اقتباس −الكتابة بذهن مشتت تشبه النوم أثناء السباحة كلاهما يؤدي إلى الغرق.
الكاتب الحديث العهد بالكتابة حين يمسك القلم وبدافع من الحماسة يريد النشر سيؤدي به ذلك غالباً إلى الفشل في حقل الكتابة الأدبية. لا أعني أنه لن يتمكن من نشر أدبياته، قد يجد دار نشر تقبل بنشر أعماله، ولكن ما فائدة نشر العمل الأدبي دون أن يُخلد؟ دون أن يعيش حتى بعد موت الكاتب؟ ولكي يُخلد العمل الأدبي، يجب أن يكون عبارة عن تحفة أدبية صاغها الزمن وصاغتها التجارب الذاتية لدى الكاتب.
الكتابة الحقة شعور، والشعور هو بحر في كوامن النفس البشرية لا يتمكن من ترجمتها إلى نص بليغ مُعبر إلا كاتب أديب. لهذا السبب أقول: العمر الصغير لا يكفي لكتابة كتاب ناجح، يجب أن يكون الكاتب عاش مديداً من السنوات، وخاض عديداً من التجارب، ومر على منعطفات العواطف الإنسانية الغريزية تحت شمس الوعي وفي الظل، ونازع أمواج الحياة؛ لكي يكون قادراً على امساك القلم بهدف النشر. الكتابة ليست بحث أكاديمي، هيا ابحث في النت ودوّن وسجل ولاحظ وقارن المعلومات واكتب! لا، الكتابة هي عصارة الإنسان الحياتية والفكرية والتذوقية للحياة.
هي وجهة نظر، قد أصيب بها وقد أخطئ، وبناء على ملاحظة، لا يمكن أن يقدم الكاتب الشاب أو المبتدئ منشور أدبي يستحق القراءة إلا إذا أفنى عمره بالكتابة ووصل إلى عمر متقدم. ربما أقول فوق الأربعين، ويا حبذا لو كان في الخمسين والستين. في هذا العمر، من الأربعين إلى الستين، يكون الكاتب موفق في اقتناص المشاعر الإنسانية بمختلف تنوعها ودرجات حدتها، برأيي يكون موفقاً أكثر من الكاتب الذي في عهد شبابه وفجر تجربته الأدبية.
سأذكر ثلاثة أمثلة بها قد أفوز باقناع القارئ بوجهة نظري أو حتى أستفزه للمناقشة وتحريك النقاش:
− فيكتور هيجو.
أديب الثورة وصديق البؤساء، عندما نشر عمله الخالد الرائع "البؤساء" كان عمره ستين عاماً. هذه الرواية الخالدة، ذات الخمسة مجلدات، والذي أنفق فيكور هيجو، كما قرأت في موقع جودريدز، أربعة عشر سنة وهو يكتب فصولها وأجزائها الكثيرة. أوتعتقدون أن هذا الأديب العظيم كان قادراً على صياغة البؤساء وهو في سن العشرين؟ من شاهدني وأنا أقرأ الرواية لم يرّ دموعاً على خدي، ولكن روحي كانت تبكي، موجة كهربائية من القشعريرة اجتاحت كياني العاطفي والفكري والضميري. هل كاتب شاب يستطيع أن يفعل بي هكذا أنا القارئ؟
هذه الرواية ليست فقط أهم رواية كُتبت في القرن التاسع عشر، وإنما هي مدرسة لكل شخص يحب أن يزاول الكتابة سواء أكانت مهنة أو هواية، على الكاتب أن يقرأ هذه الرائعة التي هي بمثابة مد وجزر كل المشاعر الإنسانية التي نعرفها والتي اكتشفناها كائنة في أعماقنا ولكننا احتجنا نصاً مثل هذا النص البديع كالمرآة لنرى انعكاساتها. قرأت في الويكبيديا أنه كُرِم وُضِعت صورته على الفرنك الفرنسي.
− كارلو كولودي.
هو كاتب إيطالي روائي وأبدع في أدب الطفل، وهو كاتب رائعة: مغامرات الدمية بينوكيو. كتب هذا العمل وهو في عمر سبعة وخمسين، الخمسون عام ونيف هو عصارة عمر، وسلسلة ضخمة من التجارب يحق له من خلالها صياغة نصائح وقيم في كتابه. لهذا كانت من أروع الأعمال العالمية المؤثرة في القراء وبالأخص الأطفال. هل يستطيع الكاتب الشاب تكوين قصة لتتمخض منها نصيحة؟ ستبدو النصيحة غير مقنعة منه، وغير صادقة.
− الكاتبة يوهانا شبيري.
كم كان عمر الكاتبة يوهانا شبيري عندما كتبت رواية هايدي؟ أكثر أعمالها شهرة وروعة. كان عمرها ثلاث وخمسين سنة. لكي تتمكن من كتابة رائعتها عاشت طفولة مشابهة لشخصية هايدي في كتابها. كان الكتاب دافئاً وفيه ظهرت طيبة الجدات ونصائحهن القيّمة لأن الكاتبة عندما كتبت الرواية كانت بعمر قريب من عمر الجدات. لأن الكتاب مؤثر وبديع، كافئت الحكومة السويسرية الكاتبة يوهانا شبيري ووضعت صورتها على عملة تذكارية بقيمة 20 فرنك سويسري في عام 2009.
طبعاً هناك استثناءات، ولكل قاعدة شواذ كما يقولون. سأذكر بعض الأمثلة التي خالفت فكرة موضوعي (النجاح في التأليف في سن صغير نسبياً):
− الألماني فالديمار بونسلس نشر كتابه "النحلة مايا ومغامراتها" في عام 1912 وهو في عمر 32 عام.
− الروائية الإنجليزية شارلوت برونتي نشرت رواية "جين إير" في عام 1847 وهي في عمر 31 عام.
− الكاتبة الأمريكية لويزا ماي ألكوت نشرت رواية "نساء صغيرات" بجزئيها الأول والثاني وهي في عمر 36-37 عام.
لكن بتصوري، الكُتّاب المبدعين عاشوا في صفاء ذهني في ذلك الزمن الجميل الهادئ بعيداً عن ملهيات عصرنا الحالي.. النت بقدر ما هو يساعد أحياناً بقدر ما هو مقبرة للوقت وللموهبة وللشباب.. كان المبدع منهم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين يكرس ساعات يومه أمام قلمه ودفتره ومنشوراته وأبحاثه..
سؤالي: هل برأيك هذا صحيح، لا يجب على الكاتب أن ينشر إلا إذا وصل إلى سن متقدمة؟ لكي يضمن النجاح؟
شاركني بوجهة نظرك ^-^
التعديل الأخير بواسطة المشرف: