مبارك الذهبيُّ يا @HIKAYAMI !!
فعلًا قد أبدعتِ ,
لن أقول كلَّ شيءٍ في هذه اللحظة بل سأتركه للرد !
تم الختم ~
S a n d r a - 13\9\2024
-
أُمسِكُ فستاني وأدور، في مُنتَصَفِ قاعَةٍ زُيّنتْ بِرَسماتٍ لي.
تَلأْلأَت الثريا من فوقي مُغدِقَةً عليَّ بِشُعاعِها، فلمَعَتْ تَطريزاتُ تَنورَتي كَأنها خيوطٌ من ذهبٍ.
تَراقصَ شعري الذهبي الناعم من حولي، على أنغامِ البيانو، مزينًا بتاجٍ من زمردٍ لماعٍ.
كلُ مَن في الحفلِ دارَ حولي، ريثما أسطَعُ في المُنتصف.
ما من شيءٍ يُخفي بريقي، أنا شَمسُ هذا العالم.
-جريس! إنزلي الآن، حالًا.
هدّمَ الصراخُ السقفَ. أسْقَطَ الثريا، وأوقفني عن الدوران.
-قادمةٌ عَمتي.
نَزِلتُ السُلَم مِسرعةً يلاحقني صرير الخشب المهترئ تحت قدمًّي.
ومع كل درجة حططت عليها، أسودَ شعري، وبهُتَ تاجي.
استمرت عمتي بصراخها، محطمة ما بقيَ:
-ألم تُكملي ارتِداءَ زيّكِ بعد؟ أهكذا تَرُدينَ لي جَميلي؟ لو تأخرتي أكثَر، واِستَيقَظَتْ الآنِسَةُ الصَغيرةُ قَبلَ أن تَكُوني جاهِزَةً لِمُساعَدَتِها،
سَتَندَمينَ. أنا من سَيحرِصُ على إعادَتكِ إلى الشارِعِ حِينَها! لَنْ تَحصُلي مِني عَلى مُعاملةٍ خاصَةٍ حَتى لَو كُنْتِ ابنَةَ أَخي الراحِل.
-حاضِرةٌ عَمتي.
عُدتُ مَكسوةً بِالسِخامِ.. فَأنا لَستُ شَمسًا، أنا الكُسوفُ. والكُسوفُ لا يَلمَع.
غَسَلتُ وجهي مُحاوِلَةً أن أُزيلَ بَقايا حَفلَةٍ لَم احظَ بِها، وظَفَرتً شَعريَ الأسود الداكن ثم لَففتُهُ.
نَفَضتُ ثَوبي الأسود الباهِت، ووضَعتُ عَلَيهِ مِأزَري الأبيض. كُلُ حَرَكَةً تَمت بِدِقَةٍ.
الآنِسَةُ لا تُحِبُ الفَوضى، وأَنا لا أُحِبُ البقاءَ في الشارعِ .
-يَومٌ آخَرٌ سَيَمضي.
نَزَلتُ نَحو المَطبَخِ، فَوجَدتُه مُعَطَرً بِرائِحةِ الحَساءِ اللذيذِ الذي راحَ الطاهي جون يُحرِكُهُ وهَو يُدَندِنُ.
-صَباحُ الخير رَئيسَ الطُهاةِ جون. وَمُساعِدَتُهُ العَزيزةُ ماري.
فاستَدارَ نَحوَ صَوتي وأشرَقَ وجههُ.
-صَباحُ الخيرِ يا جريس! افطارُنا اليَومَ حَساءُ الخُضارِ الذي تُحبينَه، أنِجزي عَملكِ بِدقة وعَودي لِنتناوله مَعًا.
-الحَساءُ الألَذُ في العالمِ! ذاهبةٌ.
ابتَسَمَتْ العَمةُ ماري. لم تَكُنْ تُجيدُ الكَلامَ، لكِنَها لَم تَحتَج إلى الكلماتِ يومًا لتُعَبّرَ عن حُبِها لي.
نَاولَتني ابريقًا مِن الماءِ الدافئِ، فَأخذتُهُ مِنها بِحرصٍ. الطاهي جون وَزَوجَتُهُ ماري ألطَفُ العامِلين في هذا القَصرِ، وأَحَبَهُم إلى قلبي.
شققت طريقي نَحو جناح الآنسةِ الشمالي بِأقصى سُرعةٍ حالت دونَ انسكابِ الإبريق.
سَلمتُ على كلِ الخدمِ، مَر عامٌ ونِصف مُنذ صاروا عائلتي الجديدة.
عندما وَصلتُ إلى غرفةِ الآنسةِ، تَأكدتُ مِن ترتيب ثيابي وَوقفتُ مستقيمةً، ثُم طَرَقتُ بابَ الغرفَةِ بِرفقٍ.
لَكِن لم اسمَع مِنها جَوابًا. فَفَتَحتُهُ بِبُطءٍ كَما عَلمَتني عَمتي واتجهتُ نَحو سَريرها المحاط بالتول. كَلمتها بِصوتٍ خَفيضٍ:
-صَباحُ الخير آنسة فيكتوريا.
أكملت وأنا افتح ستائر الغرفة المخملية لأسمحَ لِضوءِ الشَمسِ المُرتَجِفُ بالدخولِ
-اتمنى انكِ حظيتِ بنوم هانئ، ما زالتْ السَماءُ ضبابيةً اليومَ لكِن هُناك احتمال أن يكون الغدُ أكثَر دِفئًا.
فَتحَتْ عَيناها الزَرقاوان البَلوريتان برفقٍ وحدَقت بي، ثم نادتني بصوتٍ مشرق:
-جريس!
وعَدَلَتْ جَلسَتها على السريرِ. لَمعَ شَعرُها الذَهبيُ الناعمُ المبعثر أكثرَ حتى مِن اشعةِ الشمسِ الضعيفة التي دخلت الغرفة.
أدركتُ لحظتها ما يعنيه أن تكون شمسًا.
-صباح الخير يا جريس.
وضعتُ على وجهي أبتسامةً عريضةً وأجبتها:
-صباح الخير آنسة فكتوريا.
سكبت لها الماء الدافئ في اناءٍ مزخرف، فَبَلَلَتْ بِهِ وَجهها ثُم جَفَفتُهُ بِطَبْطَبْاتٍ خَفيفةٍ.
جَلستُ امَشِطُ خُصلات شَعرها الذَهبي بِلُطفٍ ورِقّة، فَهو أعز ما املك.
-هَل ترغبينَ بارتداءِ شيءٍ مُحدَدٍ اليوم آنسة فيكتوريا؟
جالتْ عَيناها، فَبَدتْ لي تُفَكِر.
فَقُمتُ أفتح خزانتها الكبيرة لأنتقي منها فستان اليوم.
كان فستانها الجديد الذي وصلَ من المشغلِ ليلةَ أمس، في المقدمةِ.
زمرديُ اللونِ، طُرِزَتْ عَلَيهِ زُهورٌ بِخيوطٍ ذَهبيةٍ.
-فستانُ عيدِ ميلادكِ وَصلَ البارِحةَ آنستي. لا يسعني الإنتظار لِرؤيتكِ به يوم غدٍ، مُتَأًكِدَةٌ أنكِ ستبدين جميلة جدًا.
-أعلم، بابا طَلَبَهُ مِن أَفضَلِ خَياطَةٍ في البلادِ.
-لا عَجب آنستي، عيد ميلادِ الآنسة الصغيرة مُناسبةٌ لا تَتَكرر كل يوم.
ابعدته جانبًا وقَلبتُ الفساتينَ الأخرى في حنقٍ، ثم اخرجت فستانًا أزرقًا فاتحًا مزينًا بدانتيلٍ أبيض.
-ما رأيكِ ان ترتدي هذا الفستان اليوم آنستي؟ يناسب هذا اللونُ عينيكِ.
-كلا، لا أريده. لا أحب الدانتيل، يذكرني بملابس الخدم.
وكأنني ارتديت الدانتيل يومًا، حمدًا لله أن امي ميتة، ولم ترَكِ وانتِ لا تفرقين الدانتيل عن القطن.
-معكِ حقٌ آنستي.
اعدته وقلبتُ أكثر.
أخرجت لها فستانًا اخر، زيتونيٌ بقصة بسيطة.
-ما رأيكِ بهذا الفستان الجميل آنستي؟ دائمًا ما تحبين ارتدائه في صباحات باردة كهذه.
-مللت هذه الفساتين كلها! اكرر ارتداءها يومًا بعد يومٍ كأنني طفلة من عائلة فقيرة.
عصرت يدي بقوة، وعدت أقلب في أكوام الفساتين الفاخرة، ثم أخرجت لها فستانًا بلون أحمر.
-هذا الفستان مثاليٌ، يشبه فستان الملكة فكتوريا ألا تظنين هذا؟
ستبدين كملكة صغيرة به.متأكدة انك ستكبرين لتصبحي يومًا الملكة فكتوريا الثانية.
لَمَعتْ عينا فيكتوريا وأشرَق مُحَيّاها. سنةٌ مِنَ العَمَلِ في خِدمَتِها كافيَةٌ لِتَوَقُعِها.
-حسنًا يا جريس، لا بأس بهذا الفستان لليوم. ساعديني بارتدائه.
اخرجت الفستان برفق من الخزانة، وساعدتها بترتيبه. ثم سرت خلفها نحو غرفة الطعام، وهي تَتَبَخْتَرُ كَأميرة.
ألقيتُ التحية على والديها، سيدا هذا القصر، وتركتهم يتناولون الطعام معًا مثل أي عائلةٍ سعيدةٍ، وعدتُ إلى المطبخ.
فاذا بعمتي ما زالت تصرخ..
-اشتكت الآنسة الصغيرة من سوء ترتيبكِ لغرفتها، ليس الآن وقت الطعامِ! رَتبي غرفتها قبل ان تنتهي الآنسة وإلا لا طعام لليوم.
-حاضرة عمتي.
سيطردونكِ يومًا بسبب سوءِ سلوككِ لا سلوكي، رئيسة خدمً لم تتوقف عن الصراخ منذ الصباح الباكر.
على من سأسلط كرهي الأكبر اليوم؟ عمتي أم الآنسة الصغيرة؟
بالرغم من كون كلتاهما كريهتين لكن الاجابة دائمًا ستكون، الآنسة فكتوريا.
فعمتي مثلي، تعاني من أجل العيش في هذا العالم.
قبضت يدي وعدت إلى الجناح الشمالي. نفضت سرير الآنسة وبدلت الملائات. مسحت كل شبرٍ من الغبار.
أريد ان أسمعها تشتكي مرة أخرى، ربما حينها سأعطيها سببًا حقيقيًا لتشتكي منه.
شددت قبضتي حتى شعرت بأظافري تنغرز في راحة يدي، وعدت إلى المطبخ.
كان المطبخ مليئًا على آخرهِ بالخدم، الذين كان يسيرون يمينًا وشمالًا بخطواتٍ سريعة كأن الزمن يطاردهم.
طقطقت القدور وتكلمت الأفواه حتى شعرتُ بأنعدام امكانية سماع أفكاري.
فجأة شعرت بيد امرأة على كتفي فأستدرت، كانت المساعدة ماري.
رَفَعت راحة يدي ووضعت فيها قصاصةً من ورق. حَدَقتُ في كَفي ثُم قلت لها:
-تريدين مني الذهاب إلى السوق؟
فهزت رأسها.
أشارت إلى فمها، ثم فركت مَعدتها بحركاتٍ دائرية. فهمتُ أنها تَسألُني عَن الطَعام.
فهززت رأسي نافية:
-لستُ جائعة.
عدت انظر إلى الخدم وأغرق في افكاري، الجميع مشغولٌ بتحضيرات عيد ميلاد الآنسة، بالرغم مِن كَونه عيدَ ميلادي أيضًا.
كلتانا ستبلغان العاشرة غدًا لكني على عكسها، يتيمة وفقيرة. مجرد خادمة لا يكترث لعيد ميلادها احد.
ربما حتى عمتي لا تعرف تاريخه. نكرة في عالمٍ يحكمه أمثال انستي الصغيرة.
ربتت ماري على كتفي، اتسائل احيانًا إن كانت تفهمنا.
أرتديت معطفي القديم وحملت سلتي، وذهبت إلى عمتي لتعطيني ثمنها.
- هل أعطتكِ ماري قائمة المشتريات يا جريس؟
- نعم عمتي، لن أتأخر في احضارها.
-حمدًا لله انكِ تعرفين القراءة. كانت أمكِ مفيدة.
-نعم، حمدًا لله...
خرجت من باب المطبخ الخلفي حابسةً ضحكتي.
بالطبع كانت أمي مفيدة. كانت أفضل معلمة شهدها التاريخ.
وأفضل مَن علم الأطفال المتعجرفين القراءة. حتى الآنسة فكتوريا تعلمتها بفضل أمي.
لو سألت من ممن علمتهم أمي، كان الأسرع تعلمًا والأذكى، ومن حفظ أكبر قدرٍ من المعلومات؟
أنا.. بالطبع أنا. لايوجد أي مجالٍ للمقارنة بيني وبينهم. بالذات فكتوريا التي تبدوا لي كمن لم يتلقى أي نوعٍ من التعليم.
لكن لو كان السؤال مع من قضت أمي مدة أطول؟ سيكون الجواب فكتوريا..
فكتوريا لم تحرز تقدمًا في التعلم، والقت اللوم على دورس امي، فطردوها..
متأكدة انها كانت السبب. بسببها لم تحصل أمي على عملٍ آخر.
عملت مع أبي في المصنع، ثم ماتا بعدها، كلاهما.
فكتوريا تتحمل كامل المسؤولية.
رغم الجو البارد، كان دمي يغلي وأنا أستعيد هذه الذكريات.
تساقطت ندفاتُ الثلج شيئًأ فشيئًا، ثم أشتدت حتى عصفت.
احكمت أغلاق معطفي لأحفظ دفء جسدي أطول مدة ممكنة.
نظرت إلى الورقة المجعدة في يدي، واتجهت نحو المتجر.
وعلى الأرض، عند باب المتجر تحديدًا، بدأ الثلج يغطي غرابًا جريحًا. نعق الغراب نعيقًا متعبًا، وكسى الثلج بلونٍ قرمزي.
ارعبني المنظرُ، فَحمَلته ونفضت الثلج عنه. كيف أعالجه؟ إلى أين تراي أحمله؟ تدفقت الأفكار في عقلي وجالت.
حدقت من حولي، أملًا بطلب المساعدة، لكن لم يعرني أحدٌ اهتمامًا. أخذته بعيدًا عن الجموع المكتضة.
جلست ولففت جرحه بمنديلي، ثم وضعته تحت معطفي، آملةً ان يكتسب بعضًا من حرارة جسدي.
-هل أنت جائع يا غرابي؟
فنعق.
-لن يتم طردي لو أعطيتك كسرة خبزٍ، صحيح؟
فنعق مرة أخرى.
ذهبت إلى المخبز وأشتريت قطعة خبزٍ صغيرة. كسرتها إلى قطعٍ أصغر وساعدته على أكلها.
-لدي بعض الأعمال اليوم يا غرابي، هل تتحمل لبضع ساعات أخرى ريثما نصل إلى المنزل؟
نعق مرة أخرى، فاعتبرتها ايجابًا.
بعد ان انهى طعامه، أخفيته في الجيب الكبير لمعطفي.
عدت أكمل عملي، رحت أتحرك بين المتاجر لأشتري المطلوب، بأسرع ما أمكنني.
وأخفيت النصف بنسٍ المفقود بتقليلي للكميات المطلوبة. هنا قليلًا وهناك قليلًا، لن يلحظ أحد.
عدت إلى القصر راكضة، وسلمت المشتريات إلى الطاهي جون.
-البرد قارس، لابد أنكِ تجمدتي دون طعامً. أنا اسفٌ يا ابنتي. هل أحضر لكِ شيء لتأكلينه؟
أبقيت يدي على جيبي مانعة الغراب من اطلاق صيحة، ومخفية أياه عن الأنظار.
أجبته وأنا اتحرك مبتعدة:
-كلا، أشكرك يا جون الطيب. لا أشعر بالجوع الآن.
غادرت المطبخ وصعدت السلم نحو غرفتنا أنا وعمتي.
صَنعتُ له سريرًا صغيرًا من قطع القماش القديمة، ووضعته أسفل فراشي، ثم غَطيته.
أخرجت بقايا الخبز من جيب معطفي ووضعتها بجواره. اتمنى أن لا تلتهمها الفأران.
حدق بي بنظرات تشي بالتعب..
-اسفة غرابي. أعلم أن المكان ليس دافئًا هنا، سأعود لك فور إنهاء عملي.
أحكمت تغطيته، وركضت عائدة إلى أسفل.
كان الوقت يمرُ ثقيلًا، لكن كنت متحمسة للعودة إلى غرفتي، لأول مرة منذ دخلت هذا القصر.
عندما حل المساء أخيرًا، رافقت الآنسة إلى سريرها. وغطيتها كما غطيت الغراب منذ ساعات، وأستدرت مغادرة، فنادتني.
-جريس، أحكي لي حكاية؟
-اسفة يا آنسة. نفذت مني الحكايات.
-وهل تنفذ الحكايات؟
-نعم بالطبع، دائمًا ما تنفذ الحكايات.
-ماذا يحدث عندما تنفذ الحكايات يا جريس؟
فكرت مطولًا، ثم تنهدت قائلة:
-نتذكر حكايات قديمة، او نخلق أخرى جديدة.
-لا تستطيعين خلق حكايةٍ بعد الآن؟
-كلا يا آنسة، فخلق الحكايات يحتاج رفاهية العيش.
-اذن تذكري أخرى قديمة.
-يجب أن تنامي اليوم باكرًا انستي، أنا اسفة. غدًا سأقص عليكِ حكاية الخادمة الصغيرة التي جاءت قصرًا.
-وطلبت منها سيدته الصغيرة خدمتها؟
-نعم، تلك الحكاية.
-حسنًا يا جريس، اظن أنني من سيقصها عليكِ غدًا. فأنا ايضًا لدي بعض الحكايا المخبأة.
ثم أغلقت جفنيها.
عدت إلى المطبخ ونظفته، حتى جاءت عمتي.
-اذهبي إلى النوم يا جريس. ولا تتأخري في الاستيقاظ فالغد يومٌ مهم للآنسة الصغيرة.
-حاضرة عمتي، تصبحين على خيرٍ.
حمدًلله ان عمتي ترسلني إلى النوم قبل باقي الخدم.
صعدت إلى الغرفة وأنحنيت فورًا تحت السرير، لكن لم أجد غرابي.
ناديته بصوتٍ خافت
-غرابي؟ اين أنت يا غرابي؟
جاءني نعيقه من قرب النافذة، فوجدته واقفًا تحت إطارها.
-هل شفيت يا غرابي؟
-نعم، أشكركِ.
كدت أصرخ لكن تمالكت نفسي حتى لا تأتي عمتي.
-أتحدثتَ للتو؟
-نعم، أكثر ما أجيد هو الكلام.
-لكن، لم أرى غربانً تتحدث من قبل.
-نحن لا نحادث كل البشر بطبيعة الحال، لكن أنتِ أنقذتني، أشكركِ.
-أنا سعيدة لإنقاذك غرابي. لم يشكرني أحدٌ من قبل. هل ستغادر الآن؟
-سأغادر نعم. لكن قبلها، سأحققُ لكِ أمنية. مقابل مساعدتكِ لي سأحقق أي أمنية تريدينها.
-أي أمنية؟
-نعم، بالطبع.
لَمعت عيناي وأنا أفكر في حلمي
-أريد تاجًا مرصعًا بالزمرد، وشعرًا اشقرًا ناعم، وبالطبع، خزانة مليئة بالفساتين المزخرفة.
فنعق الغراب.
-هذه أمنياتٌ كثيرة، أستطيع تحقيقَ واحدةٍ فحسب.
-أذن، أريد أن أكون الآنسة فكتوريا.
نعق الغراب بصوتٍ عالٍ، فأمسكتُ منقاره.
-أخفض صوتكَ، أرجوك!
-أمنيتكِ هذه كبيرة، هل أنتِ متأكدة؟
-نعم، متأكدة.
-ستخسرين الكثير، الكثير. ستعرضين حياة شخصٍ للخطر وتجلبين الخراب بقدرتي؟ ما زلتِ متأكدة؟
-حتى لو حطمت أمنيتي لندن. لا، حتى لو حطمت العالم بأكمله. أنا متأكدة.
-لكِ ما تريدين. أحلامًا هانئة يا جريس.
وفرد جناحيه، وحلق من النافذة التي لا أذكر كونها مفتوحة.
نظرت حولي، وإلى شعري، لم يتغير شيء.
نهضت من الأرض، أغلقت النافذة وخلدت إلى النوم.
×××
أيقظتني صباحًا طرقاتٌ خفيفة على باب غرفتي. فتحت عيناي، فوجدت سقفًا لم أعتد رؤيته.
يجتاح جسدي شعورٌ بالنعومة. أمسكت يدَي مفرش السرير فأذا به حريريٌ.
نهضت مصعوقة، سحبت شعري نحو ناظريَّ فاذا به ذهبيٌ.
نظرت حولي، أنا في سرير الآنسة فكتوريا.
قفزت من السرير، ركضت نحو الخزانة وفتحتها، فلمع الفستان الزمردي بداخلها.
ضحكت بقوة، كأنني لم أضحك من قبل في حياتي. ضحكت ما لم أضحكه لسنوات.
فُتِحَتْ بابُ غرفتي، فإذا بها خادمتي الصغيرة.
-صباح الخير يا جريس، ساعديني بارتداء ملابسي، اليوم عيد ميلادي بعد كل شيء.
أنخرطت مجددًا بالضحك.
أمسك فستاني وأدور. أنا الشمس حقًا هذه المرة.
#ملهم_2
أُمسِكُ فستاني وأدور، في مُنتَصَفِ قاعَةٍ زُيّنتْ بِرَسماتٍ لي.
تَلأْلأَت الثريا من فوقي مُغدِقَةً عليَّ بِشُعاعِها، فلمَعَتْ تَطريزاتُ تَنورَتي كَأنها خيوطٌ من ذهبٍ.
تَراقصَ شعري الذهبي الناعم من حولي، على أنغامِ البيانو، مزينًا بتاجٍ من زمردٍ لماعٍ.
كلُ مَن في الحفلِ دارَ حولي، ريثما أسطَعُ في المُنتصف.
ما من شيءٍ يُخفي بريقي، أنا شَمسُ هذا العالم.
-جريس! إنزلي الآن، حالًا.
هدّمَ الصراخُ السقفَ. أسْقَطَ الثريا، وأوقفني عن الدوران.
-قادمةٌ عَمتي.
نَزِلتُ السُلَم مِسرعةً يلاحقني صرير الخشب المهترئ تحت قدمًّي.
ومع كل درجة حططت عليها، أسودَ شعري، وبهُتَ تاجي.
استمرت عمتي بصراخها، محطمة ما بقيَ:
-ألم تُكملي ارتِداءَ زيّكِ بعد؟ أهكذا تَرُدينَ لي جَميلي؟ لو تأخرتي أكثَر، واِستَيقَظَتْ الآنِسَةُ الصَغيرةُ قَبلَ أن تَكُوني جاهِزَةً لِمُساعَدَتِها،
سَتَندَمينَ. أنا من سَيحرِصُ على إعادَتكِ إلى الشارِعِ حِينَها! لَنْ تَحصُلي مِني عَلى مُعاملةٍ خاصَةٍ حَتى لَو كُنْتِ ابنَةَ أَخي الراحِل.
-حاضِرةٌ عَمتي.
عُدتُ مَكسوةً بِالسِخامِ.. فَأنا لَستُ شَمسًا، أنا الكُسوفُ. والكُسوفُ لا يَلمَع.
غَسَلتُ وجهي مُحاوِلَةً أن أُزيلَ بَقايا حَفلَةٍ لَم احظَ بِها، وظَفَرتً شَعريَ الأسود الداكن ثم لَففتُهُ.
نَفَضتُ ثَوبي الأسود الباهِت، ووضَعتُ عَلَيهِ مِأزَري الأبيض. كُلُ حَرَكَةً تَمت بِدِقَةٍ.
الآنِسَةُ لا تُحِبُ الفَوضى، وأَنا لا أُحِبُ البقاءَ في الشارعِ .
-يَومٌ آخَرٌ سَيَمضي.
نَزَلتُ نَحو المَطبَخِ، فَوجَدتُه مُعَطَرً بِرائِحةِ الحَساءِ اللذيذِ الذي راحَ الطاهي جون يُحرِكُهُ وهَو يُدَندِنُ.
-صَباحُ الخير رَئيسَ الطُهاةِ جون. وَمُساعِدَتُهُ العَزيزةُ ماري.
فاستَدارَ نَحوَ صَوتي وأشرَقَ وجههُ.
-صَباحُ الخيرِ يا جريس! افطارُنا اليَومَ حَساءُ الخُضارِ الذي تُحبينَه، أنِجزي عَملكِ بِدقة وعَودي لِنتناوله مَعًا.
-الحَساءُ الألَذُ في العالمِ! ذاهبةٌ.
ابتَسَمَتْ العَمةُ ماري. لم تَكُنْ تُجيدُ الكَلامَ، لكِنَها لَم تَحتَج إلى الكلماتِ يومًا لتُعَبّرَ عن حُبِها لي.
نَاولَتني ابريقًا مِن الماءِ الدافئِ، فَأخذتُهُ مِنها بِحرصٍ. الطاهي جون وَزَوجَتُهُ ماري ألطَفُ العامِلين في هذا القَصرِ، وأَحَبَهُم إلى قلبي.
شققت طريقي نَحو جناح الآنسةِ الشمالي بِأقصى سُرعةٍ حالت دونَ انسكابِ الإبريق.
سَلمتُ على كلِ الخدمِ، مَر عامٌ ونِصف مُنذ صاروا عائلتي الجديدة.
عندما وَصلتُ إلى غرفةِ الآنسةِ، تَأكدتُ مِن ترتيب ثيابي وَوقفتُ مستقيمةً، ثُم طَرَقتُ بابَ الغرفَةِ بِرفقٍ.
لَكِن لم اسمَع مِنها جَوابًا. فَفَتَحتُهُ بِبُطءٍ كَما عَلمَتني عَمتي واتجهتُ نَحو سَريرها المحاط بالتول. كَلمتها بِصوتٍ خَفيضٍ:
-صَباحُ الخير آنسة فيكتوريا.
أكملت وأنا افتح ستائر الغرفة المخملية لأسمحَ لِضوءِ الشَمسِ المُرتَجِفُ بالدخولِ
-اتمنى انكِ حظيتِ بنوم هانئ، ما زالتْ السَماءُ ضبابيةً اليومَ لكِن هُناك احتمال أن يكون الغدُ أكثَر دِفئًا.
فَتحَتْ عَيناها الزَرقاوان البَلوريتان برفقٍ وحدَقت بي، ثم نادتني بصوتٍ مشرق:
-جريس!
