشغول بدس منقاره كالسكينة في المياه بحثاً عن ضفدعة أو سمكة أو... أعوذ بالله! من هذه الخاطرة السوداوية. لقد تخيلت أن طائر البلشون اللعين منهمكاً بالبحث عن عصفوري.. عصفوري الذي من حين اطلاقي سراحه وصل إلى هنا ووقع في الماء، فأتى هذا الطائر الضخم لكي يأكله. أخرج طائر البلشون من الماء ضفدعة. أوه! الحمدالله! ليس عصفوري من تم أكله.
لقد جبتُ جنبات المستنقع ولا أثر للعصفور! القلق يعصف بي. هل أعود للبيت وأتركه هنا؟ إن أنا فعلت ذلك، فسوف أحكم على نفسي بانعدام الرحمة مدى الحياة، ولن أغفر لنفسي جريمتي النكراء. سأعاقب نفسي بالبقاء هنا لمدة ساعات، ولن أكِلَّ أو أمِلَّ. ساعة يدي المضيئة تشير إلى الثامنة مساءً. كنت أغالب الإعياء والتعب، وأعتبر هذا غير كافٍ لمعاقبتي. من هناك؟ أسمع أصوات بشرية في هذا المكان المقطوع! لأرى وأكتشف. اقتربت من الأصوات: إنهما شابان يتسكعان على الأديم الترابي قرب ضفة المستنقع. عندما رأياني سألاني ماذا أفعل هنا، فأجبتهما أني أبحث عن عصفوري، فضحكا مني. كان وجهاهما في العتمة فلم أتبينهما، ولكن عندما أشعل أحدهما ولاعته رأيت صفحتي وجهيهما، وبدوا لي مجرد غلامين مرحين ساذجين. أحدهما يرتدي قبعة، والآخر يبدو أسعد حالاً بشعره الأشعث.
قال ذو القبعة: أتينا إلى هنا، لنستمتع بوقتنا. خذ السجائر!
أجبته: شكراً! لا أدخن.
ضج صوتهما الفتي بضحكات مرِحة وكأنهما وقعا على شخص أحمق؛ وهذا الأحمق ما هو إلا أنا!
قال الأشعث: من قال لك أنها للتدخين؟ إنها مصنوعة لمآرب أخرى.
كنت سأتركهما لو لم يكمل جملته؛ حيث قال: سجائر معبأة بالشحنات النارية المتفجرة.
قلت بارتياح: أها! قل من البداية أنها مفرقعات نارية.
- ولدينا باقة من المقذوفات،- قال ذو القبعة،- انظر! صواريخ صغيرة، ومفرقعات نجوم، ومفرقعات راقصة، وفراشات، وعلبة كبريت خادعة، وأقلام، وشموع، وكرات تنس باعثة للدخان، وقذائف ذات انفجار متعدد... والكثير الكثير منها.
قال الأشعث: كنا ندخر النقود في حصّالة منذ فترة طويلة، من أجل الاحتفال بليلة رأس السنة. لقد حطمناها بالأمس، ولم يقع في ظننا أننا قد جمعنا ما جمعناه من النقود. إنها ثروة! ولا يوجد في الدنيا كلها ما هو أفضل من المفرقعات النارية لتبذير الأموال فيها.
سألت: أليس لديكما مفرقعات الثوم؟
عند ذلك نظر كل منهما إلى الآخر وانطلقا في ضحك هستيري.
- إلى اللقاء أيها الأحمقان! أنا ذاهبٌ للبحث عن عصفوري.
رغم أنني مضيت تاركاً إياهما لكنهما ما زالا على نفس الوتيرة العنيفة من الضحك الهستيري. واسْتغلَّيت مسألة انزعاجي منهما في الابتعاد عنهما أكثر وأكثر، لقد دخلت عمق المستنقع ولم أكن أبالي بسقوطي في الماء والغرق. نظرت إلى ساعتي، إنها تشير إلى التاسعة والربع. وفجأة وفي غمرة من هذا السكون العميق، ارتفعت ضجة في الليل، إنها قذيفة صوتية. الأحمقان بدأا اللعب!
سيّرتُ قاربي بالمجداف وواصلت البحث. القذائف الصوتية تترى، وأنا أنظر يَمْنَة ويَسْرَة بحثاً عن عصفوري. وفجأة سمعت قذائف دوي رعدية فطرقت مسمعي صيحة ذعر من مخلوق، بالقرب مني، بين النباتات المستنقعية. رغم أني استبعدت الفكرة، ولكن قلت لنفسي: لن تخسر شيئاً إن ألقيت نظرة على صاحب الصيحة المذعورة. ولما ألقيت النظرة، كانت ردة فعلي: نظرات ملأى بنشوة الجذل وكلمات التعجب، يا لطيف! ويا للمفاجئة المُباركة! عصفوري متجمد من الخوف فوق ورقة غليظة مسطحة فوق الماء. تلقفته بين كفيَّ وقربته إلى شفتي أقبله بحرارة. نبض شعور الطائر الصغير بالاطمئنان؛ لقد عرفني من ملمس يدي وصوتي. رغم الظلمة ووجوده في المستنقع في هذا الوقت، إلا أنه عرف أنني الوحيد في هذا المكان الذي لي صلة به، وله صلة بي. دفأته بوضعي له في جيب قميصي. أردت شكر الشابين؛ لأنهما كانا السبب في لقائي مع عصفوري بعدما كدت أفقد الأمل بالعثور عليه. كانا بعيدين، لكني أسمع صوت المفرقعات وأرى الليل يلمع بقذائف قرمزية، وقذائف نجمية.
عدت إلى منزلي ووضعت العصفور بالقفص قرب المدفأة، وهمست بمقربة من قضبان القفص: لا بد أنك بعدما كنت في خضم مغامرتك الرهيبة تلك تتضور جوعاً هذه اللحظة، سأحضر لك عشاءك، عشاء دسماً يعيد لك جزءاً من عافيتك، وما هو خير من البيض المسلوق؟
أثناء انتظاري لعملية غليان البيض في الإبريق، بكيت وشكرت الله وشكرت الشابين في أعماقي. كنت أعرف أنها تجربة صعبة على كلينا: أنا وعصفوري، ولكننا نجونا منها بسبب لطف الله. قلت لعصفوري: أمامنا متسع من الأيام لكي ننعم أنا وأنت بالهناءة. ستكون بخير، وسوف أجلب لك الرفقة الجديدة. وبالطبع لن ننسى رفيقتنا العصفورة.
التعديل الأخير: