رواية اسطورية لكنَّني وَجدتُها (2 زائر)


ستـارلآيتـو

الٰلهُمَ صّلِ وسَلّمْ عَلۓِ نَبِيْنَا مُحَمدٓ ﷺ
إنضم
5 فبراير 2016
رقم العضوية
5930
المشاركات
1,021
الحلول
1
مستوى التفاعل
3,927
النقاط
972
أوسمتــي
12
الإقامة
INFJ
توناتي
3,227
الجنس
أنثى
LV
3
 
at_172446004565811.gif


شكرًا لكِ ستارلايتو لإدلائكِ الاهتمام بالمحتوى
و كتابة رد تطيب به نفس الكاتب ~ ق1


S a n d r a - 25\8\2024

تم الختم ~





at_172364247913566.png


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيفك سازار ان شاء الله بخير ؟!
ماشاء الله تبارك الله ابداع خيالي بالبارت حقيقة،..
طواال قرائتي له وانا مندهشه ومستمتعه لأقصى درجه ش2ليليث3،
من وقت مكالمة احمد وآدم كنت حاسه رح يحصل لآدم شيء قك2،..
وحصل اللي كان متوقع لكن كطريقة قتله بشعه كثير وغير متوقعه…
كرهت احمد بسبب برود مشاعره تجاه موت صديقه خصوص لما دافع عنه آدم، لا09مس3
انتظر متى تقول انو كان بحالة صدمة عشان ما اكرهه اكثر ه1ه1
لكن صح طلع ضايع غير مستوعب رورو3
حيرني موضوع السجارة لآدم واضح في احداث خفيه بين الشخصيات،…
وزيد موضوعه محير هل هو فعلا مجرم وقتل آدم وعماد وابويه ؟!…

ام في شخص يتلاعب فيه د9ور1 اغلب الظن في شخص يشكل تهديد
وخطر لأن مشاعره تجاه اخته قوية واضح يحبها ويريد يحميها،
وهي ممكن عندها معرفه بالأمور لكن مشتته ؟!..
بالمجمل ماشعرت ان لديها مشاعر كره تجاه اخيها زيد بالعكس، ب1ق7
الخلاصه كأن في شخص كان على معرفه بآدم بوقت كان برفقه سيئه
وقرر ينتقم منه بخضم الأحداث المتوتره بين زيد واحمد ؟؟! ربما…
اما عماد ممكن انتقام او دفن سر معه بخصوص علاقته بزيد،
وكصديق مقرب شكله يعرف كثير اسرار !
لكن مزامنة توقيت قتله مع آدم واتصاله بأحمد غامض
ممكن الهدف منه تشتيت احمد وتضليله لكن ليش هو بالذات ؟!
نفترض عشان مشاعره تجاه اخت زيد في شخص

ممكن يراقب عن كثب لغز محير هونتووني رورو3
وربما يستغل الأحداث لصالحه يعني من تحت
الطاوله لإشعال فتيل بين زيد واحمد ب9،..
اوووه ان شاء الله تكون تحليلاتي صح ولو بنسبة ٥٠٪؜ ه1
مش من خارج القصه والكوكب والمجرة ولا رح يكون شيء محرج كثير بكا2


at_172364502434785.png

جانيهه نص1نج1.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

YAFA

أعِدني لنَفسي، كَم تغرَّبتُ حائرًا
إنضم
7 مارس 2022
رقم العضوية
12642
المشاركات
4,529
الحلول
1
مستوى التفاعل
12,726
النقاط
1,490
أوسمتــي
22
العمر
25
توناتي
18,031
الجنس
أنثى
LV
5
 
at_172446004565811.gif

@EMERGENCY FOOD
1/10/2024


السلام عليكم ورحمة الله
كيف الحال سازار عساك بخير ليليث3، توسوست كثير لما دخلت
موضوع الرواية وأنا بحاول أتذكر لو كتبت رد او لا، اللي متأكدة منه
اني قرأت الفصل في بداية تنزيلك له، بس ما اتذكر لو كملته للآخر يمكن
قلت بنتظر لوقت اكتب الرد، بعدين حسيت اني كتبت رد قبل واني بحثت عن نوع السيارة
يلي ذكرتها بس طلعت مو كاتبة، شكله ذاك اليوم صار شي وما كملت الرد ومسحته
وقلت برجع بعدين، وها نحنُ هنا بعد قرن من الزمن، ولأن لك وقت طويل ما نزلت فصل جديد
كمان قلت لعلّ ردّي يحمسك تكمل وترجع تنزل، كمان ما اذكر لو باركت لك قبل بس مبارك
ختم الرواية نارية، وعقبال الختم الإداري، اعرف انك تطمح له وان استمرّت فصولك بالمستوى
العالي من الإبداع هذا ف أنت لها ان شاء الله
بسم الله و هنا نشغل وضعيّة محاولة تذكر شو صار بآخر احداث الفصل اللي قبله
بأمانة آخر ذكرى عندي عن الرواية هو مشهد كلام رنا وأحمد عن كيف أهلها انقتلوا
في المشهد الأول أجان ايرور لحظات، مين ادم هو مش كان اسمه أحمد البطل؟ xd
السؤال الثاني هنا، مين عماد برضو! معقول أنا ضيعت لهدرجة شكيت بنفسي
احسني ضيعت شي بالنص جد ما أتذكر إني قرأت مشهد متعلق باجتماع عدة أشخاص
وحتى هالاسماء جديدة عليّ، عمومًا كملت قراءة لحتى اتذكر او افهم شو عم يصير​
فأنتِ قِطعَتي المفقودة .. لِما لا تزالين تضيعينَ مِنّي في كُلِ مرةٍ أَجِدُكِ؟
وكالعادة وصفك جميل ويوصل المشاعر جوجو1
قاطع الحديث صَوتُ إصطدامٍ قوي تلاهُ صوتُ سقوط الهاتف على الأرض
في هذا المشهد اول شي خطر لي انه تم قتله،غالبًا حادث سيارة واكيد انه مُتعمد
عودة للمشكلة يلي صارت في بداية الفصل وذكر أسم عماد يبدو انه عماد ويلي كان معه
بالسيارة هو يلي قتله، يلي هو زيد غالبًا..
بحثت عن شجرة الجعبة يلي ذكرتها، ما كنت سامعة فيها قبل، صدقًا شكلها يخوف
ذكرك للموقف يلي يصير في بيوت العزاء من تصنع وغيره هو حقيقي وكنت اشوفه
بنفسي ويا كرهي لهاي الناس ولواجب اكرامهم بمثل هيك أيام وظروف اساسًا
إذا ما بكون مخربطة فالشخص يلي يتكلم عن ان حزنهم عالموت شي درامي هو أحمد؟
تفكيره فعلاً غبي ومستفز، ينسى نفسه انه يزعل ويبكي لو رنا ما قالت له صباح الخير!
معلش شخصنتها بس تفكيره غبي، وكأنه كمان الولد شوي اهبل؟ xd كويس
انه اختصر عليّ ووصف نفسه بنفسه بإنه منفصم، لإنه كان معه عالخط في مكالمة ف
كيف ما استوعب الموضوع لهاي اللحظة؟​
فأنا حقاً لا أشعر بشيءٍ حتى الآن .. رُبما حقاً لم يكن له قيمةٌ بالنسبة لي ..
مخترع كلمة البجاحة مع مثال حي ومباشر :
حد يسلفني شبشب ارميه عليه (:
يبدو هنا ان ريم كانت مع زيد لكن تركته مشان آدم او شي من هذا القبيل
اما المشهد الأخير في مكتب التحقيق، حمدًا لله أخيرًا الأخ أحمد استوعب شو يلي كان صاير
لكن حقيقة قتل عماد ايضًا كانت صادمة، ممكن ان زيد ما كان بده يكون في شخص
شاهد ع جريمته او يمكن عماد يلي قتل آدم بتحريض منه بعدين زيد كمل عليه آدم وعلى عماد
بنفس الطريقة حتى يضمن نفسه ما ينكشف او حد يبلغ عنه
متحمسة لأحداث الفصل الجديد وكيف حيقدر أحمد يلاقي دليل يثبت إدانة زيد
حتى رنا وضعها مشكوك ان كانت لسا حيّة او لا، ممكن هي محبوسة في بيتهم
او في مكان بعيد بس ما أظن أنها ميتة
عمومًا الفصل كان جميل ومليء بالصدمات وتحوّل الأحداث كمان جميل
اما الأسلوب والسرد والوصف كعادتك مبدع فيهم
يعطيك العافية، جاري التقييم وفي أمان الله ناي1
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:

إنضم
7 مايو 2019
رقم العضوية
9955
المشاركات
3,899
مستوى التفاعل
4,275
النقاط
583
أوسمتــي
3
الإقامة
كوكب بلوتو ♇
توناتي
1,715
الجنس
ذكر
LV
0
 
at_171666228204521.gif




at_172259249108142.png


تم الختم - 1/6/2025

S a n d r a
-

- لَوحَة -

الفَصلُ السابع


"في حديقة المدينة العامة, الساعة 9:30 مساءً - يوم السبت"

زيد وهو يصرخ بصوتٍ متهدج, يحاولُ كبح جماح غضبه وحزنه:
-ريم, أنتِ تعلمين أنني فعلتُ ذلك من أجلك!
-من أجلي؟! أن تقتل إنساناً فقط لأنه صرخ في وجهك!
-لمْ يترك لي خياراً! حاولت .. حاولتُ التغاضي عنه .. "أصبحتْ نبرتهُ هادئة وقد إزدادتْ رُعباً وحقداً" لكن في كل مرة, اتذكرُ وجهه المتعالي, نبرته المغرورة, إهانته لي امام الجميع .. ارغب بتهشيم جمجمته بيدي!
-ولقد فعلت, تهانيا الحارة .. لا أرى ندماً في كلامك ..
-ريم .. أرجوكِ .. إسمعيني ..

إنتفضتْ ريم صارخة بوجهه:
-لا, زيد .. لنْ أسمعكَ ثانيةً! منحتُكَ فرصة .. لكنك لمْ تستحقها ..

يركع على ركبتيه, يلفظ كلماتٍ محطمة قد نفذت حِيَلُها وهي تحاولُ يائسةً:
-أتوسلُ إليكِ .. لا تتركيني .. فأنا .. أنا أعشقك! لا استطيعُ العيشَ من دونكِ ..

تنظر إليه بعينينٍ صارمتين إجتاحتهما الحيرة والشفقة, لمْ تعلم بماذا تجيبه, فقررتْ الحفاظ على هدوئها وصلابتها الرهيبتين وهي تحدق به بصمتْ ..

رَدُّها الصامت أوجعه أكثر من ألفِ صفعة, فاكملَ قائلاً وهو يزحفُ نحوها بتذلل والدموع تتساقط على الأرض كالمطر:
-ريم, أرجوكِ, لا تفعلي هذا, إنطقي ولو بكلمةٍ واحدة .. لا تبقي صامتة, فهذه النظرات, تحرقني أكثر فأكثر
"يحني رأسه والدموع قد أغرقت خديه":
لنْ أُكررها .. هذا وعد .. أجل!.. لن أفعلها ثانيةً, أعدكِ بذلك .. أُقسم لكِ .. انني سأتركُ كُلَّ هذا ..
كُلَّ يوم تراودني تلك الأفكار .. لكنني أُقاوم .. كل يوم أقاوم .. أُحاول التغيّر مراراً.. من أجلكِ, أنتِ فقط!
أنتِ لا تعلمين مقدار العذاب الذي اعيشهُ أثر مقاومة تلك الأفكار .. فعدمُ إلتزامي بوعدنا يليه هَجرُكِ لي ..
أستيقظ على هذا كابوس في كلِّ ليلةٍ .. فلا تتركيني وحيداً ..
"قال بنبرة حزينة وخافتة": أتوسلُ لُطفكِ .. قلبُكِ الطيب .. دعيه يرئف بي ولو قليلاً ..

لمْ تهز تلك الكلمات هدوئها وبقيت تحدّجه بنظرة طويلة في صمتْ, اثار ذلك حزنه واجهش بالبكاء أكثر:
-ريم .. لا تفعلي هذا!

يُقرب رأسه من قدمها, يمسح وجههُ بحذائها ويقبله, ثُمَّ يهمس بتذلل:
-حتى .. حتى لو طلبتي روحي .. حتى لو طلبتي إذلالي .. أن تمسحي حذائكِ برأسي .. ان تبسقي علي .. ان أزحف خلفك, أن تبرحيني ضرباً .. فقط, إمنحيني فرصة أخيرة ..

تركلُ وجهه بقوة لتنفرُ منهُ غاضبةً وهي تنفض معطفها, ينهار بالبكاءِ اليائس وهو يغطي وجهه منحنياً ..
تتنهد بأسف وهي تنظر لهُ بنظراتٍ مُشمئزة, ثُمَّ تقول بنبرة هادئة وصارمة وكأنها إتخذت قرارها:
-فرصة أخيرة؟ زيد, الحب ليس لعبة نكررها كلّما خسرنا, ولا نستطيع تجربتها مرة أخرى ببعض الدموع والإذلال المثير للشفقة!

تنحني منه وهي تنظرُ في عينيه المنهارتين وكأنها تخاطب رُوحه:
-لو منحتُكَ فرصةً أخرى, فسأكون قد سلمتك رصاصةً ثانية لا أكثر ..

تتراجع خطوة لتقول وهي تنظر له بنفس النظرات الباردة وكأنها صفعة أخيرة:
-لا يمكنني العيش مع رجل, خوفي منهُ أكبر من خوفي عليه, أنتَ لستَ إنساناً, أنا أمقتك!..

تديرُ ظهرها ثُمَّ تمشي بثبات وترحل بهدوء لتترك "زيد" خلفها وقد إستلقى على الأرض لتتعالى صرخاته ويشتَدَّ نحيبه,
يعضُّ شفتيه وهو يئنُّ ألماً, يجرُّ وجهه على التراب وهو يمسحهُ بآثار أقدامها وكأنها كُلُّ ما تبقى له منها ..
غطتْ دموعهُ آثارُ حذائها, يراقبها تبتعد شيئاً فشيئاً حتى توارت عن ناظِرِهِ ..


..........................


يبحثُ بين كُتب والدتهِ القديمة بعناية, يُفتشُ بين أوراقها ورسائل العشق القديمة المُرسلة من والدهِ التي إصفرَّتْ أطرافها بفعل الزمن, باحثاً عن جملةٍ تُشبهه, جُملة تَصِفُ حُبّه لمعشوقته "رنا" ..

"حسن, ماذا تفعلُ هنا؟!"

تجمد للحظة وهو يسمع صوت والدته تسأل بفضول, سيطر الإرباك على كلماته المتقطعة,
إذ إنَّه لم يعتد على القراءة في حياته, ولا على لمس تلك الذكريات المحفوظة بعناية,
سيبدو أمرًا مريبًا لو علمتْ بأنّه يبحث عن كتاب اشعارٍ وغزل ..

لكنّه إستجمع شجاعته وقال بهدوء:
"انا أبحث عن ذلك الكتاب, ذو اللون الأزرق الذي اهداه والدي لكِ"

نظرتْ والدته إليه طويلاً ثُمَّ إبتسمتْ, كأنها قراتْ الحُبَّ في عينيه لأول مرة في حياته, وفَهِمَتْ مبتغاه ..
لم تنبس ببنت شفة, توجهت بصمت الى الدولاب القديم وأخرجتْ له الكتاب, ناولتهُ إياه وهي ترمقه بتلك النظرات الضاحكة, ساخرة بعض الشيء وسعيدة لكونه تغير ..

إحمرَّ وجهه خجلاً على غير العادة وهو يحاول إخفاء ارتباكه, فذلك الكتاب لا يُشبهه, لا يُناسبُ طبيعته الباردة القاسية ..
لكنّهُ أخذ الكتاب وهو يُتمتمُ بشكرٍ سريع ثُمَّ إنصرفَ مُسرعاً الى غرفته ..

جلس على حافة السرير, فتح صفحاته وراح يُبحرُ بين كلماته وكأنّهُ يغوصُ في بحرٍ لا يُجيد السباحةَ فيه, باحثاً عن الجملة الأقرب الى حاله ..
قرأ عشرات العبارات, حتى أدرك بأنه قرأ نصف الكتاب, ولأول مرة في حياته ..

أغلق الكتاب بيأس فاقداً الأمل, عجزَّ عن إيجاد الطريقة التي يخبر بها "رنا" عن حبه العظيم لها, الطريقة التي تنقلُ حُبه هو, لا كما يكتبهُ الشعراء ..

بعد دقائق من التفكير, راودتهُ كُلُّ تلك الذكريات التي شاركها معها, يتذكر إبتسامتها وضحكاتها, شعر بسعادة عظيمة لتواجدها في حياته البائسة ..

اخرج هاتفه ليكتب لها رسالة عفوية دون تحضير: "لا أعرف كيف أشرح شعوري نحوكِ, المشاعر شيء معقد جداً بالنسبة لي. لكنني, أُحبكِ بكُلّ ما أملك من حُب في حياتي"
كان الجزء الأخير قد إقتبسه من إحدى صفحات ذلك الكتاب, لكنها بدتْ صادقة
.. ضغط على زرِّ الإرسال, ثم اغلق هاتفه وهو يبتسم بهدوء ..


........................


<مدونة رنا>

لمْ تجرِ الأمور كما خططتُ لها, يالي من بلهاء, كيفَ غفلتُ عن هذا؟
بعدَ عودةِ النور لتلك الزهرة الذابلة, لا بُدَّ لها أنْ تحيى من جديد! لنْ يكفيها ضوء القمر البارد بل ستحنُّ لتلكَ النجمةِ التي اعتادتْ على دفئها ..

"كيفَ يُمكنُ للناسِ مُقاومة الإفصاح عن فحوى مشاعرهم, يُظهرون حُبهم بفتورٍ رُغم هُيامهم؟"
هكذا ردد قلبي وهو ينبض مُشتتاً بين تلكما الرغبتين المتناقضتين ..
أجل, أنا أضعف من أن أُقاوم تلك اللهفة, لكنني مُجبرة على ذلك! ينبغي لتلكَ النجوم أن تحرق نفسها, عقاباً لها, كما تركتْ هذه الزهرة تذبلُ في وحدتها ..

وبينما كنتُ اقاوم لهيب الشوق, تسلل صوت عقلي خلاله ليرد عليَّ بجفاء:
"الإفصاح عن تلك المشاعر, قد يجعلُ منها واقعًا، لا يعلم الإنسانُ إنْ كان على إستعدادٍ لتقبُّله، فيُلازمُ نفسهُ
مُلاطفاً ذلك الشعور بحذر, خوفاً مِن الإنغماس فيه, عيشه رغم النفور منه"

ببساطة لأننا نبحث عن السعادة في أماكن خاطئة، رُبما لأننا نخاف من الأماكن الصحيحة التي تُجبرنا على مواجهة حقيقة رغباتنا, وهذا أعظم ما نخشاه!

أقلبُ الصفحة لأكتب تلك الحروف التي بتجمعها, تُفككني, فوسط هذا التشتت, وجدتني اعود اليه, الى ذلك الإسم الذي أبى الغياب ..
الألف ثم الحاء والميم والدال حتى تشكل إسمك وسط الورقة البيضاء كما دخل حياتي ..
رفيقي في طفولتي، ساكنُ قلبي في غيابه عنّي ..

يومَ رأيتُهُ يُحدِّثُ تلك المدعوة "سارة", إجتاحني خوفٌ عميق لا أجد مبرراً له، كأشواكٍ تخزُ قلبي، أو كنارٍ باهتةٍ تحرق لحظات السكينة ببطء ..
أهو الخوف من خسارتك أم رؤيتكَ سعيداً بدوني؟ أم أن تتخلى عنّي مرةً أُخرى؟

اسند رأسي المثقل بالأفكار بكفي وأنا ألقي بنظراتي المشتتة عبر النافذة,
أنتظر أن تهدأ تلك الأفكار وأنا أراقب الشارع بصمتْ,
وكأنني أنظر الى مرآةٍ مكسورة تعكس وجهي المحمل بذلك الشتات الذي لا أفهمه ..

إربدَّت السماء وبدأت قطرات المطر بالتساقط على زجاج النافذة حتى تشكلت على هيئةِ تلك المتاهة الصغيرة في داخلي, أجول فيها, أبحثُ مُضطربةً عن ذاتي,
لِأجد إنعكاس صورتي في بؤبؤ عينيكَ اللّاهبتين, بذلك الأمل, الذي حوّلهما الى نتجمتين زيّنتا سمائي, أتأملهما واجمةً حتى دنتا مني آسيتين ..

شحتُ بنظري منهما خَجَلاً .. لا قدرةَ لي على لقياهما بذلكَ الفتور الذي إستقر في قلبي, شعورٌ مبهم, كأنّي لا أستحقهما!
لا أعلم حقيقة ما يسكن فؤادي, أأنا حقاً من الهائمين عشقاً بالنجوم أم من المتأملين الذين يؤسرون بأيُّ منظرٍ ساحر يصادِفُهُم؟
ففي النهايةِ خُلقت النجومُ لتُزيّنَ السماء بنورها, وليس للوقوعِ في حُبِها, أليس كذلك, يا نجمتاي اللامعتان؟ لِما تواصلان إلقاء النظرات عليّ؟ أنا لا أُقدِّرُكما ..

رُغمَ كُلِّ الحب الذي أغرقتماني به، إلا أن تلك الصورة لا تكادُ تفارق ثنايا عقلي, في مكاننا السري, على ضفة النهر, توسلت أن تبقيا معي، فهجرتماني ..
منذُ ذلك الحين، أعيشُ مشوشة البال, لا علم لي إن كان قلبي لا يزالُ يُمجِّدُ نورَكما ام كفَّ عن ذلك ..

وفي خضم صراعي مع قلبي, أطلَّ عليَّ قمرٌ تاه عن مساره, يؤازرني بنوره الدافئ, باحثاً عن أرضٍ يدورَ حولها، حتى صادف قلبي ..
ترددتُ في البداية من هذا الدخيل الغريب, فهو ليس كسائر الخلق .. يظهرُ بوجهٍ جديد كل ما التقيته, كالقمرِ تماماً!

ورغمَ غرابته, إلا انه كان كافياً لملء تلك الفجوة التي خلّفتُماها, يا نجمتاي العزيزتان ..
شعرتُ بودٍّ تجاههُ, حتى غزا أفكاري كلها, وأصبح نوره رفيقي من بعدِ نوركما ..
ذوى لهيب النجمتين كما تذوي الأزهارُ في فصل الخريف ..

وبعد كُلِّ تلك السنوات, لمحتُ نوركما من جديد! لكنكما, أصبحتما باهتتين ..
امرُّ بجانبكما لعدةِ أيامٍ, أخافُ لُقياكما بعد أن سمحتُ لنور القمر بالتسلل إليّ ..

إستجمعتُ شجاعتي أخيراً وقررتُ أنَّ الوقت قد حان ..
لبستُ الأسوارة الوردية التي احتفظت بها لهذا اليوم, أنظرُ لنفسي في المرآة وأنا اهمس بهدوئ: "لستُ المُخطِئة... أستطيعُ فعلها!"
وعندما مررنا بجانبك في نفس الطريق الذي تمرُّ فيه كُلَّ يَوم إمتحان, طلبتُ من أخي ان نَقُلُّك الى البيت, فلا ينبغي تركُ الجارِ يمشي تحت لهيب الشمس ..
لا أعلمُ كيف نطقتُ بتلك الكلمات أمام أخي, ونسيتُ جنونهُ, لكنني لمْ أُرد أن تضيع منّي ..

وافق اخي بهدوءٍ على غير عادته, ربما سايرني ليعرف من ذا الذي قد اطلب منه التوقف لأجله!
راودته الشكوك من قبل أن انطق بالطلب حتى ..
أربكتني برودةُ رَدِّهِ حتى نزل من السيارة بكل تلك الحيوية والحماس طالباً منكَ المجيءَ بسرعة, هذا إسلوبه في جذب الناس ..

عندما شعرتُ بقُربك, إضطربتْ نبضات قلبي, تشوشتْ أفكاري أكثر فأكثر ..
وفي لحظة إتصال أعيننا, انهارتْ كل تلك الخطط التي جهزتها, ليندلع في قلبي إحساسٌ غريب؛
بتلك السعادة الحزينة المؤججة بالعتاب, أنظرُ لعينيك اللتين إزداد بريقهما ..
وكالعادة, أبرحني أخي ضرباً بعد عودتنا الى المنزل يومها, لكن, كان الأمرُ يستحق ..

لمْ تعُد ايامي من بعدها أياماً ..
في خضم صراعي بين نور القمر وسطوع النجمتين, كان هنالك صوتٌ داخلي ينطق بالحقيقة التي لا أستطيع سماعها بسبب صخب هذه الأفكار والذكريات ..
الحقيقة التي, حتى لو زارت مسامعي, سأنكرها مراراً لِألبث في ظلال تأملاتك الدافئة ..
لأنَّ في تلك الحقيقة, بُعدكَ عنّي, وروحي تأبى ذلك!..
أصبحتَ أنتَ الآن كل مُمتلكاتي ..

عدتُ الى المنزل لتصلني تلك الرسائل المُحمَّلةً بكُلّ ما احتاجه من الدفء والإهتمام الذي عوّضني طوال هذه السنوات ..
رسائل مدججة بكل تلك الوعود والأحلام المستقبلية التي يجب علينا تحقيقها معاً ..
لكن الآن, بعد عودةِ نجمتاي, سأعتذر عن إكمال الطريق معك, لأتركك وحيداً كما عرفتك ..

آسفة يا قمري, فلقد انرتَ عتمتي في غياب نجمتاي ..
والآن, بعد ان عادتا, لن احتاجك بعد الآن!
أعتذرُ عن ذلك الإنفلاق الذي ساُحدثهُ فيك ..

رغم انك لم تكن قمراً مثالياً .. فجانِبُكَ المُظلم طغى على أسلوبك في مُعظم الأوقات ..
لقد حرمتَ الكثيرين من نور حياتهم, كُنتَ سبب ظُلمة أيامهم, كُنتَ جحيماً بالنسبةِ لهم, لكنني أحببتك رغم ذلك!
أحببتُكَ لأنكَ لمْ تشملني معهم, رُغم قساوةِ قلبك, كُنتَ ليناً معي,أسكنتني في جانبك المُضيء, كُنتَ مُستعداً للتغيّر من أجلي!

رفض عقلي ذلك العرض المغري, فبعد كل شيء, انتَ قاتلٌ خطير, تُشاركُ أخي في جرائمه ..
لكن كما ربتني تلك الأم المُهملة, كان لقلبي السطوة الأكبر كالعادة .. فلقد اختارتْ والدي رغم انه السبب في إفلاس عائلتها!
لقد كانتْ متعاطفةً معه, مسحورةٌ بإسلوبه الجذاب وطلته المغرية, حتى انتجا ذلك الكائن الذي سمياه "زيد" ..
ياله من هلاكٍ اتيا به الى حياتنا, كُنّا لنكون أسعد لو لمْ يُولد!
أشعرُ وكأنه حيوانٌ بشري, لا يفكر سوى بنفسه ومصالحه, يلتهمُ من يُعارضه كما يلتهم الأسد فريسته ..
لقد كان السبب في مقتلكما أيها الأحمقان, فلماذا لا تزالان ترمقانني بتلك النظرات العابسة .. إنه المجرم, لستُ انا!

اعتذر لك يا احمد عن كُلّ ذلك, أعلمُ جيداً بأنك ستقرأ هذه المذكرة يوماً ما, بطريقةٍ أو بأخرى,
كما كان يقولُ ذلك الأبُ الأحمق, عندما كنتُ أكذبُ عليه, كان دائماً ما يقول بأنّه لا توجد حقيقة تبقى مخفية او, ما شابه ذلك ..
أريد التوضيح فقط بأنَّ هذا الكلام, ليس إلا حوار مُعتاد بين عقلي وقلبي ..

لكنني أريدك ان تعرف تلكَ الحقيقة التي أرفضُ الإعتراف بها, لقد احببتُ "حسن" حقاً!
عوَّضني عن غيابك, أشعرني بدفئه رغم وحشيته ..
لكن, عندما التقيتك مرة أخرى, بعثرتَ كل أوراقي ..

طلبتُ من صديقَتَي, بدور وريم, ان تجاريانني بتلك التمثيلية الرخيصة, التي كُنتَ فيها انتَ فارسي الذي انتظره واتحدث عنه طوال الوقت ..
فقط لكي تبقى بقربي, خفتُ أنْ ترحل إنْ علمتَ بالحقيقة .. كان يجب أنْ أفعل ذلك, اعتذر عن كل شي ..

والآن, أنا مترددة بين من اعطاني كل شيء, ومن ذهب واخذ مني كل شيء .. غريب, أليس كذلك؟
أي معتوهٍ سيقارنُ بين الإثنين؟
لكن, هذه هي قوتك الحقيقية .. انتَ تشوشُ أفكاري لدرجة انني افكر بتلك الطريقة غير المنطقية .. اشعر بالجنون بسببك أيها الاحمق!
آهٍ لو تعلم كم أحبك, أعلم بأنني لن استطيع الإستمرار بتمثيلية "الإهمال", فلهفتي اليكَ تفوق لهفتك بمراحل, سأُهزم امامَ عينيك عاجلاً أم آجلاً!

.. لكنني, آسفة على ما سيحدث ..


وصلتها رسالة لتجد بأنَّ المرسل هو "حسن" ..
رسالة تحوي ذلك الحب المتردد الذي إعتادتْ عليه منه ..
بعد ان قرأتْ: "أُحبكِ بكُلّ ما أملك من حُب في حياتي"

إبتسمت بهدوء ثُمَّ أغلقتْ الهاتف وهي تتجاهل تلك الرسالة بألم وكأنّها قد إتخذت قرارها ..

.. يتبع ..


at_171666228380792.png
 
التعديل الأخير:

إنضم
7 مايو 2019
رقم العضوية
9955
المشاركات
3,899
مستوى التفاعل
4,275
النقاط
583
أوسمتــي
3
الإقامة
كوكب بلوتو ♇
توناتي
1,715
الجنس
ذكر
LV
0
 
at_171666228204521.gif


at_172259249105671.png

24\6\2025
S a n d r a

-
- لكنَّني وَجدتُها -
[الفَصُل الثامن]


أذكرُ ذلكَ اليومَ جيّدًا..
كُنتُ طفلًا في الصفِّ الثالثِ، عندما حانَ وقتُ إعلانِ النتائجِ.
قادَتني والدتي يومَها وهيَ تمسكُ بيدي كمنْ يتشبثُ بأُمنيةٍ أخيرة، تحملُ في عينيها كلَّ ذلكَ الأملِ والأُمنياتِ التي نذرتْ عمرَها لها، كانتْ تتوقُ لِتَرى ثمرةَ تَعبِها طوالَ العامِ ..

لكنْ بعدَ عودتنا من المدرسةِ، لاذتْ بالصمتِ طوالَ الطريق، بلْ لم تَنظُرْ إليّ حتّى، استشعرتُ مرارةً دفينة تتسلّل من صمتها ..

اِعتادتْ والدتي على التَّفوّقِ منذُ صِغرِها، فحصلتْ على درجاتٍ مُرتفعةٍ في الثانويّةِ أهّلَتها لدخولِ كلّيّةِ القانونِ ..
امرأةٌ فائقةُ الذَّكاءِ، تعشقُ التنظيمَ والتميُّزَ. هذا ما جذبَ والدي إليها في المقامِ الأوّلِ، بعدَ أنْ رَفضَتْهُ ستَّ مرّاتٍ من قبلُ ..

بعدَ كلِّ تلكَ الإنجازاتِ، لمْ يكنْ من الغريبِ أنْ تسعى لِتوريثِها إلى عائلتِها ..
امرأةٌ كهذهِ ستبذلُ قُصارى جهدِها كيْ تجعلَ أطفالَها يَحذونَ حَذوَها ..
وهذا ما حدثَ فعلًا في بدايةِ مسيرتي الدراسيّةِ ..

كانتْ أمّي لطيفةً ومتساهلةً في كلِّ شيءٍ تقريبًا، إلى درجةِ المثاليّةِ - إلّا فيما يتعلّقُ بالدراسةِ ..
لطالما اختبأتُ خلفَ والدي في كلِّ مرةٍ أحصلُ فيها على علاماتٍ سيّئةٍ. كانتْ تَفقِدُ صوابَها بالكاملِ، بينما كنتُ أضحكُ!

لم أفهمْ تمامًا ما الذي أوغرَ صدرَها، لكن الآنَ .. أستطيعُ الشُّعورَ بهِ ..

في ذلكَ اليومِ، كانتْ تمسكُ يدي بقوّةٍ، تزمُّ شفتيها امتعاضاً وهيَ تَمشي بصَمتٍ مُرعبٍ ..
عيناها معلّقتان بالأفق، يغلي فيهما الغضب، لم تَرمشْ ولو مرةً واحدة ..
حاولتُ جاهدًا مُجاراةَ خطواتِها دونَ أنْ أتعثّرَ، لكنها كانتْ سريعةً، وكأنّها تَهربُ من خيبةِ الأملِ، تَهربُ مِنّي ..

لم أفهمْ سببَ استيائِها بالتحديدِ: أهيَ تلكَ الأرقامُ العشوائيّةُ التي اعتَبرَتها مُلوِّثًا لِنتيجتي؟
أمْ تَعبُها وحِرصُها الشّديدُ عليّ حتّى باتتْ وكأنّها هيَ من سيخوضُ الامتحاناتِ بدلًا منّي؟
أمْ لأنّني حَطّمتُ حُلمَها في أنْ أمشي على خُطاها؟
كنتُ أصغرَ من أنْ أستوعبَ ذلكَ، أصغرَ من أنْ أَفهمَ أيَّ شيءٍ ..

ما إنْ دخلنا من عَتبةِ البابِ، حتّى أمسكتني من قَميصي بقوّةٍ، وانفجرتْ في وجهي بالصُّراخِ والتّوبيخِ ..
لمْ أتمالكْ نفسي، بدأتْ دُموعي تَنهَمرُ دونَ إرادةٍ ..
لمْ ترفّ لها عَينٌ، وأكملتْ توبيخي وكأنّ الغضبَ تلبّسَ مُقْلَتيْها ..

عقبَ ذلكَ الضّغطِ، نطقَ لساني بانفعالٍ شديدٍ:
"أنتِ لا تُحبينني، تُريدين فقط تعويضَ تعبِكِ معي، تُريدينني نسخةً منكِ، أنتِ لا تُحبينني!"
ثُمَّ غَرقتُ بالبُكاءِ الشّديدِ بعدَ ذلكَ ..

كانتْ كلماتٍ مثيرةً للشّفقةِ، لكنها كانتْ كافيةً لِجعلِ والدتي تَهدأ فجأةً وهيَ تَنظُرُ إليّ بصدمةٍ، وكأنّها سمعتني لأوّلِ مرّةٍ ..

دخلَ والدي على إثرِ ذلكَ الصُّراخِ، مُستدرِكًا هذا الجوَّ المشحونَ، اِلتقطَ الشّهادةَ من على الأرضِ وراحَ يتأمّلُها بصمتٍ ..

لنْ أنسى تعبيرَ وجهِه، عندما أظهرَ خيبةَ الأملِ على عينيْه ..
لا أعلمْ إنْ كانتْ تلكَ الذكرى حقيقيّةً أمْ صورةً حاكَها عقلي مُتأثرًا بذلكَ الموقفِ ..
لكنّ أبي لمْ يكنْ يهتمُّ كثيرًا بالتّفوّقِ، أرادَ منّي النجاحَ فقط ..
أظنّه في تلكَ اللحظةِ قدْ تَظاهَرَ بالاهتمامِ، كي يُواسي أمي، يُظهِرَ حِرصَهُ لها، وكأنّه يُشارِكُها بخيبةِ الأملِ ..

يومَها منعتني أمي من الخروجِ واللعبِ مجددًا..
لم أفهمْ آنذاكَ الرّبطَ بينَ حرماني من الخروجِ ودرجاتي السّيئة ..
كنتُ أعتبرُها مجردَ محاولةٍ شريرةٍ من الكبارِ ليمنعونا من أن نكونَ سعداء ..
لن أستطيعَ اللعبَ معكِ مجددًا بسببِ ذلك ..

بعدَ أيّامٍ قليلةٍ من ذلك، كنتُ ألعبُ الغميضةَ مع أختي الصّغيرةِ، اِختبأتُ في خزانةِ ملابسِ والدي، لأنّها واسعةٌ ولم تَحْوِ الكثيرَ من الملابسِ، مكانٌ مثاليٌّ لهذهِ اللعبةِ ..

بعدَ دقائقَ دخلَ والدايَ الغرفةَ يتهامسانِ، لكنْ ما إن أُغلقَ البابُ حتّى ارتفعتْ نبرةُ صوتيهما، فسمعتُ كُلَّ شيءٍ ..
كانا يُناقشانِ السّفرَ المُرتقبَ من أجلِ دراسةِ أبي، وأنّ موعدَ الرّحيلِ غدًا، ويجبُ أنْ نبدأَ بالاستعدادِ فورًا ..

صُعِقتُ من الخبرِ،
شعرتُ بقلبي يَـنقَبِضُ على نفسهِ والغصّةِ في حلقي ..
صحيحٌ أنّني كنتُ على علمٍ بموضوعِ السّفرِ، لكنْ، لمْ أتوقّعْ قدومه بهذهِ السّرعةِ!

لم أتمالكْ نفسي، بدأتْ دموعي تَـنْـهَـمِرُ، لمْ أكنْ على درايةٍ بكلِّ ما سيترتّبُ على ذلك، لكنّ جُلَّ ما فكرتُ فيه هو:
"لنْ أراها مجددًا!"
كانتْ تلكَ الفكرةُ الأولى التي تخطرُ في بالي بعدَ كلمةِ "السفر" ..

لكن، ماذا عن حديقةِ منزلِنا؟ ألنْ نجتمعَ فيها بعدَ العشاءِ عندما تنقطعُ الكهرباءُ؟!
نروي فيها القصصَ والأساطيرَ المخيفةَ، يجتمعُ فيها والدايَ مع جيرانِنا وهم يتحدّثونَ بالأخبارِ وكلِّ تلكَ المواضيعِ المعقّدةِ، بينما نلعبُ نحن مع أطفالِهم ..

كانتْ ليالٍ ساحرةٍ، خصوصًا في شهرِ رمضانَ، يُصبحُ هنالكَ عددٌ لا يُحصى من الجيرانِ والأقاربِ مع أولادِهم، كانَ بيتُنا مثل مقرٍّ تجمُّعٍ لهم، بيتٌ آمنٌ يأويهم ..
لا يمكنكَ منعَ طفلٍ صغيرٍ من التعلّقِ بكلِّ تلكَ التفاصيلِ التي لا يراها أحدٌ سواه، من التخلّي عن عالمِه ..

رغمَ الحزنِ، لكنّني لا أُنكرُ شعوري ببعضِ الحماسِ تجاهَ الفكرةِ، أنْ نسافرَ بالطائرةِ التي كنّا نراها فقط في الأفلامِ، نذهبَ لمكانٍ بعيدٍ عن موطنِنا ..
كانتْ فكرةً رغمَ ألمِها، إلّا أنّها مغريةٌ، لكنَّ ذلكَ الحزنَ الطفيفَ يُجْبِرُكَ أنْ تُعيدَ التفكيرَ بما ستتركُ خلفكَ ..

كلُّ زاويةٍ في هذا البيتِ تحملُ شيئًا منّي، ذكرى راسخةً في جدرانِ عقلي ..
الصّالة، المكانُ الذي اِعتدنا التجمّعَ فيه ..
المطبخ، حيثُ كنتُ أراقبُ أمي وهي تُعدُّ الطعامَ لأسألَها كلَّ خمسِ دقائقَ: "متى سيجهزُ الغداء؟"

ماذا عن غُرفتي؟ عالمي الخاصّ، الجدارُ الذي كتبتُ عليهِ أُمنياتي، سريري الذي كان يُخبّئُ بينَ وسادتَيهِ أجملَ القصصِ التي أتخيّلُها قبلَ النومِ ..

لمْ أكنْ حزينًا على المكانِ، بلْ على الذكرياتِ التي فيهِ ..
هل سنتركُها... هكذا، وراءنا؟!

ثُمَّ انبثقتْ تلكَ الفكرةُ التي مسحتْ آخرَ ما تبقى من الابتسامةِ على شفَتَيَّ حتّى تحوّلتْ إلى حزنٍ وإنكارٍ:
"ماذا عنها؟ ألنْ أراها ثانيةً؟ ماذا عن ذكرياتِنا، أحلامِنا.."
جَثَمَ الحزنُ على صدري كغُرابٍ أسودَ نسيَ كيفَ يطيرُ ..

خرجتُ من الخزانةِ بسرعة، وارتميتُ في حِضنِ أمي ..
فوجئا بظهوري، لكنها سرعانَ ما احتضنتني وربّتت على رأسي بحنانٍ ..
شعرتُ بحزنِها أيضًا، لكنها لم تنطقْ بشيءٍ، وكذلكَ والدي، كانَ صمتًا مؤلمًا ..

اِنتشرَ الخبرُ في أنحاءِ الحيِّ كما تنتشرُ النارُ في الهشيمِ، عندما شاهدوا تلكَ السيارةَ الضّخمةَ التي تَقِفُ أمامَ بيتِنا، تَحملُ أثاثَنا وأشيائَنا العزيزةَ ..

اِجتمعَ أهلُ الحيِّ حولنا، يُودّعونَنا بقلوبٍ مُثقلةٍ بالحزنِ ..
اِحتضنَ "أبو فادي" والدي وهو يُوصيهِ بالحذرِ وأنْ نعودَ بعدَ أنْ يُكمِلَ دراستَه، وجاءَ صاحبُ البقالةِ يُعطينا بعضَ الأغراضِ كهديةِ وداعٍ ..
في حينِ كانتْ والدتي تُودّعُ النسوةَ اللواتي اِجتمعنَ حولها ..
كانتْ لحظةً مؤثّرةً، مُباغِتةً، لم نستعِدْ لها يومًا ..

ثُمَّ وقعتْ عيناَيَ عليكِ، تقفينَ بينَ الحضورِ مُمَسكةً بيدِ والدِكِ، تَنظرينَ إليَّ بصمتٍ غريبٍ، لا أعلمُ إنْ كانَ حزنًا أم دهشةً، أم شيئًا آخر لا يُفسَّرُ ..
لكنّني اقتربتُ منكِ بابتسامةٍ واسعةٍ، مُصطنعةٍ على الأغلبِ، لأقولَ بنبرتي الحيويّةِ المعتادةِ:

"هيه رنا، ما رأيكِ .. أن نُودّعَ السيّدَ لامع؟"

***

في كُلِّ مرَّةٍ نَنطِقُ فيها هذا الاسمِ، يَسأَلُنا الكِبارُ بدهشةٍ: "مَن هذا السيِّد؟" لكنَّنا نَرفُضُ الحديثَ، ليس لأنَّهُ سِرُّنا الخاصُّ وحسب،
بل لأنَّنا كنَّا نَخشى مِنِ استخفافِهم بنا إن أخبرناهم بحَقيقتهِ.

فَكَيـفَ لهُم أن يُصَدِّقوا بأنَّ "السَّيِّدَ لامِع" هو في الحقيقةِ نَجمةٌ سِحريةٌ تُشارِكُنا مشاعِرَنا؟
لم تَكنْ تَظهَرُ إلَّا عندما نَذهَبُ إلى مَكانِنا السِّرِّي، على ضِفَّةِ النَّهْر، وكأنَّها لا تَنتمي للسَّماء، بل لَنا وَحدَنا، تُنيرُ مُخَيِّلَتَنا، رغم أنَّها كانت حقيقيَّةً أكثَرَ مِن أيِّ شيءٍ آخر.

أعلَمُ الآنَ بأنَّ ذلكَ مُستحيلُ الحُدوث، فالنُّجومُ تَبقى نَفسَها مَهْما اختلَفَ المكانُ الذي تُشاهِدُها مِنه.
لكن، تلك النَّجمةُ تحديدًا، كان فيها شيءٌ سِحريٌّ، وكأنَّها مُرتَبِطةٌ بروحِنا.
عِندما نَحزَنُ بسببِ توبيخِ والدَينا، يَخفِتُ ضِياؤُها ويَذبُل.
وعِندما نَفرَحُ ببِدايةِ العُطلةِ الصَّيفيَّة، نَرى لهيبَها وقد ازدادَ توهُّجًا ولمعانًا، حتَّى أطلقنا عليها تلك التَّسمية.

ما عادَتْ تَظهَرُ لي اليوم، حتَّى وإنْ عُدتُ للضِّفَّةِ ذاتِها، وكأنَّها أدركَتْ كِبَرَنا، ولم نَعدْ نَستحقُّ خَيالَها، وكأنَّها تَلاشَتْ مع طُفولتِنا...
لكن، أستطيعُ تذكُّرَ تلكَ الأُغنيةِ التي كُنَّا نُرَدِّدُها عندَ ذَهابِنا لِرُؤيَتِها، أعتقدُ أنَّها كانت:

"نَجمتي يا نَجمتي .. لا تَرحَلي
أَخبِري السَّماءَ عن ... عن..."

عن ماذا؟
بِصراحة، لقد نَسيتُ الأُغنية... لكن أستطيعُ تذكُّرَ سَعادَتِنا بِغِنائِها لنُحفِّزَ "السَّيِّدَ لامِع" على الظُّهور.

***

أومأتِ برأسكِ مُوافقةً، تَسَلَّلْنا من بين الحُشودِ ونحن نلتقطُ كلماتِ الوداعِ المُتناثرةِ كقَطَراتِ مَطرٍ حزينٍ ..

رَكِبْنا دَرّاجَتَيْنا وانطلَقْنا إلى مكانِنا السِّرّيِّ، كما اعتَدْنا، غيرَ مُدْرِكَيْنَ أنها ستكونُ المَرّةَ الأخيرةَ ..

وَصَلْتِ قَبلي لأوّلِ مرّةٍ في حياتِكِ، قَفَزْتِ من دَرّاجتِكِ لِتَحْتَفِلي بهذا الانتصارِ كمن فازَ بحَرْبٍ طُفوليّةٍ عظيمةٍ ..
بينما نَزَلْتُ أنا من الدّرّاجةِ مُتَصَنِّعًا الانزعاجَ كي لا أُعكِرَ فرحتَكِ ..

لم يَكُنْ "السّيّدُ لامِع" قد ظَهَرَ بعدُ، لكنَّ الغروبُ بدأَ يَمدُّ خِيوطه الأخيرة على الأفق، فَقَرَّرْنا انتِظارَهُ ..

رغمَ أنّنا في فصلِ الصّيفِ، كان المكانُ يَعْبَقُ ببُرودةٍ خفيفةٍ تتزايدُ كلّما زالتِ الشّمسُ واظْلَمَّ المكانُ ..

تَأمَّلْتُ ضِفّةَ النهرِ لأُشاهدَ انعكاسَ الشّمسِ على سطحِهِ في الغروبِ للمرّةِ الأخيرةِ، الأشجارُ المغروسة في ضِفافِهِ، أوراقُها التي تُلامسُ سطحَهُ، الأسماكُ الصّغيرةُ التي تتقافَزُ على سطحِهِ مِرارًا ..

***

في تلكَ اللّحظةِ، تَذَكَّرْتُ صديقَنا الآخَرَ.. ذلكَ الكائِنَ الغامضَ، الذي لا يَظْهَرُ إلّا نادِرًا ..

حينَ تكونُ السّماءُ صافيةً ليلًا،
تتناثرُ نُجومُها كذَرّاتٍ من اللُّؤلؤِ على وجهِ النّهرِ،
يَشْتدُّ الظّلامُ لِتَبدأَ تلكَ اللّآلئُ بالتَّوَهُّجِ أكثرَ حتى تُضيءَ بُقعةً مُحَدَّدةً وسطَ النهرِ ..
فتأخذ مياهُها بالتصاعُدِ مع الرّيحِ حتى تتشكَّلَ على هيئةِ امرأةٍ مائيّةٍ ذاتِ جمالٍ فاتنٍ، وشَعرٍ أزرقَ طويلٍ ..

كنّا نُسَمّيها "أميرةَ القمرِ" لأنّها لم تَكُنْ تَظْهَرُ إلّا عندما يكونُ القمرُ بدرًا ..

في كلِّ مرّةٍ تَظْهَرُ لنا، كُنّا نُحَدِّثُها عن يومِنا، عن مشاكلِنا الصّغيرةِ، كانتْ تُنصِتُ باهتمامٍ..

رغم أنّها لم تَنْطِقْ بكلمةٍ يومًا... لكنْ، كنّا نَفْهَمُها ..
عَلِمْنا أنّ اسمَها هو "نِرِيسّا"..
حتى أنّها كانت تُغنّي لنا دون أن تُصْدِرَ صوتًا فعليًّا، لم نَكُنْ نَسْمَعُ غناءَها، لكنّنا كنّا نَشْعُرُ به ..

اعْتادَتْ أنْ تُحَدِّثَنا عن عالمِها السّحريِّ، فنَطْلُبُ منها أن تَأْخُذَنا إلى هناك، لكنّها تَبْتَسِمُ وتُومِئُ بالرّفضِ، ثُمَّ نَنْسى الموضوعَ سريعًا لِنَنْغَمِسَ بالحديثِ معها عن حياتِنا ..

لكنْ، كان هناكَ شيءٌ غريبٌ في آخِرِ مرّةٍ رأيْناها فيها ..
كانت، وكأنّها تَحْمِلُ سرًّا، تُريدُ قولَ شيءٍ، لكنّها تَعْجَزُ عن إخبارِنا ..
كان ذلكَ الشيءَ الوحيدَ الذي لم نَسْتَطِعْ الشُّعورَ به ..
اخْتَفَتْ تمامًا بعدَ ذلكَ اليومِ، لم تَظْهَرْ مرّةً أُخْرَى ..
أَمَلْتُ أن تَظْهَرَ اليومَ لأُوَدِّعَها ..

هل كانتْ من نَسْجِ خَيالِنا، أمْ من عالمٍ آخَرَ فعلًا؟
لا يَهمُّ... كنّا نَراها، أنا وأنتِ، بنفسِ الملامحِ، وبنفسِ التّفاصيلِ، لا أعلَمُ إنْ كان ذلكَ صُدْفَةً ذهنيّةً، لكنّني لا أُريدُ إفسادَ تلكَ الذّكرى، سأترُكُها كما هي ..

***

التقطتِ حِصاةً من الأرضِ ورميتها في الماءِ، فبدأنا ذلكَ السِّباقَ (مَن يَرمي الحصاةَ أبعدَ)، وكالعادةِ، كنتُ أنا ..

شعرتُ بيَأسِكِ، لكنَّ مشاعري الطفوليةَ تجاهلت ذلكَ واعتبرته انتقامًا سريًّا لفوزِكِ عليّ بسباقِ الدراجاتِ ..

-سنسافرُ غدًا صباحًا "قلتُ مقاطعًا الهدوءَ" هل ستودّعيننا؟

أخفضتْ رأسَها وهي تجيبُ بصوتٍ خافتٍ:
-ألا يمكنكم البقاءُ؟ سأشعرُ بالوحدةِ إن لم تلعبْ معي ..

-وأنا كذلكَ، لكنَّ أبي قالَ إنَّه يجب أن نذهبَ، لم يتغيّر رأيه حتى بعد أن ترجيتهُ باكيًا ..

-إذاً "قالت وكأنها وجدت الحلَّ أخيرًا" أريدُ السفرَ معكم!

-لكن، لا يمكنكِ ذلكَ، ماذا عن والديكِ؟

-لا بأسَ، سيوافقونَ، فقط خذوني معكم، أعدكم بأنّي لن أزعجكم! ..

-لكن، رنا...

نظرتْ إليَّ بتلكَ الجديّة الطفولية لفتاةٍ تؤمنُ بالحكاياتِ وهي تقول:
-أنسيتَ؟ أنتَ هو الفارسُ... والفرسانُ لا يتركون الأميراتِ وحدهن!

ضحكتُ بخفّةٍ، تذكّرتُ كلّ مرةٍ كنا نركضُ فيها هاربينَ من ذلكَ الكلبِ الأسودِ ذي الرقعةِ البيضاءِ، وكنتُ أنا "الفارسُ" الذي يُنقذكِ منه ..

في الحقيقةِ، لم أكن أُخلصها منه، بل أمسكُ يدها وأركضُ خائفًا أكثرَ منها، لكنَّ ربما هي في النهايةِ، اعتبرت ذلك إنقاذًا..

أجبتُ بتفاؤلٍ:
-رنا، لن أرحلَ إلى الأبدِ، سأسافر كي أعيش مغامراتٍ رائعةً، وعندما أعودُ... سأحدثكِ عنها ..

صمتْ قليلاً وأخذتْ تفكر في كلامي، تمتمت وهي تسأل:
-لكن، متى ستعودون؟

لا أعلم... لكنّني أعدكِ بأنّي سأعود ..

رأيتُ الحزنَ وقد تسلّل إلى وجهِكِ البريءِ بتلك النظراتِ الخافتةِ الموجّهةِ إلى النهرِ ..

بصراحةٍ، كان الحماس الطفولي قد غمر قلبي وقتها، أردتُ السفر بشدّةٍ أكثر من بقائي هنا، أردتُ ركوبَ الطائرةِ، وأن يصبح لي أصدقاءٌ يتحدّثونَ بلغةٍ غريبةٍ، أصدقاءٌ جددٌ غيركِ ..

لم أجرؤ على أن أفصحَ لكِ بتلك الرغبةِ الخفيّةِ، لم أرد أن تكرهينني، بل أن يكون ما حدث عبارةً عن قدرٍ مفروضٍ على كلينا، أن أكون بنظركِ "لستُ سعيدًا بالسفرِ" ..
ففي النهايةِ، لن نذهبَ إلى الأبدِ، هذا ما أخبراني به والداي ..

سنعودُ، وسأقصُّ عليكِ وعلى نريسّأ كلّ ما حدث هناك، وسيزدادُ ضياء السيدِ لامعًا، وسنكون كلّنا سعداء!..

كان حزنكِ يزعجني نوعًا ما، لأنّه يقف عائقًا في وجه هذا المستقبل الرائع، حتى إنني رفضتُ فكرة قدومكِ معنا، ليس لأنَّ والداكِ لن يقبلا، بل لأنّه لن يكون من الممتع أن تشاركي معي تلك المغامرات، أفضل لو قصصتها عليكِ بنفسي ..

كنتِ تقفين بوجه تلك الفكرة وتحاولين منعها ..
لم أعرف كيف أتصرفُ، فبقيتُ صامتًا أَدّعي الحزنَ ..

وَقَعَتْ عَيْني على تلكَ الوَرْدةِ الحمراء، الوَرْدةِ التي وجدناها ذابلةً أولَ مرة، ثُمَّ تَعاهَدْنا على الاعتناءِ بها سويّةً، نَسقيها من مياهِ النهرِ بأيدينا، لتتفتّح وتُزهِرَ حتى اقترنَ عددُ أوراقِها بعددِ أحلامِنا يومًا..
فأصبحتِ الوَرْدةُ الأجملَ في ذلكَ المكان، ذاتُ ضياءٍ أحمَرَ مُمَيّز.

رَكَضتُ نحوها كي أقطِفَها وأَضَعَها على شَعْرِكِ، كما رأيتُ والدي يفعَلُ مع أُمّي..
اختفى الحُزنُ من على وجهِكِ بسرعة، وأنتِ تتأمّلينَها بسعادة.

حلَّ الظلام، وضِياءُ النُّجومِ بدأ يتلألأ، كان "السيدُ لامع" يتوسّطُ المشهدَ، بجانبِ صديقهِ القمر.
لكنه، بدا خافتًا، لم أستغرب ذلك وقتَها، فهو مُرتبطٌ بقلوبِنا في النهاية.

اختفَتِ الشمسُ تمامًا، وبدأ ضياءُ القمرِ والنُّجومِ بالانتشارِ منيرًا المكان، وناثرًا لمعانًا سحريًّا على سطحِ النهر.
ننتظرُ "أميرةَ القمر"، لكنها لم تأتِ هذه المرة أيضًا..

التفَتُّ إليكِ وهممتُ أن أسأل: "أين هي؟..."، فأسكَتَني منظرُ تلكَ العيونِ التي انغمَرَتْ بدموعِها، تُحاولينَ إخفاءَهما بيديْكِ الصغيرتين، حانيةً رأسَكِ،
لم أعرِفْ ماذا أقول..

بعد لحظاتٍ من الصمت، تمتمتُ قائلًا بحزن:
- هيا... حان وقتُ العودة.

وعندما أدرْتُ ظهري مُتوجِّهًا إلى الدراجة، شعرتُ بذراعيكِ تُطوِّقانِ صدري من الخلف، طلبتِ أن أبقى لِخمسِ ثوانٍ فقط..

امتثلتُ لطلبِكِ، وبدأتِ العَدَّ بصوتِكِ الطفوليِّ المرتجف، حتى توقّفتِ عند الثانيةِ الرابعة، وكأنّ الثانيةَ الأخيرة ستكونُ إعلانًا رسميًّا على فِراقِنا، فبمجرّدِ نُطقِها، سينتهي كلُّ شيء..

طلبتِ منّي لآخرِ مرةٍ أن لا أرحل ..
ما الذي عليَّ فِعلُه الآن؟ ليس بيدي شيء ..
اكتفيتُ بالصمت ..
نظرتُ الى السماءِ فرأيتُ ضياء السيد لامع يخفت بهدوء، حتى تلاشى ..

شعرتُ بضَمّتِكِ تضعُف شيئًا فشيئًا، حتى انحلَّ العناق.
استدرتُ بسرعةٍ لأُدرِكَ اختفاءَكِ.. اختفيتِ كما لو كنتِ حلمًا صَنَعَ طفولتِي..

لم تتركي شيئًا خلفكِ، سوى هذه الزهرةِ التي وضعتُها على شَعْرِكِ، كانتْ ملقاةً على الأرض، ذابلةً، مُمزَّقة..

التقطتُها، وعينايَ تبحثانِ عنكِ في كلِّ الاتجاهات، درّاجتُكِ لا زالتْ في مكانها، علمتُ بأنكِ لم تبتعدي كثيرًا..

بدأتُ أركض، مُنادِيًا باسمكِ، لكن، لم ألقَ جوابًا..

توغّلتُ في الغابةِ حتى أصبحتِ الرؤيةُ صعبة، لم يعُد ضوءُ القمرِ يصلُ بالكامل، كان الظلامُ كثيفًا، ورائحةُ النهرِ بدأتْ بالتلاشي شيئًا فشيئًا..

تسلّلَ الخوفُ إلى قلبي، حتى بدأت نبضاتُه تتسارع، أكملتُ الجري وأنا أصرُخُ باسمكِ بكلِّ ما أملكُ من خوف..

أصبحَ المكانُ هادئًا ومُخيفًا، كسَرَ نعيقُ البومِ حاجزَ هذا الصمت، تحوّلَ الجريُ من بحثٍ يائسٍ إلى خوفٍ وهروبٍ من هذه الغابة، حتى أدركتُ أنّني تهتُ فيها..

كان المكانُ مكتظًّا بالأشجارِ كثيفةِ الأوراق، شعرتُ بجذوعِها تزدادُ حجمًا وهيبة، لتُصبحَ الرؤيةُ معتمةً تمامًا..

سمعتُ أصواتَ صراخٍ بعيدة: "رنا... هل هذه أنتِ؟"

توجّهتُ نحو مصدرِ الصوتِ كمن وجدَ النورَ في نهايةِ نفقٍ مظلم، كان الصوتُ يزدادُ وضوحًا في كلِّ خطوةٍ أخطوها نحوه، كان غريبًا، لم يكن ليصدرَ منكِ ..
سرعان ما أدركتُ بأنه لم يكن صوتكِ، بل لم تكوني أنتِ..

تسمرتُ في مكاني لِأُُلاحق أنفاسي، والرُّعبُ يسيطرُ عليّ، اختبأتُ خلف الشجرةِ هربًا من شيءٍ لم أعلمْ ما هو، كانت أصواتُ الصراخِ مجنونة، وكأنّها لشخصٍ يتعذّبُ أو غاضب، لم تكن صرخاتُ إنسان..

بدأتْ تصبحُ أعلى فأعلى، حتى أدركتُ أنّها مُتجهةٌ نحوي..
تجمّدتُ في مكاني، لم أقوَ على الحِراك، شعرتُ بدمائي تسخن، وقلبي يلهثُ بسرعة..

بدأت الأصواتُ تزدادُ قوّةً، حتى أدركتُ أنّها أصبحت خلفي تمامًا، خلف الشجرة..
لم أجرؤ على الالتفات، فانطلقتُ بأقصى ما أملكُ من قوةٍ وخوف..

ركضتُ حتى خفَت صوتُ الصراخِ المجنون هذا ..
توقّفتُ لألتقطَ أنفاسي وأنا أركَع، التّعبُ قد تمكّنَ مني، والعرقُ ينزلُ على عينيّ حتى أصبحتِ الرؤيةُ مُشوَّشة..

لكن، لم يَطُلِ الأمرُ حتى يعودَ الصوتُ من جديد، وكأنّه يُلاحقني، كان هذه المرّةَ يصرخُ بنبرةٍ واضحة، وكأنّه يلفظُ اسمي بصوتٍ مألوف... وكأنّه صوتُ رنا!

أستجمعتُ شجاعتي لأنظرَ نحوَ مصدرِ الصوت، وسطَ الأشجارِ الكثيفة، رأيتُ جسمًا أسودَ غامضَ الملامح، ما إن لمحني حتى ركضَ نحوي بجنون..

كان ذلك المنظرُ كفيلاً بتجميدِ أطرافي، جمعتُ شتاتَ قوتي وأنا أُحاولُ الهرب، حتى تمكّنتُ من الحصولِ على بعضِ الخطواتِ المتثاقلة، لكنها لم تكن كافيةً لتُجاري سرعةَ ذلك الشيء، حتى شعرتُ به خلفي مباشرة..

وقبل أن ألتفتَ لأتقبّلَ مصيري، سقطتُ من الفراشِ ليرتطمَ رأسي بالأرضِ بقوة!..

رفعتُ رأسي بسرعة، كأثرٍ لانفعالي الذي لا زال مستمرًّا: "لحظة، أكان ذلك... حُلُمًا؟"
استجمعتُ قوايَ مُحاولًا النهوض، وذهني لا يزالُ عالقًا بما حدثَ للتو..
"كيف نسيتُ ذلك اليوم؟" تمتمتُ لنفسي وأنا أمسحُ النعاسَ عن عينيّ..

هذه الذكرى لم تُفارقني إطلاقًا، كانت أمامي طوالَ الوقت، لكن عقلي اختار أنْ يضعَها في الظل، أنْ يتجاهلَها خوفًا من الألم..

"كان مؤلمًا، تَرْكي لكِ وحيدةً في ذلك اليوم، أليس كذلك؟"

أتذكّرُ بأنها كانت المرّةَ الأخيرة التي رأيتُكِ فيها بشكلكِ الطفوليّ اللطيف، سافرنا بعدها مباشرة، ولم تلتقِ عيناي بكِ مجددًا..
"لم أكن فارسًا حقيقيًا في النهاية... أعتذرُ لأنني خذلتُكِ"

أتمنّى لو كان بإمكاني رؤيتكِ الآن... لأعتذرتُ عن كلِّ لحظةٍ فرّقتنا، كلِّ وعدٍ لم أَفِ به، كلِّ مسافةٍ باعدتْ بيننا...

التقطتُ هاتفي عن الطاولة، راجيًا إيجادَ رسالةٍ منكِ تُعيدُ الربيعَ إلى أيّامي..
فاستقبلني الخريفُ بأوراقه الذابلة، معلنًا خيبةَ أمل، عندما رأيتُ آخرَ محادثةٍ بيننا... لا تزالُ كما هي ..
غمرني يأسٌ شديد، كمن يبحثُ عن إبرةٍ في العتمة..

فتحتُ رسائلَ سارة التي تلقيتها البارحة، لم أكن أرغبُ بإجابتِها، فقرّرتُ تأجيلَ ذلك لليوم، تمنّيتُ لو كانت تلك الرسائلُ منكِ... لا من سارة..

لكن، وكما العادة، الشخصُ الوحيدُ الذي نُحبّه بصدق، لا يحضرُ حين نريده، بل يبقى وكأنّهُ حُلمٌ بعيد..

وربّما، هذا ما يجعلهم مميزين!
فلو كانوا متاحينَ متى ما احتجناهم، لما شعرنا بقيمتِهم عند غيابهم...
"أليس هذا هو الحُب؟"

كانت سارة تسألُ عن سببِ غيابي المتكرّر، فكونُها ممثّلةَ دفعتِنا، كان ذلك من مسؤولياتها..

لم أستطع إخبارها بالحقيقة، فتحجّجتُ بالمرض كالعادَة..

لم أجدْ حُجّةً أُخرى تُبعدُ شكوكها، فبرغمِ لطافتِها، إلا أنّها كانت حادّةَ الذكاء، تتمتّعُ بشخصيّةٍ هادئةٍ وصارمة..

كنتُ أعلمُ أنها لن تُصدّقَ حجّتي، لكن... ليس بيدِها شيءٌ لتفعله، فأنا لا أَهتمُّ بغيابي حقًا، بل لم أعد أرغبُ في الدراسة..

أغلقتُ الهاتفَ وأنا أتثاءبُ وأمدُّ جسدي، أستعدُّ لِما ينتظرني اليوم، فهناك الكثيرُ يجبُ عليّ فعلُه، حتى إنني لم أذهبْ اليومَ إلى الجامعة..

نزلتُ إلى المطبخ، فإذا بنَغم ينتظرني، وبمجرّد أن لمحني، انطلقَ بالصراخِ وهو يقفزُ بحماس، لا بدّ أنّه جائعٌ للغاية:

"حسنًا، حسنًا، اهدأ... هاك، هذا هو طعامك."

لم أُرِد أنْ يوقظَ أهلي، فنحن دائمًا ما نستيقظُ قبلهم..

سكتَ عن الصراخِ أخيرًا، وقفزَ بكلّ طاقته إلى طَبقِه الورديِّ المُفضّل..

حاولتُ قليَ بعضِ البيضِ لي، لكنّ تلك الأفكارَ لم تُفارِقني...
وجهُكِ الطفوليُّ المتّقدُ نورًا، ثمّ تلك الدموعُ على خدّكِ... مُحاولتُكِ البريئةُ لمنعي من الرحيل... السيّد لامع... أميرةُ القمر... جيرانُنا... كلُّ ذكرياتِنا...

تمنّيتُ للحظةٍ أن أعودَ لذلك الحلم، وأعيشَ فيه إلى الأبد، بين دفءِ تلك الأيّام..

نسيتُ تمامًا ما الذي حدثَ في نهايةِ الحلم... "لِمَ كنتُ خائفًا؟"
لم يحضُرْ في ذهني سوى تلك الأيّامِ الدافئة...

بدأتْ هذه الذكرياتُ تعودُ وتتدفّق، واحدةً تلو الأخرى، وكأنّني اليومَ فتحتُ بابًا كان موصدًا بمفتاحٍ ضائع...

"أين كانتْ كلُّ تلك الذكرياتِ منّي؟ كيف نسيتُ كلَّ ذلك؟"

ثمّ عادتْ صورتُكِ إلى ذهني، عندما بدأتْ دموعُكِ بالانهمار...

أطفأتُ الموقدَ بحزمٍ، مُلبّيًا ذلك النداءَ الداخلي ..
ركضتُ إلى غرفتي لأبدّلَ ملابسي بسرعة ..
خرجتُ مسرعًا من المنزل، عازمًا على إنجازِ مهمّتي ..
المهمّةِ التي بعدها سنلتقي، عندما أجدُ الدليلَ الذي يُدينُ زيد، وأخلّصكِ منه...
لن يبقى هُنالكَ عائقٌ بيننا بعد ذلك...

لن أهربَ من تلك الذكرى بعد الآن، بل سأُحاربُ من أجلكِ...


فقط ... انتظريني ..




ملاحظة / إسم الرواية راح يتغير من "لوحة عبر محطة الماضي" الى "لَكنَّني وَجدتُها" ♡
at_171666228380792.png
 
التعديل الأخير:

إنضم
7 مايو 2019
رقم العضوية
9955
المشاركات
3,899
مستوى التفاعل
4,275
النقاط
583
أوسمتــي
3
الإقامة
كوكب بلوتو ♇
توناتي
1,715
الجنس
ذكر
LV
0
 
at_171666228204521.gif



at_172259249105671.png

6/7/2025
S a n d r a

-
-لكنَّني وَجدتُها-
[الفصل التاسع]


"الأحد - الثالث عشر من ديسمبر - 10:00 صباحًا"


كان الهواءُ ثقيلاً، والشارعُ قاتماً، رغم أن السماء لم تكن مُلبَّدةً بالغيوم، لكن ذلك ما رآه أحمدُ..
يمشي على الرصيف، حانيًا رأسه المُثقلَ بالأفكار؛ لكن هذه المرّة، لم يكن يُفكّرُ بها، بل: كيف يستعيدها؟
فحتى الشرطةُ لم تَصلْ إلى شيء... فكيف له، بقدراته المحدودة وعقليّته البسيطة، أن يُثبتَ براءته ويُورِّطَ زيدًا؟

"رُبّما أخذني الحماسُ حتى غفلتُ عن الواقع..."

وضع يده في جيبَيْه، يتأمّل الأرض بخُطًى متثاقلة، غيرِ متزنة، أقربَ إلى اللاوعي منه إلى التفكير.
لفحتِ الرياحُ القارسةُ وجهَه، حتى أدمعتْ عيناه، و‌احمرّ وجهُه ..
رغم لسعة البرد، كان يجد في ذلك الإحساس متعةً خفية، يُفضّلها على لهيب الصيف الذي يخنقُ روحه.

استفاق فجأةً مستدرِكًا ما حوله: "إنّها الحديقةُ العامة!".

تساءل عن سبب خلوّها من الناس، لكنه شعر براحةٍ كونها مهجورةً الآن.
نسيَ أنه خرج في ساعةٍ لا يُسمَع فيها بكاءُ الأطفال، ولا تُفكِّر الأمهاتُ بعدُ في حمل حقائب اللعب لإسكاتهم.

توجّه نحو أحد الكراسي الخشبيّة، وألقى بثقلِ جسده عليه.
اهتزّ الكرسي بصريرِ حديده الصدئ، كأنه ينوءُ بثقلِ الأفكارِ التي أُلقِيَت فوقه.

شرد ببصره نحو أفقٍ خالٍ، كأن السماءَ صارت مرآةً باهتة لانعكاسات أفكاره المتكرّرة دون نهاية.

اجتاحه شعورٌ بالشفقة على ذاته، وتساؤلٌ يتيمٌ تمتم داخله:
"لِمَ انقلبَت حياتي منذ ذلك اليوم؟.."
سأل نفسَه، كأنّه يحاولُ اقتناصَ جوابٍ يتوارى خلف ضباب أفكاره المنهَكة.

رغم مرارة الفكرة، لكنه لم يُجهد عقلَه في محاولةِ إنكارها كعادته، بل تركها تتسلّلُ لتأخذ مكانها في محيط أفكاره:
فحياتُه كانت طبيعية... قبل أن تعودَ "رنا" إليها.

ماذا لو لم ألتقِ بكِ؟ هل كنتُ سأعاني مثل الآن؟ أم كانت لتستمرّ حياتي دون أن ألحظَ غيابكِ حتى؟..
ماذا لو لم أَمُرّ من ذلك الشارع يومَها؟
لو تأخّرتُ في الامتحانِ لدقيقةٍ إضافية، هل كان "آدم" ليبقى حيًّا؟ هل كنتُ سأتذكّركِ وأحتاجُكِ مثل الآن؟

عندها، وكأنّ تلك الأسئلةَ اتخذت شكلًا ماديًّا، بدأت أفكارُه تطفو خارجَ رأسه، ككُتَلٌ سوداءُ تنفصل عن وعيه وتَحومُ حوله بعشوائية..
تدور، وفي كلّ لفةٍ، تتّحد، ثم تتشابكُ مع بعضها وتتكثّف، حتى تشكّلت على هيئةٍ بشريّةٍ قاتمة، بلا ملامح، بلا فم، بلا عينين.
هيئةٌ سوداء، بلا تفاصيل، ووجهٌ ممسوح، يطفو أمامه، يُحدّقُ به بصمتٍ ثقيل، كأنه يقول:
"لن أُفارِقَك."

لم يندهشْ من رؤيتِه، فقد كان يشعر به دومًا، جاثمًا على ظهره بثقلٍ يَحبسُ أنفاسه،
يَهمِسُ في أذنِه بتلك الكلمات القاتلة، بصوتٍ لا يسمعه سواه، كأنّه يُهمِسُ لروحه.

لا أعلم حقيقةَ ذلك الشعور، لكنّ الإرهاقَ يسري في أعماقي، كما لو أنّ هذا الكيانَ الأسودَ امتصّ مني روحي حتى خارتْ قواي.
فالتفكيرُ المُفرِط، والمحاولةُ المتكرّرة دون جدوى، تُرهقُ إرادتي، وتفوقُ طاقتي.

أرفضُ الاعترافَ بتلك الحقيقة، لكنني أفتقدُ حياتي السابقة..
حين كنتُ أخشى الرسوبَ أكثرَ من خشيتي من فقدانكِ.

حين كنتُ أشعرُ بسعادةٍ من أنّ والدتي لن تطهو الغداءَ اليوم، لأنّها ستخرج للتسوّق مع خالتي وأختي الكبرى،
فأغتنم الفرصة لطلبِ وجبتي المفضّلة من المطعمِ ذاته كلّ مرة؛
ليس لأنني لا أحبّ طعام والدتي — فطبخُها شهيٌّ جدًا — لكن... لأنّ غيابَها المؤقّت كان يمنحني مساحةً صغيرةً من الحريّة،
تلك اللحظة التي أستطيع فيها أن أقرّر ما سأتناوله، وكيف، ومتى، دون أن أشعرَ بثقلِ الروتين العائليّ المعتاد وزحمةِ المنزل،
وكأنّ ذلك اليوم يُكتَب لي وحدي.

كان ذلك كافيًا لأُحافظَ على مزاجٍ صافٍ وأنا أُمارس نشاطاتي الجانبيّة، دون غزوٍ مباغت من فكرةٍ مظلمة.

حين كنتُ أعدُّ كوبًا من القهوة — قليلٍ من السكر مع الحليب — على طريقتي الخاصّة، وأرتشفُها ببطء، أتَلذّذُ بمذاقِها العميق،
أدخلُ في حالةِ سكون، بلا جَلبةٍ داخليّة، دون أن أشاركَ بتلك الحرب التي تندلعُ في رأسي؛ فالهدوءُ كان هوايتي المفضّلة.

كنتُ مستعدًّا لأدفعَ كلّ ما أملك فقط لأُحافظ على تلك اللحظات، فقد كنتُ أؤمن — وما زلتُ — أنّ الحياةَ تُطرَّز بخيوط تلك اللحظات العابرة،
لا بجدران البيوت الضخمة، ولا بنوع السيارة او ماركة الملابس ..

"ما الجدوى من الثراءِ إن لم تستطع أن تقرأَ كتابكَ المفضّل وأنتَ تستمتعُ بتأمّلِ مشهدِ الغروبِ على سطحِ منزلك، دون أن تُلوِّثَ فكرةٌ تلك اللحظة؟"

حقًّا، أشفِقُ على أولئك الناس...

"لا، لحظة... أنا منهم أيضًا..."

الآن، ما عُدتُ أستطعِمُ تلك التفاصيل، بل بدأتُ أُشكّكُ بتلك القناعة.
حياتي الآن لم تعُد تُبنى من أشياء بسيطة... بل منكِ أنتِ فقط.
أيّامي تُصاغُ من وجودكِ، لا من قهوتي، لا من السكون، ولا من أُغنيتي المُفضّلة...

شتّتَ تفكيرَهُ مرورُ رجلٍ في الأربعين من عمره، ممسكًا يدَ زوجته، يتأمّلُ عينيها باهتمام،
وهي تُحدّثه عن أمرٍ ما، يرمقُها بابتسامته الواسعة، وكأنّها كلّ ما يملك.

كانا يتحدثانِ همسًا، يمشيانِ بخُطًى وئيدة.
كان الحبُّ يُمطِرُ من عيونهما، حتى شعرَ أحمدُ أنهما تزوّجا للتو.
مَضَيَا، حتى غابا عن ناظِرِه...

تذكَّر ما كانت تُردّده والدتُه في كلّ مرّةٍ تَقصُّ عليهم قصةَ اختيارها لوالدهم:

"لو عُرِضَت الأقدارُ للإنسان، لاختار القدرَ الذي اختاره اللهُ له."

لم يكن يعرف مصدرَ هذه العبارة، لكنه كان يؤمن بها أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر.

ماذا لو حقًا عُرِضَ عليَّ يومها كلُّ الأقدار الممكنة؟
هل كنتُ سأختار هذا القدرَ أيضًا؟
أم كنتُ لأختار غيرَه؟

لكن، ألَا يختارُ اللهُ لنا دائمًا الأفضل؟
إذًا، أذلك يجعل من هذا الألمِ جزءًا من القدر الذي اختاره اللهُ لي؟
أم نتيجةً لقراري بالتمسّك بكِ؟

ماذا لو كانت هناك أقدارٌ أُخرى أفضل، لكنني أصررتُ على هذا القدر لحظةَ التقاءِ أعينِنا؟
فلو كان هنالكَ خيرٌ حقيقي، أما كان لقاؤُنا ليتمَّ دون هذه العثرات؟
لِمَ علينا أن نعاني هكذا؟

ماذا لو كانت هذه المعاناةُ إنقاذًا من شيءٍ أكبر، كان ليحدث لو لم أَمُرّ من ذلك الحيّ وقتها؟

"لماذا قُدِّرَ لنا أن نلتقي؟"

أرجع ظهرَه إلى الخلف، مُتكئًا على المقعدِ من ثِقل تلك الأفكار، رفع رأسه إلى السماء وهو يُدَمدِمُ بنبرةٍ يائسة:

"لا أعلم... لكن، لماذا أُحاول الحصولَ عليكِ؟"

ضرب رأسه بيدهِ بقوة، مُحاولًا تشتيت تلك الأفكار، حتى تلاشى هذا الكيان، وشعر بأنّ الثقل قد زال — مؤقتًا على الأقل.

كان لا بدّ أن يخطو نحوها ولو خطوةً واحدة...
خطرت له أول فكرة قد يفكر بها أيُّ شخصٍ: "سأتّصل بصديقتها ريم."

رغم أنّ "ريم" لم تكن — ظاهريًّا — صديقةً مقرّبة من "رنا"، فشخصيتُها الهادئةُ والرزينةُ كانت تجعلها أبعدَ من أن تكون صديقةً لأي فتاة...
ومع ذلك، لم يكن من الصعب ملاحظة أنّ "رنا" كانت تميلُ للكلام معها.

الفتاةُ الهادئة، التي تفهمها بسرعة، وتصغي إليها بصمتٍ نادر — كما أخبرتني "رنا" —
كان أحمدُ متيقنًا أنها الصديقةُ التي تُودِعُها أسرارَها، بالإضافة إلى ما يُشاع عن علاقتها الغامضة بـ"زيد".

لم يجد صعوبةً في الوصول إلى حسابها، فبعد مئاتِ المراتِ من تدقيقه لحساب "رنا"، كان قد حفظ متابعيها عن ظهرِ قلب، وكان حساب "ريم" من ضمنهم.

اتّصل بها ثلاثَ مرّات، لكنه لم يلقَ ردًّا.
وفي الرابعة، أُغلِق الخط.

شعر بالإحباط، لكنه رفض الاستسلامَ هذه المرّة.

"حسنًا... سأتّصل بـ(بدور) إذًا."

لم يكن يعرف تمامًا طبيعة علاقتها بـ"رنا"، لكن شخصية "بدور" المفعمة بالحيوية والجنون، جعلتْها محبوبةً بين الفتيات، وحتى بعض الشبّان.

لم يستبعد "رنا" منهنّ؛ فهي كانت تضحكُ لغمزاتِ "بدور" وتعليقاتِها الجريئة، مما جعلها "الخيار المثالي للسؤال..."

اتّصل وهو يتمتم بكل الأدعية التي يعرفها، يتمنى فقط أن ترد ..
تنفّس الصعداء عندما ردّت، قائلةً:
– مرحبًا، من معي؟

تلعثم قليلًا، يُحاول ترتيبَ أفكاره:
– م.. مرحبًا.. هل هذه (بدور)؟
– أجل، ومن المتحدث؟
– أنا.. أحمد.. زميلكِ في الجامعة.. أتذكرينني؟

صرختْ بحماس:
– أوه بالطبع! أنتَ الأمير المنتظر!

قهقه بضحكةٍ مصطنعة، ثمّ أكمل:
– أردتُ أن أسألكِ عن موضوعٍ ما.. هل يمكن أن أراكِ في أقرب وقت؟
– بالتأكيد! (ثم أردفت بسخرية) لكن انتبه، أنا لا أفكّر بالارتباطِ الآن...

بادلها الضحك، وقال باستهزاء:
– وكأنني سأرتبطُ بمجنونةٍ مثلكِ!

ردّت بغرورٍ طفولي:
– كُلُّ شبابِ الجامعةِ يتوسّلون لي أن أكلّمهم فقط...
– حسنًا، "قلتُ مجاريًا نبرتها" أتمنى أن أكون من المحظوظين الذين يُكلّمونكِ.
– أُمممم... "قالت وهي تُكمِل مسرحيتها" سأفكر في موضوعك.

اتفقنا على موعدِ اللقاء قرب الجامعة، ثم أُغلِقَ الخط.


***


(قبل ذلك بيوم)
"السبت - الثاني عشر من ديسمبر - 11:30 مساءً"

كان القمرُ أحدبًا متناقصًا، ينسلُّ ضياؤه الخافتُ عبر النافذة الزجاجيّةِ المُهترئة، يهمُّ بزيارةِ تلك الفتاة التي اعتادت أن تُطربه بغنائها...
ليجدها هناك، منطويةً في زاويةِ سريرِها، تحتضنُ ساقَيْها بذراعيها، حانيةً رأسها بيأسٍ مُطبق،
دون أن تُبديَ أدنى ردٍّ لهذا الزائرِ المتلهّف، ليعود خائبًا خلف الغيوم... ويندثر.

كانت تضعُ سماعةَ الرأس، وهي تحدّقُ بالجدارِ المقابلِ بشرود، وكأنّها تنظر لمرآةٍ كانت تعكسُ ما بداخلها.
لكنّ انعكاسَها كان مشوشًا، وفي كلّ مرةٍ تبدأ ملامحه بالتشكّل، تعود تلك الأصواتُ لتُهاجمَ مسامعها، وتغرس فيها الذُّعر...

لم تكن تُنصِتُ إلى أيّ موسيقى، بل كانت تضعها فقط هربًا من تلك الهلاوس المرعبة، التي تظهر كلّما أصبحت انعكاسةُ الجدارِ واضحة.
لم يعد جدارًا، بل مرآةً تعكس مشهدًا مألوفًا... لكنها, لا تريدُ تذكّره.

ولتُهدّئ هذا الفيضَ من التذكّرِ القسري، بدأت تُردّدُ بصوتٍ خافتٍ تلك الأغنيةَ القديمة:

"نجمتي يا نجمتي، لا ترحلي
أخبري السماءَ عن أملي
نرقص ندور، نحلّق عاليًا
نمشي فوق الغيوم، نطيرُ معكِ
نجمتي يا نجمتي، أمسكي يدي
إن ذهبتِ بعيدًا... فخذينا... معكِ"

اختنق صوتُها عند آخر كلمة، وسالتْ دموعُها بلا مقاومة.

ثمّ همستْ بنبرةٍ واهنة:
– لا... تَرحلي...

أخفضتْ رأسَها، كي تغوصَ بذلك المحيطِ البارد، بظلامِه الخانق، الخالي من الحياة.
لم يكن فيه روحٌ... سواها.

قاطع هذا الشرودُ صوتَ البابِ الخارجي وهو يُغلق بعنف، حتى شعرتْ بهزّةٍ خفيفةٍ...
رفعت رأسها فزعةً، مدركةً عودةَ زيد...

شدّت ساقيها إلى صدرها بقوةٍ وعيناها معلقتانِ بباب غرفتها...
تنتظر دخوله في أي لحظةٍ كي يبرحها ضربًا كالعادة...

كانت تشعر أنّه غاضبٌ بشدّةٍ هذه المرة، فزاد ذلك من خوفها... أيُّ نوعٍ من الضرب سيكون هذه المرة؟

لكن... بعد ثوانٍ، لم يحدث شيء!..

لم تسمع صراخه عن مكان ولاعته، ولا ندائه الغاضب عن العشاء، ولا حتى صوت أنفاسه المضطربة!
لم ينطق بكلمةٍ حتى...

ثُمَّ سمعتْ خطواتٍ ثقيلة تصعد الدرج ببطء...
تقترب من غرفتها شيئًا فشيئًا...
حتى رأتْ ظلًّا يمر أسفل باب غرفتها...
ثمَّ تلاشى...

انتظرت لعدةِ دقائق، لم تعد تسمع شيئًا...

فكتَّ وثاق ساقيها من ذراعيها بترددٍ لتضع قدمها على الأرض بحذر...
فتحت باب غرفتها ببطءٍ شديدٍ كي لا يصدر ذلك الصرير الصاخب، كان باب غرفة زيد مفتوحًا جزئيًا...
اقتربتْ منها بخطوات ناعمةٍ دون أن تصدر صوتًا...
ألقت نظرةً خاطفةً من فتحة الباب بفضول؛
كان ممددًا على وجهه فوق السرير، وسط الغرفة المظلمة التي يتسلل إليها خيطٌ باهتٌ من النور عبر الممر...

"ماذا... حدث؟.."
شعرتْ بغرابة تصرّفه، لم تعتد على هدوئه، فهو لا يبلغ هذا اليأس إلا عندما تغضب منه ريم،
وحدث ذلك مرةً واحدةً سابقًا، عندما حاولنا أن نثير غيرته، بعد تلك الخطة الماكرة التي فعلناها...

بقي على هذه الحال لأسبوعٍ حتى بعد أن اعتذرت ريم منه، وفي النهاية، أبرحني ضربًا بعد أن علم مشاركتي لخطتها...

"أيعقل أنها هي السبب هذه المرة أيضًا؟"

عادتْ إلى غرفتها بخطواتٍ مضطربة، أمسكت هاتفها بسرعةٍ لتتصل بها...

لكن، ريم لم تُجب على أيٍّ من اتصالاتها...
كان هذا غريبًا، ريم ترد دومًا من أول محاولة...

كررت الاتصال للمرة الأخيرة حتى سمعت صوتها أخيرًا:
– أهلاً... رنا... (كان صوتها واهنًا)...

همستْ بهدوءٍ خشية أن توقظ زيد:
– ريم... ماذا بكِ؟ ما بالُ صوتكِ الغريب؟
– آسفة... "شهقت بهدوء وكأنها كانت تبكي" لستُ في مزاجٍ للحديث... أراكِ لاحقًا...
– لا! أنتظري... لماذا تبكين؟ ما اللذي حدث بينكما؟

سكتت ريم للحظة، كأنها تفرز كلماتها من بين رماد قلبها، ثم قالت بنبرةٍ حازمة:
– لا أريد الحديث في هذا، وأيضًا... لا أريد أن أكلمك مجددًا...

انقطع الخط بسرعة...

انحبست أنفاس رنا وهي تقف مشدوهةً تحدق بشاشة الهاتف... "ملاحظة: كلمة "مشدوهة" ليستْ خطأ إملائي (:"
صحيح أنها كانت هادئةً وكتومةً أغلب الوقت، لكنها كانت مغرمةً بزيد،
فعندما يتعلق الأمر به كنت أضطر لتحمل حلطمتها عنه، لقد أصبحتْ صديقتي فقط كي تتعرف عليه أكثر...

"لكن... أهذا يعني أنهما انفصلا الآن؟"

وفي لحظة، اتسعت حدقتها... كأن هذا الحدث جاء كمنقذٍ وسط ذلك المحيط المظلم، لتسقط عليها فكرة من السماء!


***


كان يجلس على الأرجوحة التي تتمايل ببطء، تصدر صريرًا خافتًا مع كل دفعة...
يتأمل عودة ذلك الكيان وهو يتشكّل أمام عينيه، يُقرّب وجهه منه...

لم يشعر برغبةٍ في إبعاده، كان فقط يحدّق به بنظراتٍ فضولية، وكأنّه يسخر من حاله، راح الكيان يطوف في الهواء، كأنه يسبح في مياهٍ خفية...

أحنى أحمد رأسه، متقبّلًا وجوده...
يُقرّب وجهه الممسوح من أذنه كي يدمدم بتلك الكلمات، يوقظها من قاع النسيان، يُذكره بما يحاول نسيانه...

همَّ بدفعه، لكنَّ يده اخترقت جسده بسلاسة، وكأنّه يمررها عبر فراغٍ بارد...
اشتعَل غضبه من إلحاحه، فراح يلوّح بيده في الهواء بعشوائية، يحاول بعثرته، تمزيقه، لكن... عاد ليتشكّل ساخرًا منه...
أغمض عينيه بقوة، يتمنى فقط أن يختفي من أمامه...

بعد لحظات، شعر بيدٍ خفيفة تستقر على كتفه...
استدار بسرعة، فاستقبل طرقةً مفاجئةً من إصبع مثني، طارت إلى جبينه كطلقة صغيرة:
– أخخ!! "تمتم بتذمر ممسكًا بجبينه" ما بك؟ أأنت مجنونة؟!

رفعت حاجبها بابتسامةٍ ماكرة:
– رأيتكَ وأنتَ تصارع نفسك وتلكم الهواء، من المجنون بيننا؟
– أوه...

نظر أمامه، الكيان تلاشى تمامًا!
كان سيخبر بدور عنه، لكن ذلك لن يزيده إلا جنونًا في نظرها، فقرر تناسي الأمر...

جلستْ على الأرجوحة المجاورة وبدأت تدفع نفسها بحماس، تضحك بحيوية وكأنها تعيش طفولتها من جديد...

نظرَ إليها باستغراب من تصرفاتها الطفولية، لكنها كانت نافذته الوحيدة من هذه المتاهة المعتمة...

كان يحتاجها، أو بالأحرى... يحتاج ما تعرفه عن "رنا"...
فشوقه إليها جعله يراها في كل من له صلة بها، وكأنها قد توزعت في وجوه الآخرين، حتى صارت هي... كل الناس...

بعد دقائق، قالت وهي تحاول إيقاف الأرجوحة بقدمها:
-كُنتُ دَائمًا ما أذهبُ إلى الحديقةِ وحدي، في نَحو نهايةِ الأصيلِ، ألعبُ على الأرجوحةِ حتى أفقدَ الإحساسَ بِقدمي...
-وَحدَك؟
-أَجل!

تأملتْ السماء بإبتسامة واسعة وهي تتذكر:
-كُنتُ أشعرُ وكأنني أمتطي مركبةً عجيبةً.
عِندما أدفعُ الأرجوحةَ عاليًا، أشعرُ بأنني أقتربُ من السماءِ،
وكأنني أسبحُ بينَ نجومها، أحلقُ عاليًا فوقَ الغيومِ وأكلُ منها مثل المارشميلو، أرى الفضاءَ كلَّه.
وفي لحظةِ عودتها العكسيّةِ، أشعرُ وكأنني أغوصُ إلى أعماقِ المحيطِ، أستكشفُ أسرارهُ، وأتأمّلُ أسماكه الملونة.
لم أكن لأعيشَ كلَّ ذلك لو كان معي أحدٌ،
وجودُه سيقطعُ عليّ اندماجي في تلك المغامرةِ المشوّقةِ بثرثرتهِ المملة...

همستُ بإستفزاز:
-هذا يفسّرُ جنونَك...

لم ترد عليه، بل أكملتْ بنفس النبرة الحيويّة:
-كُنتُ أهربُ من عمّتي لأتجنّبَ الدراسة. فيأتي والدي باحثًا عنّي، ليجدني كالعادةِ في تلك الحديقةِ المهجورةِ. لم يوبّخني يومًا على ذلك...
-يبدو أنّه رجلٌ طيّب...

صمتتْ للحظة، ثمّ أجابتْ بهمس:
-أَجل... طيّب.. "تتنهدتْ بحزن وهي تتظر لغيمةّ بعيدة" كم أشتاقُ لتلك الأيام...

كان يرمقها من طرف عينه، ثمّ قال ضاحكًا:
-لا شَكَّ أنّكِ تحبّينه كثيرًا...

صمتتْ لعدة ثوانٍ، ترمقه بابتسامة خافتة، ثمّ اتّسعت حدقتها وكأنّها تذكّرت شيئًا لتصرخ بحيويّةٍ مفاجئة:
-أوه! كدتُ أنسى سبب مجيئي!

قفزت من الأرجوحة وهي تضع يدها في جيب سترتها الجلدية السوداء، ثم قالت بنبرة حاكم مغرور:
-هيا أخبرني، يا سيد أحمد، لماذا أردتَ رؤيتي؟

أربكه السؤال، بل وأيقظ فيه شيئًا نسيه للحظة كانت مريحة لأول مرة منذ فترة...

نظر بعيدًا، في محاولةٍ ليتذكر طلبه منها، حتى قال:
-زيد...

-زيد؟ "قالت بدهشة" أتقصد شقيقَ رنا؟
-نعم...
-حسنًا... "رفعت يدها إلى رأسها تحكّه بخفة" ماذا به؟
-أتعلمين عنه أيّ شيء... أيّ شيء قد يساعدني؟

سألت بفضول:
-يساعدك؟ فيما؟

أدركت أنّها لا تعلم شيئًا عن ما حدث، فأخبرتها بالقصة باختصار، فقط التفاصيل التي تحتاجها لتخبرني بما أحتاجه...
كنت أراقب تعابير وجهها تتبدّل وردود فعلها الغريبة في كل جزء أحكيه، وكأنّها تشاهد فيلمًا، لم تنطق بكلمة، كانت مصدومة...

بعد أن أنهيت حديثي، صمتتْ بدور لعدة ثوانٍ، كانت علامات الذهول واضحة على وجهها وكأنّها تقول "هل حقًا حدث كلّ هذا بدون أن أعلم شيء؟"...

أنهت سكوتها قائلةً:
-حسنًا... "قالت بنبرة مرتبكة" لم تخبرني رنا من قبل أنّ زيد يضربها...

دُهشتُ من كلامها، أليست بدور صديقة رنا المقربة؟ فكيف لم تخبرها؟

سألتها بتعجب:
-لكن... عندما اختفت رنا، ألم تقولي حينها "رنا تحتاجك"؟
-أجل صحيح! أذكر ذلك... لقد اتصلت بي وهي تبكي... لم أكن أعلم بأنّ زيد هو السبب! حقًا أنا مذهولة...

لماذا أخفت رنا هذه الحقيقة عن صديقتها المقربة؟
لم أشأ الغوص في نوايا رنا الآن، فأخبرتها بهدوء:
-لا يوجد دليل الآن، ولهذا أحتاج مساعدتك...
-أن أبرئك من شكوك الشرطة؟ هذا مستحيل!..
-لا، فقط... أريدك أن تخبريني كلّ ما تعرفينه عن زيد...

فكرتْ قليلاً وكأنّها تحاول استرجاع ذكرياتها، ثم قالت:
-حسنًا... لا أعلم الكثير عن زيد، رنا نادرًا ما كانت تتحدّث عنه...
لكن أعلم أنّ ريم معجبة به، وهذا ما خلق فضولًا شديدًا في داخلي لأرى شكله،
لكن رنا لم تشأ ذلك وكانت تغضب في كلّ مرة أستعمل إلحاحي المعتاد معها...
وأيضًا...
-وأيضًا...؟ "قلتُ مشجّعًا إياها على التذكر"

ثم أكملتْ:
-وأيضًا... أذكر أنّه التحقّ بالجيش قسرًا لمدة عامين...
-حقًا؟ "قلت مستغربًا" لم أكن أعلم بذلك!

أردفتْ بدور قائلة:
-أما عن معاملته لرنا، فهي لم تذكر شيئًا عن ذلك، بل على العكس، كانت تبدو وكأنّها تحبه...
-تحبه؟! "قلت بذهول"
-بصراحة لم أشك بشيء، وأيضًا فتاة منضبطة مثل ريم معجبة به، كنت متأكدة من كونه شهمًا ووسيمًا...

تعلمين كلّ ذلك وتقولين "لا أعلم الكثير!"، حسنًا... وفي نهاية المطاف، لم يثمر ما تعلمه عن أي نفع يُذكر، بل زاد كلامها من حيرتي...

إن كان زيد قاتلًا ومعنّفًا، فلماذا رنا لم تكرهه؟ بل لم تصرّح بشيء أمام صديقاتها... هل تتعمد إخفاء الحقيقة؟...
أشعر وكأنني أسير في نفس المتاهة... هناك حقيقة عليّ اكتشافها!..

فكرتُ لعدة ثوانٍ والحيرة بادية على وجهي، قلت بعد أن استسلمتُ لقلبي بنبرة أقرب للهمس:
-ماذا عنها؟
-أتقصد رنا؟
-نعم، كيف حالها؟
-أمممم... "قالتْ وهي تنظر لنفس الغيمة بعد ان تبددت بالهواء، تسترجع ذاكرتها" لا أعلم... لم أتحدث معها منذ الأسبوع الماضي...

صُعقتُ من كلامها، سألتُ بقلق:
-أيّ يوم بالتحديد؟
-دعني أتذكر...

وضعتْ إصبيعها على جبينها وكأنها تحاول استرجاع ذاكرتها، ثمّ صفقت بإصبعها وقالت:
-آه، تذكرت! كان يوم الخميس، حينها أقمنا حفل عيد ميلاد والدتي...

الخميس؟! أي قبل ٣ أيام فقط!.. لكنني أراسلها منذ أسبوعين دون ردّ!

لاحظتْ بدور ارتباكي، فأخرجتْ هاتفها وهي تقول:
-دعني أرى آخر ما دار بيننا...

راقبتها بفضول، لعلي أجد تفسيرًا، ربما كانت مريضة، أو لم تستطع الرد عليّ، مؤكد ذلك، فهي لن تتجاهلني دون سبب...


---

لم يكنَ الحديثُ بينَهما طويلًا، كان مقتصرًا على سؤالٍ من بدورَ عن حالةِ رنا وسببِ تغيبِها عن الجامعةِ،
ثُمَّ ردّ مقتضبٌ من رنا بأنَّها ذاهبةٌ إلى بيتِ عمتها في بلدةٍ أخرى وستعودُ بعدَ عدةِ أيام ..
لم تذكر شيئًا عن زيدٍ، أو أيّ شيءٍ قد يساعد أحمد على الهروبِ من هذا الكابوسِ الذي ينتظره..

زادَ ضياعي بعدَ معرفتي بذلك، كلُّ شيءٍ بات مشوشًا، هنالك الكثيرُ من الأسئلةِ التي لن يستطيعَ أحدٌ إجابتي عليها، سوى "رنا"...
لكن ماذا عليَّ أن أفعل الآن؟ من أين سأبدأ؟ لم أستطع معرفةَ شيءٍ يساعدني للتقدم..

خبت جذوةُ أملي، وعاد الكيانُ ليتشكّل أمامي من جديد..
بدأ الجوُّ يبرد شيئًا فشيئًا، وغشى الحديقةَ غطاءٌ من الظلمةِ، فاختفت معالمُها تمامًا حتى أصبح المكان كأعماق بحرٍ أسود ليس فيه ملامح، تتوسطه الأرجوحة ..

وجدتُ نفسي وحدي فيه، جالسًا على الأرجوحةِ، تغمرني تلك العتمةُ، ونظراتُ اليأسِ تكسو مقلتاي، تتأملان ذلك الكيان الأسود المتجسّد أمامي..

لم تكن له ملامح، لكنني استطعتُ رؤيةَ فمه يُفتح لأول مرة، يضحك بهستيريا على حالي، يسخر من ضعفي..
لم أقوَ على فعل شيء، أرخيتُ بصري نحو الأرض، قررتُ الاستسلام له فقط..

لا يستطيع شخصٌ ضعيفٌ مثلي أن يقومَ بتلك المعجزة، أنا لا أعلم حتى إن كانت رنا تحبني حقًا، أم أنها فقط تجاملني كي لا تؤذيني..
لو كانت تحبني، فلماذا إذاً تتجاهلُ رسائلي؟ ربما تريد إنهاء علاقتنا بهدوء؟.. أو ربما زيد يراقب هاتفها ويمنعها من مراسلتي!
لا أعلم... حقًا، أشعر بألمٍ في قلبي في كل نبضة..

تسلّل هذا السكون صوتٌ خافت، أخذ يعلو شيئًا فشيئًا:
-أحمد... أحمد! هل لازلت معنا على الأرض؟

كانتْ بدور تناديني، تقرع بأصابعها أمام وجهي..

عدتُ إلى الواقع من جديد، لكن هذه المرة، كلُّ شيءٍ من حولي بدا خافتًا، كان لونُ الشجرة باهتًا،
والأزهار شاحبة، وغيومُ السماء غطّت الشمسَ لتزيد برودةَ المكان، لم أَرَ العالم بهذا الذبول من قبل..
لم تكن الحديقة هكذا، بل لم تكن الحياة بهذا البهتان!..

-هل هنالك ما يُقلقُكَ؟ "سألتني قاطعة شرودي مجددًا"

تنهدتُ ببطء، نظراتي تهرب نحو الأرض محاولًا الإجابة:
-لا شيء.. فقط.. أشعر وكأنها تتلاشى من حياتي، وكأنها تبتعد عنّي شيئًا فشيئًا، ولا أستطيع فعل شيء يمنع ذلك...

يصمت للحظة، يقاوم البكاء، ثم يكمل بنبرةٍ منكسرة:
-أحبها... واللهِ أحبها أكثر من أيّ أحدٍ آخر في حياتي... لكن.. لا أعلم شيئًا عنها، ولا أعلم إن كانت لا تزال تفكر بي.. أم لا...

صوته يخفت وهو يغالب دموعه، مبعدًا وجهه كي لا تراه بدور ويُكمل:
-دائمًا ما يكون هنالك حاجزٌ بيننا، في كل مرةٍ أجتازه، يعود أقوى وأكبر من ذي قبل، أريد فقط... أن أراها، أن أعرف أنها بخير..

نظرتْ إليه بدور بعينٍ فيها شيءٌ من التردد والحزن، وكأنها على وشك أن تقول شيئًا مهمًا:
-أحمد...

صمتتْ للحظة وهي تفكر، ثم تابعتْ بهدوء:
-لا عليك، أنسَ الأمر..

راقبتها بصمت، راودني الفضول، لكنني لم أسألها..
ساد الهدوء على تلك الأجواء المشحونة بغيوم الحزن حتى بدأ رذاذ المطر الخفيف يهمي على رؤوسنا ..

قطعتْ بدور الصمت فجأة، بقفزتها المعتادة وصوتها الحماسي:
-وجدتها! هذه هي!

وجّهت نظرها نحوي وهي تبتسم كطفلٍ وجد لعبته:
-إن لم نكن نعلم شيئًا عن الحقيقة، فلماذا لا نبحث عنها بأنفسنا؟!
-بأنفسنا؟! "قلتُ مستغربًا"

رمقتني بعينين متقدتين بالحماس:
-أجل أجل! سأساعدك في إيجاد دليلٍ يثبت بأنّ زيد متورط، ثم نبعده عن رنا، وستتمكن من رؤيتها متى ما شئت!

قلتُ بتردد:
-لماذا.. ستساعدينني؟
-لأن رنا صديقتي أيضًا، أيها الأحمق!
-أممممم..
-لا تقل "أمممم" مثل الأطفال! سنشكّل فريقًا معًا، ونحقق في هذه القضية مثل شارلوك هولمز ومساعده! "وأضافتْ بصوتٍ خافت وشرير" وأنت بالطبع... ستكون مساعدي..

ضحكتْ بغرور وهي تبتسم تلك الابتسامةَ الماكرة، قاطعتُ حماسها:
-وكيف سنفعل ذلك، يا شارلوك هولمز عصرُك..

ضحكتْ مع نفسها كالساحرات الشريرات حتى أرعبتني، ثم همستْ بنبرةٍ متوعدة:
-لكي نحلّ "قضية إنقاذ رنا".. يجب أن نفعل كما يفعل المحققون المحترفون دائمًا..

قضية إنقاذ رنا؟ يا إلهي، إنها حقًا مجنونة، لكن.. لم يكن لي حيلة سوى مجاراتها، فهي أملي الوحيد الآن..

-ماذا تقصدين؟ "سألتُ بفضولٍ مصطنع"

رمقتني بابتسامة متحذلق خطير ثمّ همست:

-أن نذهب إلى مسرح الجريمة.. حيث وجدوا جثةَ آدم!..


... يتبع ...


at_171666228380792.png
 
التعديل الأخير:

المتواجدون في هذا الموضوع

أعلى أسفل