وعَدَلَتْ جَلسَتها على السريرِ. لَمعَ شَعرُها الذَهبيُ الناعمُ المبعثر أكثرَ حتى مِن اشعةِ الشمسِ الضعيفة التي دخلت الغرفة.
أدركتُ لحظتها ما يعنيه أن تكون شمسًا.
-صباح الخير يا جريس.
وضعتُ على وجهي أبتسامةً عريضةً وأجبتها:
-صباح الخير آنسة فكتوريا.
سكبت لها الماء الدافئ في اناءٍ مزخرف، فَبَلَلَتْ بِهِ وَجهها ثُم جَفَفتُهُ بِطَبْطَبْاتٍ خَفيفةٍ.
جَلستُ امَشِطُ خُصلات شَعرها الذَهبي بِلُطفٍ ورِقّة، فَهو أعز ما املك.
-هَل ترغبينَ بارتداءِ شيءٍ مُحدَدٍ اليوم آنسة فيكتوريا؟
جالتْ عَيناها، فَبَدتْ لي تُفَكِر.
فَقُمتُ أفتح خزانتها الكبيرة لأنتقي منها فستان اليوم.
كان فستانها الجديد الذي وصلَ من المشغلِ ليلةَ أمس، في المقدمةِ.
زمرديُ اللونِ، طُرِزَتْ عَلَيهِ زُهورٌ بِخيوطٍ ذَهبيةٍ.
-فستانُ عيدِ ميلادكِ وَصلَ البارِحةَ آنستي. لا يسعني الإنتظار لِرؤيتكِ به يوم غدٍ، مُتَأًكِدَةٌ أنكِ ستبدين جميلة جدًا.
-أعلم، بابا طَلَبَهُ مِن أَفضَلِ خَياطَةٍ في البلادِ.
-لا عَجب آنستي، عيد ميلادِ الآنسة الصغيرة مُناسبةٌ لا تَتَكرر كل يوم.
ابعدته جانبًا وقَلبتُ الفساتينَ الأخرى في حنقٍ، ثم اخرجت فستانًا أزرقًا فاتحًا مزينًا بدانتيلٍ أبيض.
-ما رأيكِ ان ترتدي هذا الفستان اليوم آنستي؟ يناسب هذا اللونُ عينيكِ.
-كلا، لا أريده. لا أحب الدانتيل، يذكرني بملابس الخدم.
وكأنني ارتديت الدانتيل يومًا، حمدًا لله أن امي ميتة، ولم ترَكِ وانتِ لا تفرقين الدانتيل عن القطن.
-معكِ حقٌ آنستي.
اعدته وقلبتُ أكثر.
أخرجت لها فستانًا اخر، زيتونيٌ بقصة بسيطة.
-ما رأيكِ بهذا الفستان الجميل آنستي؟ دائمًا ما تحبين ارتدائه في صباحات باردة كهذه.
-مللت هذه الفساتين كلها! اكرر ارتداءها يومًا بعد يومٍ كأنني طفلة من عائلة فقيرة.
عصرت يدي بقوة، وعدت أقلب في أكوام الفساتين الفاخرة، ثم أخرجت لها فستانًا بلون أحمر.
-هذا الفستان مثاليٌ، يشبه فستان الملكة فكتوريا ألا تظنين هذا؟
ستبدين كملكة صغيرة به.متأكدة انك ستكبرين لتصبحي يومًا الملكة فكتوريا الثانية.
لَمَعتْ عينا فيكتوريا وأشرَق مُحَيّاها. سنةٌ مِنَ العَمَلِ في خِدمَتِها كافيَةٌ لِتَوَقُعِها.
-حسنًا يا جريس، لا بأس بهذا الفستان لليوم. ساعديني بارتدائه.
اخرجت الفستان برفق من الخزانة، وساعدتها بترتيبه. ثم سرت خلفها نحو غرفة الطعام، وهي تَتَبَخْتَرُ كَأميرة.
ألقيتُ التحية على والديها، سيدا هذا القصر، وتركتهم يتناولون الطعام معًا مثل أي عائلةٍ سعيدةٍ، وعدتُ إلى المطبخ.
فاذا بعمتي ما زالت تصرخ..
-اشتكت الآنسة الصغيرة من سوء ترتيبكِ لغرفتها، ليس الآن وقت الطعامِ! رَتبي غرفتها قبل ان تنتهي الآنسة وإلا لا طعام لليوم.
-حاضرة عمتي.
سيطردونكِ يومًا بسبب سوءِ سلوككِ لا سلوكي، رئيسة خدمً لم تتوقف عن الصراخ منذ الصباح الباكر.
على من سأسلط كرهي الأكبر اليوم؟ عمتي أم الآنسة الصغيرة؟
بالرغم من كون كلتاهما كريهتين لكن الاجابة دائمًا ستكون، الآنسة فكتوريا.
فعمتي مثلي، تعاني من أجل العيش في هذا العالم.
قبضت يدي وعدت إلى الجناح الشمالي. نفضت سرير الآنسة وبدلت الملائات. مسحت كل شبرٍ من الغبار.
أريد ان أسمعها تشتكي مرة أخرى، ربما حينها سأعطيها سببًا حقيقيًا لتشتكي منه.
شددت قبضتي حتى شعرت بأظافري تنغرز في راحة يدي، وعدت إلى المطبخ.
كان المطبخ مليئًا على آخرهِ بالخدم، الذين كان يسيرون يمينًا وشمالًا بخطواتٍ سريعة كأن الزمن يطاردهم.
طقطقت القدور وتكلمت الأفواه حتى شعرتُ بأنعدام امكانية سماع أفكاري.
فجأة شعرت بيد امرأة على كتفي فأستدرت، كانت المساعدة ماري.
رَفَعت راحة يدي ووضعت فيها قصاصةً من ورق. حَدَقتُ في كَفي ثُم قلت لها:
-تريدين مني الذهاب إلى السوق؟
فهزت رأسها.
أشارت إلى فمها، ثم فركت مَعدتها بحركاتٍ دائرية. فهمتُ أنها تَسألُني عَن الطَعام.
فهززت رأسي نافية:
-لستُ جائعة.
عدت انظر إلى الخدم وأغرق في افكاري، الجميع مشغولٌ بتحضيرات عيد ميلاد الآنسة، بالرغم مِن كَونه عيدَ ميلادي أيضًا.
كلتانا ستبلغان العاشرة غدًا لكني على عكسها، يتيمة وفقيرة. مجرد خادمة لا يكترث لعيد ميلادها احد.
ربما حتى عمتي لا تعرف تاريخه. نكرة في عالمٍ يحكمه أمثال انستي الصغيرة.
ربتت ماري على كتفي، اتسائل احيانًا إن كانت تفهمنا.
أرتديت معطفي القديم وحملت سلتي، وذهبت إلى عمتي لتعطيني ثمنها.
- هل أعطتكِ ماري قائمة المشتريات يا جريس؟
- نعم عمتي، لن أتأخر في احضارها.
-حمدًا لله انكِ تعرفين القراءة. كانت أمكِ مفيدة.
-نعم، حمدًا لله...
خرجت من باب المطبخ الخلفي حابسةً ضحكتي.
بالطبع كانت أمي مفيدة. كانت أفضل معلمة شهدها التاريخ.
وأفضل مَن علم الأطفال المتعجرفين القراءة. حتى الآنسة فكتوريا تعلمتها بفضل أمي.
لو سألت من ممن علمتهم أمي، كان الأسرع تعلمًا والأذكى، ومن حفظ أكبر قدرٍ من المعلومات؟
أنا.. بالطبع أنا. لايوجد أي مجالٍ للمقارنة بيني وبينهم. بالذات فكتوريا التي تبدوا لي كمن لم يتلقى أي نوعٍ من التعليم.
لكن لو كان السؤال مع من قضت أمي مدة أطول؟ سيكون الجواب فكتوريا..
فكتوريا لم تحرز تقدمًا في التعلم، والقت اللوم على دورس امي، فطردوها..
متأكدة انها كانت السبب. بسببها لم تحصل أمي على عملٍ آخر.
عملت مع أبي في المصنع، ثم ماتا بعدها، كلاهما.
فكتوريا تتحمل كامل المسؤولية.
رغم الجو البارد، كان دمي يغلي وأنا أستعيد هذه الذكريات.
تساقطت ندفاتُ الثلج شيئًأ فشيئًا، ثم أشتدت حتى عصفت.
احكمت أغلاق معطفي لأحفظ دفء جسدي أطول مدة ممكنة.
نظرت إلى الورقة المجعدة في يدي، واتجهت نحو المتجر.
وعلى الأرض، عند باب المتجر تحديدًا، بدأ الثلج يغطي غرابًا جريحًا. نعق الغراب نعيقًا متعبًا، وكسى الثلج بلونٍ قرمزي.
ارعبني المنظرُ، فَحمَلته ونفضت الثلج عنه. كيف أعالجه؟ إلى أين تراي أحمله؟ تدفقت الأفكار في عقلي وجالت.
حدقت من حولي، أملًا بطلب المساعدة، لكن لم يعرني أحدٌ اهتمامًا. أخذته بعيدًا عن الجموع المكتضة.
جلست ولففت جرحه بمنديلي، ثم وضعته تحت معطفي، آملةً ان يكتسب بعضًا من حرارة جسدي.
-هل أنت جائع يا غرابي؟
فنعق.
-لن يتم طردي لو أعطيتك كسرة خبزٍ، صحيح؟
فنعق مرة أخرى.
ذهبت إلى المخبز وأشتريت قطعة خبزٍ صغيرة. كسرتها إلى قطعٍ أصغر وساعدته على أكلها.
-لدي بعض الأعمال اليوم يا غرابي، هل تتحمل لبضع ساعات أخرى ريثما نصل إلى المنزل؟
نعق مرة أخرى، فاعتبرتها ايجابًا.
بعد ان انهى طعامه، أخفيته في الجيب الكبير لمعطفي.
عدت أكمل عملي، رحت أتحرك بين المتاجر لأشتري المطلوب، بأسرع ما أمكنني.
وأخفيت النصف بنسٍ المفقود بتقليلي للكميات المطلوبة. هنا قليلًا وهناك قليلًا، لن يلحظ أحد.
عدت إلى القصر راكضة، وسلمت المشتريات إلى الطاهي جون.
-البرد قارس، لابد أنكِ تجمدتي دون طعامً. أنا اسفٌ يا ابنتي. هل أحضر لكِ شيء لتأكلينه؟
أبقيت يدي على جيبي مانعة الغراب من اطلاق صيحة، ومخفية أياه عن الأنظار.
أجبته وأنا اتحرك مبتعدة:
-كلا، أشكرك يا جون الطيب. لا أشعر بالجوع الآن.
غادرت المطبخ وصعدت السلم نحو غرفتنا أنا وعمتي.
صَنعتُ له سريرًا صغيرًا من قطع القماش القديمة، ووضعته أسفل فراشي، ثم غَطيته.
أخرجت بقايا الخبز من جيب معطفي ووضعتها بجواره. اتمنى أن لا تلتهمها الفأران.
حدق بي بنظرات تشي بالتعب..
-اسفة غرابي. أعلم أن المكان ليس دافئًا هنا، سأعود لك فور إنهاء عملي.
أحكمت تغطيته، وركضت عائدة إلى أسفل.
كان الوقت يمرُ ثقيلًا، لكن كنت متحمسة للعودة إلى غرفتي، لأول مرة منذ دخلت هذا القصر.
عندما حل المساء أخيرًا، رافقت الآنسة إلى سريرها. وغطيتها كما غطيت الغراب منذ ساعات، وأستدرت مغادرة، فنادتني.
-جريس، أحكي لي حكاية؟
-اسفة يا آنسة. نفذت مني الحكايات.
-وهل تنفذ الحكايات؟
-نعم بالطبع، دائمًا ما تنفذ الحكايات.
-ماذا يحدث عندما تنفذ الحكايات يا جريس؟
فكرت مطولًا، ثم تنهدت قائلة:
-نتذكر حكايات قديمة، او نخلق أخرى جديدة.
-لا تستطيعين خلق حكايةٍ بعد الآن؟
-كلا يا آنسة، فخلق الحكايات يحتاج رفاهية العيش.
-اذن تذكري أخرى قديمة.
-يجب أن تنامي اليوم باكرًا انستي، أنا اسفة. غدًا سأقص عليكِ حكاية الخادمة الصغيرة التي جاءت قصرًا.
-وطلبت منها سيدته الصغيرة خدمتها؟
-نعم، تلك الحكاية.
-حسنًا يا جريس، اظن أنني من سيقصها عليكِ غدًا. فأنا ايضًا لدي بعض الحكايا المخبأة.
ثم أغلقت جفنيها.
عدت إلى المطبخ ونظفته، حتى جاءت عمتي.
-اذهبي إلى النوم يا جريس. ولا تتأخري في الاستيقاظ فالغد يومٌ مهم للآنسة الصغيرة.
-حاضرة عمتي، تصبحين على خيرٍ.
حمدًلله ان عمتي ترسلني إلى النوم قبل باقي الخدم.
صعدت إلى الغرفة وأنحنيت فورًا تحت السرير، لكن لم أجد غرابي.
ناديته بصوتٍ خافت
-غرابي؟ اين أنت يا غرابي؟
جاءني نعيقه من قرب النافذة، فوجدته واقفًا تحت إطارها.
-هل شفيت يا غرابي؟
-نعم، أشكركِ.
كدت أصرخ لكن تمالكت نفسي حتى لا تأتي عمتي.
-أتحدثتَ للتو؟
-نعم، أكثر ما أجيد هو الكلام.
-لكن، لم أرى غربانً تتحدث من قبل.
-نحن لا نحادث كل البشر بطبيعة الحال، لكن أنتِ أنقذتني، أشكركِ.
-أنا سعيدة لإنقاذك غرابي. لم يشكرني أحدٌ من قبل. هل ستغادر الآن؟
-سأغادر نعم. لكن قبلها، سأحققُ لكِ أمنية. مقابل مساعدتكِ لي سأحقق أي أمنية تريدينها.
-أي أمنية؟
-نعم، بالطبع.
لَمعت عيناي وأنا أفكر في حلمي
-أريد تاجًا مرصعًا بالزمرد، وشعرًا اشقرًا ناعم، وبالطبع، خزانة مليئة بالفساتين المزخرفة.
فنعق الغراب.
-هذه أمنياتٌ كثيرة، أستطيع تحقيقَ واحدةٍ فحسب.
-أذن، أريد أن أكون الآنسة فكتوريا.
نعق الغراب بصوتٍ عالٍ، فأمسكتُ منقاره.
-أخفض صوتكَ، أرجوك!
-أمنيتكِ هذه كبيرة، هل أنتِ متأكدة؟
-نعم، متأكدة.
-ستخسرين الكثير، الكثير. ستعرضين حياة شخصٍ للخطر وتجلبين الخراب بقدرتي؟ ما زلتِ متأكدة؟
-حتى لو حطمت أمنيتي لندن. لا، حتى لو حطمت العالم بأكمله. أنا متأكدة.
-لكِ ما تريدين. أحلامًا هانئة يا جريس.
وفرد جناحيه، وحلق من النافذة التي لا أذكر كونها مفتوحة.
نظرت حولي، وإلى شعري، لم يتغير شيء.
نهضت من الأرض، أغلقت النافذة وخلدت إلى النوم.
×××
أيقظتني صباحًا طرقاتٌ خفيفة على باب غرفتي. فتحت عيناي، فوجدت سقفًا لم أعتد رؤيته.
يجتاح جسدي شعورٌ بالنعومة. أمسكت يدَي مفرش السرير فأذا به حريريٌ.
نهضت مصعوقة، سحبت شعري نحو ناظريَّ فاذا به ذهبيٌ.
نظرت حولي، أنا في سرير الآنسة فكتوريا.
قفزت من السرير، ركضت نحو الخزانة وفتحتها، فلمع الفستان الزمردي بداخلها.
ضحكت بقوة، كأنني لم أضحك من قبل في حياتي. ضحكت ما لم أضحكه لسنوات.
فُتِحَتْ بابُ غرفتي، فإذا بها خادمتي الصغيرة.
-صباح الخير يا جريس، ساعديني بارتداء ملابسي، اليوم عيد ميلادي بعد كل شيء.
أنخرطت مجددًا بالضحك.
أمسك فستاني وأدور. أنا الشمس حقًا هذه المرة.
#ملهم_2
التعديل الأخير بواسطة المشرف: