الزهرة الأربعون : أسعِدوا فيو.
دَنت منهم تلك الزهرة الوحشية الحدباء أرجوانية اللون تشتم روائحهم بضع مرة ثم فتحت فاها على غفلةٍ فمنهم و يتطاير لعابها الحمضي حولهم في كل مكان، أغمض السبعة أعينهم شاعرين أنها النهاية، لكن مضى الوقت و هم ما زالوا بخير، فتحوا أعينهم ببطءٍ شديد يتفقدون محيطهم، ما رأوه حينها كان جنية صغيرة شقراء الشعر خضراء العينين ترتدي فستانًا من أوراقِ النباتات و يلتف حول خصرها حزام من أوراق الصفصاف الباكي ينتهي بزهرةٍ حمراء يمينه، شعرها القصير أبقته منسدلًا و علقت على جانب غرتها الأيمن زهرةً أخرى مشابهة لتلك التي على خصرها لكن أصغر، كانت تجلس على ركبتيها داخل فم تلك النبتة الوحشية تمطط جسدها و تفرد جناحيها الخضراوين شبه الشفافين ثم تتثائب بعينان دامعتان و تفركهما ببطءٍ شديد
قالت بصوتها الطفولي الناعم مربتةً على لسان الزهرةِ الوحشية : صباح الخير، فيو..
التفتت إلى الجانبِ الآخر لتلمحَ بياتريس، راين، لوكي و البقية فتتثائب مجددًا قائلة بلا مبالاة : اوه، ضيوف.. أهلًا بكم في فييلو، بلغة هذا العصر فهو النعيم، عالم صنعتهُ كاترينا ساما داخل الشجرة العظيمة..
*فييلو cielo - تعني حرفيًا الجنة.
أشار ماركوس بإصبعه نحو الزهرة الوحشية و سأل مرتبكًا : اممم، على أي حال هذا...
نظرت الجنية نحو الزهرة الوحشية فردت بنفس نبرتها السابقة : اوه، أعتذر، أدعى ميرا، جنية غابة، وهذه هنا صديقتي المقربة فيو..
قالت جملتها الأخيرة و هي تمسح على لسان فيو بلطف
هَتَفَ كلٌ من ماركوس و أليكسي محدثين ذاتهما : أهذا الشيء أنثى !!
سألت بياتريس : عفوًا لكن، أُخبرنا أننا إن عبرنا من هنا فسنبلغ قرية الزهور، أنى لنا ذلك ؟
عادَ ماركوس يحدثُ نفسهُ هاتفًا : أنى لكِ تقبل الأمر بكل بساطة ؟!!
شبكت ميرا أصابعها معًا و أخذت تمد يديها أعلى و أسفل ثم قالت : حسنًا حسنًا لا تستعجليني، فييلو هو بعدٌ أسسته كاترينا ساما ليكونَ الجسر بين هذا الجانب والجانب الآخر ما بعد الجزرِ العائمة، أي أنه أساسًا مصمم من أجل الوصول إلى فلوريس بيوبلو.
*للتذكير، فلوريس بيوبلو - قرية الزهور
نهض راين ينفض الغبار عن ملابسه قائلًا بهدوء : إذًا.. ما الذي علينا فعلهُ للوصول إليها ؟
رفعَ رأسه مع آخر كلمة ينظر إلى ميرا التي ارتبكت وتلعثمت في كلامها، حمحمت و قبضتها أمام فاها ثم فتحت عينيها قائلة : أولًا عَليكم خوضُ أربعة اختبارات لتثبتوا جدارتكم و استحقاقكم الذهاب إلى هناك، و إن نجحتم في الاختبارات الأربعة ستقوم كاترينا ساما بإيصالكم إلى وجهتكم..
راين : وهذه الاختبارات هي ؟...
شتت نظراتها عنه ثم قالت : أولًا عليكم تسلق السلم الزجاجي، ثُمَ إسعاد فيو، ثُمَ احضار سنبلة من الذهب، و أخيرًا ستذهبون إلى القصر الإمبراطوري حيثُ ستقوم كاترينا ساما بطلب شيء معين منكم و ما عليكم سوى تلبية طلبها ثم تنتقلون إلى الجانب الآخر من العالم، و الآن، هَل لا نبدأ بدورنا من الاختبار ؟
هاري : و ما الذي علينا فعله ؟
ابتسمت ميرا قائلة : هذا سهل، فيو هيَ زهرة وحشية، عاشت خمسون عامًا، و هي تبحثُ عن السعادة، لونُها المفضل هوَ البنفسجي، تكره الوحدة و هي بالمناسبة ليست نباتية.. و هذا يعني أنكم إن فشلتم ستصبحون عشائها ~
ازدردَ هاري و ماركوس ريقهما ثم قالت روبي مفكرة : كيفَ يمكنكَ إسعاد زهرة ؟، أليست في العادة الزهرة هي من تسعدك ؟
قطبت ميرا حاجبيها وقالت بانزعاج : هذهِ قاعدة فرضها البشر من تلقاء أنفسهم !، و هي لا تنطبق علينا فقط لأنكم قررتم ذلك !، و بالمناسبة عليكم الإسراع أكثر لأن وقتكم ضيق.
انطلق حبلُ نبات زاحف نحو ماركوس متشبثًا بقدمه فيسحبه ليتدلى من حافة المنصةِ الفيروزية
فهتفَ ماركوس فزعًا : اوي اوي اوي اوي اوي !، لماذا ؟، ما الذي يحصل ؟!!
ابتسمت ميرا بثقة هاتفة : بارتيدو كومينزو !
*بدأت اللعبة
فرقعت ميرا أصابعها لتتشكلَ أرقام فوق التاج الذهبي للباب من العدم، كانت حمراء متموجة كسائل كثيف و هذه الارقام هي 05: 59 :59
حلقت ميرا نحو الأرقام و بسطت كفها تحتها مشيرة إليها قائلة : كما ترون لديكم سته ساعات لذا، كافحوا ~
بدأت الأرقام تعد تنازليًا كعلامة على بدأ الاختبار و استنفاذ الوقت مما جعل الفزع يتسلل إلى قلوب البعض
أخذت بياتريس تهمس : 50 عامًا، بنفسجي، تكره الوحدة، تبحث عن السعادة، نبتة وحشية...
أخذ الوقت يمر و يمر حتى وصل العداد 03: 28: 44
هَتفَ ماركوس المعلق من ساقه يتدلى إلى الأسفل : هلّا أسرعتم ؟، الدماء جفت تمامًا حتى عدتي و رأسي سينفجر حقًا...
هَتفت به روبي بانزعاج : نحن نحاول أيها الاحمق !
فقال بعفوية و حزنٍ مصطنع بينما يمسح دمعة وهمية : أشعر بالوحدة !، لوكي تشان تطوع للتدلي بقربي !
فجأة اتسعت حدقتا عيني جوليا لتهتف بسعادة : ماركوس أنتَ عبقري !
فقال ماركوس ببلاهة : هاه ؟
أخذت عينا جوليا تجولان المكان محدقتان بما حولها بينما هي تسند كوعها على كف يدها الأخرى و تمسك ذقنها بين الإبهام و السبابة
نظرت أخيرًا إلى ميرا و فيو هاتفةً بثقة : ميرا !، لقد وجدتُ ما يُسعدُ فيو !
أثناء قول جوليا سطرها كانت ميرا تجلس بملل و تمسد على لسان فيو فانتفضت من فورها لتهتف بحماس : لديكِ فرصة واحدة !
ابتسمت جوليا بثقة على عكس التردد الذي يشتعل داخلها فهتفت : لا انتيغيوا الكيميا : أوقو !
*الخيمياء القديمة **Ugo مجرد اسم ماله معنى
تَصدع الفيروز قريبًا من فيو لينبت فيه ذكر زهرة وحشية بنفسجي اللون
أردفت جوليا : اسمهُ هوَ أوقو، أتمنى أن تنسجما جيدًا معًا، فيو تشان
قابلتا الزهرتان الوحشيتان بعضهما كما لو كانا يتفحصان أحدهما الآخر لتنتشر حولهما هالةٌ زهرية امتلأت بالقلوب
خَصرت جوليا يديها ثم قالت : الزهور الوحشية تعيش لمائة و خمسون عامًا على أقل تقدير، عندما تبلغ الزهور الوحشية الخمسون عامًا فهذا يعني أنها في السن الذي تبحث فيه عن الإستقرار.
سأل هاري متفاجئًا : دعكِ من هذا، كيفَ استخدمتِ السحر ؟
ابتسمت جوليا و أغلقت عينيها ثم بدأت تهز رأسها نافيةً ببطء لتقول : الخيمياء ليست سحرًا، هاري تشان، إنها بديل للسحر، شرط الخيمياء الوحيد هو أن تكون عالمًا بالتركيبة الأساسية لما ستصنعه و هي تقتصر على تكوين المواد بالحالات الثلاث، يمكن للكيميائيين انتاج النار و الرياح مثلًا لكن لا يمكنهم العبث بها على عكس السحرة، كما أننا لا نستطيع إستعمال الخيمياء للتخاطر أو الانتقال الاني مثلكم.
بياتريس : إذًا ؟
نظرت جوليا إلى ما حولها لتقول : هذا المكان بأكمله مصنوع من الخيمياء !، إن كانت المدعوة كاترينا حقًا من أنشأ هذه الشجرة فهي و بدون شك أعظم خيميائية مرت على وجه التاريخ و ستبقى كذلك !، ما ساعدني على ادراك الأمر هو تلك الساعة الرقمية، إنها زئبق، و لا يمكن لأحد أن يتحكم بالزئبق ما لم يكن خيميائيًا.
ابتسمت ميرا قائلة : تمامًا كما قلتِ، جوليا ساما.. لقد نجحتم !، حظًا موفقًا في جلب السنبلةِ الذهبية ~
فُتِحت البوابة الزفيرية على مصراعيها لتنبثق منها حبال نباتية زاحفة تتشبث بأقدام السبعة و تسحبهم إلى الداخل بسرعةٍ كبيرة ثم تصفق أبواب البوابة بقوة.
الزهرة الحادية و الأربعون : سنبلة من الذهب.
فضاءٌ أسود يغلف المكان، جاذبية شبه معدومة فيطفو كل من فيه و ما فيه، يقفون محدقين بما حولهم و تحيط بهم آلاف الأبواب بكل الأحجام و الأشكال، فباب ألماسي نُدب عليهِ شكلُ ثلجة أو آخر حجري حفر عليهِ بركان فتوهجَ بألوانِ الحمم
قالَ ماركوس : لِمَ بحق الجحيم كل شيءٍ عجيب هُنا ؟
فأجابتهُ ميرا : لأنَ كاترينا ساما تبتغي ذلكَ
أجفلَ ماركوس مبتعدًا خطوةً إلى الخلف فقال : وااااه !، هذا كان مفزعًا !
سألت جوليا : ما الذي تفعلينهُ هُنا ميرا ؟، ألم ينتهِ دوركِ من الإختبار ؟
ارتبكت ميرا قائلة : اوه لقد جئت من أجل رايـ-.. كاترينا ساما أرسلتني من أجلِ إرشادكم داخل القصر الإمبراطوري
حدثت ذاتها بنبرةٍ طفولية نادمة : سامحيني كاترينا ساما !، ميرا قد كذبت توًا فقط !!
اكتست نبرة روبي الغضب فقالت : كاترينا ساما قالت هذا كاترينا ساما قالت ذاك !، أوليس الامر كأنكم بلا إرادة ؟!
فأجابتها ميرا بالقليل من التكبر : و ماذا يمكن لبشريةٍ جاهلة مثلكِ أن تعرف ؟!، نحنُ أقسمنا بولائنا لها بكامل إرادتنا !، هيَ لم تغصبنا يومًا على شيء !، حتى أنتِ من المفترض بكِ أن تمتلكِ شخصًا كهذا لا ؟!
فجأة توسعت عينا روبي لتتذكرَ مشهدًا حيثُ يبتسمُ لها شخصٌ ما قائلًا : روبي ، هاري، مار، سأكونُ حليفكم أنتم و أنتم فقط دومًا !
عادت إلى أرض الواقع لتعض على شفتها قليلًا ثم تقول بجدية مزجت ببعض الحزن : معكِ حق.. كان موجودًا..
قالَ ماركوس محاولًا تغيير الموضوع من فوره : ميرا تشان أمتأكدة أنهُ لا بأس بتضييع الوقت هنا ؟، أوليس هناكَ وقتٌ محدد كالإختبار السابق ؟
؟، لا أود أن أكون معلقًا رأسًا على عقب ثانية ~
فينطلقلُ حبلٌ آخر من العدم متشبث بساقِ ماركوس ليفتحَ بابًا مؤدي إلى بركان ثائر فيتدلى فوقهُ مجددًا
هتفَ بإنزعاج : فقط لماذا يجبُ أن يكونَ أنا بحقِ الجحيم !!
ميرا : خذ الأمر ببساطة عزيزي ~
تذمرَ ماركوس قائلًا : أقسم لكم أني أريد العودة إلى المنزل...
التفتَ راين نحو ميرا ليقول : إذًا ماذا علينا أن نفعل ؟
ميرا : هذا بسيط جدًا، بين هؤلاء الأبواب هُناكَ بابٌ نقش عليهِ سنبلة من الذهب، كل ما عليكم فعلهُ هوَ احضار سنبلة ذهبية تتطابق مع السنبلة على الباب و تركيبها هناك ~
سألت بياتريس : إذًا أينَ يُمكننا إيجاد تلكَ السنبلة ؟
ميرا : من يعلم ؟، ربما تعوم في مكان ما ؟، أو داخلَ أحدِ الأبواب، و ربما توجدُ داخلَ أحدكم حتى ~
مجددًا ظهرت الساعة الرقمية الزئبقية لكن هذه المرة استمرت من حيثُ توقفت عند منصةِ الفيروز، و في مكانٍ ما ابتسمت شقراء الشعر التي تطلي شفتها السفلية بالأحمر الدموي لتقول : و الآن ؟، ما الذي ستفعلينهُ جوليا ؟
أما عندَ السبعة فقد تفرقوا للبحث بين الأبواب و داخلها، فتحَ هاري بابًا حديديًا نُقشَت عليهِ تروسٌ معدنية ليقابلهُ قطارٌ مسرعٌ باتجاهه فتجمدَ للحظة ليصفعَ البابَ بقوة سريعًا
بابٌ آخر من الفولاذ الممزوج بالكرستال الخام متعدد الألوان فتحهُ لوكي ليقابلهُ كهفٌ تنام داخلهُ هيدرا عملاقة فزأرت في وجههِ ليردَ لها الزئير صافعًا الباب خلفهُ
العد التنازلي قد بلغَ 00 :50 :09 و هو لا يزال يتناقص بينما الجميعُ كانَ شبه يائس في الوصول إلى السنبلة الموعودة، استمروا في البحث و البحث حتى لم يعد أمامهم سوى عشرون دقيقة، و أثناء بحثهم تمكنوا من إيجاد البابِ المطلوب لكن لا يزال مكان السنبلة مجهولًا تمامًا
أمسكَ راين جبينهُ براحةِ يدهِ عاقدًا حاجبيه عابسًا تمامًا يفكر بعمق فحدّثَ نفسه قائلًا
راين : فَكر راين !، لا يمكن أن يكون مكانها عشوائيًا !، لا بد من وجود تلميح في مكانٍ ما !
أخذَ يتلفتُ حولهُ محاولًا ايجادَ أي شيء و تذكرَ أي كلمة بينما الشقراء على الجانب الآخر من البلورة عبست متنهدة
قالت : إذًا فهذه هي حدودكِ، حسنًا لقد كانت توقعاتي مرتفعة جدًا بشأنكِ لكن ماذا يمكن أن آملَ من طفلة تدربت وحدها طيلة حياتها...
أما في بعد الأبواب هتفَ راين : وجدتها !
وهنا التفتَ إليهِ الجميع و انتفضت الشقراء من مسند مقعدها لتعتدل في جلوسها
قالَ راين : ربما تعوم في مكان ما، أو داخلَ أحدِ الأبواب، و ربما توجدُ داخلَ أحدكم، هذا ما قلتهِ ميرا صحيح ؟
أومأت لهُ ميرا بلهفةٍ كأنها هي من تودُ الخروج من الشجرة لا هو و هتفت بصوتٍ عال : أ أجل !!
ثُمَ حدثت ذاتها بقلق : واااه لقد نادى باسمي دونَ سابق إنذار !
فأردفَ راين : إن لم تكن تعوم في أي مكان، و ليست في داخل أي باب، إذًا فهي داخل أحدنا، داخلكِ جوليا !
عقدت جوليا حاجباها مستفسرة : ماذا تقصد ؟
نظر حوله قائلًا : الأبواب هنا مصنوعة من كل شيء !، إن كانت صانعتها كيميائية فهذا يعني أنها تنتجُ كُلَ العناصر و ليسَ عنصرًا واحدًا، و بما أنكِ كيميائية فالإمكانية متاحة لكِ كذلك !
اعترضت جوليا : مهلًا مهلًا !، الكيميائيونَ لا يمكنهم انتاج أكثر من عنصر !
سألَ راين : أحاولتي و لم تفلحي قبلًا ؟
هزت جوليا رأسها نفيًا فقالت : لا أظن
راين :إذًا إما أنه ممكن أو أن هذا المكان مميز بطريقةٍ ما !
أغمضت جوليا عينيها ثم قالت : الكيمياء بديل أشد تعقيدًا من السحر له، الشرطان الوحيدان لإتقان الكيمياء هي أن لا تكون ساحرًا أولًا، و أن تفهمَ تركيبَ المادة أو العنصر الذي تودُ إنتاجه.. أنا أحفظُ التركيب المبدأي للذهب الخالص، لذا سنعتمدُ على حظي لا أكثر و لا أقل !، إن كانت فرضية رأي صحيحة...
سادَ الصمت المكان و عيون الجميع متجهة نحوها بينما ابتسمت ميرا براحة، أغمضت جوليا عينيها و أخذت نفسًا عميقًا ثم قامت تزفرهُ بهدوءٍ شديد، بسطت كفها و أطبقت الآخر فوقه بالعكس فتوهجَ باطنهما بالذهبي الخافت لبضع ثانية، خبا الوهج تدريجيًا ثُم فتحت عيناها و كفاها معًا و فعلًا كانت هناكَ قطعة ذهب صغيرة في راحةِ يدها
إلتمعت عيناها سعادةً ثم هتفت : لقد فعلتها !، انا نجحت !!التمعت عيناها سعادة ثم هتفت : لقد فعلتها !، أنا نجحت !!
فُغر فاه شقراء الشعر على الجانبِ الآخر من البلورة و هي شبه واقفة بانفعال تستند بكفيها على يدا الكرسي فابتسمت بهدوء لتعاود الجلوس على كرسيها الفخم
أما عند جوليا و البقية فقد وقفوا أمام البوابةِ المطلوبة و التي كانت عبارةً عن بوابة من الذهبِ الخالص حُفر داخلها شكلُ سنبلة ذهبية بشكلٍ مائل فنصفها العلوي على أحد الأبواب و السفلي على الآخر و ما كانَ على جوليا سوى أن تصنعَ سنبلة طبق الأصل عن تلكَ المحفورة على البوابة و تدخلها هُناكَ، و ما كان من الباب سوى أن يُفتحَ و من العدادِ أن يتوقفَ قبلَ ستة دقائق من نفاذِ الوقت
فُتحت البوابة لتقسم السنبلة بدورها إلى اثنين فسطعَ نورٌ في أرجاءِ المكان ليجدوا نفسهم في مكانٍ آخر و ماركوس واقفٌ على قدميه
كانَ المكانُ عبارة عن قاعة بلا بداية أو نهاية، أرضيتها من الياقوتِ الأحمر اللامع و سقفها من النفط الصلب الأملس و بينهما أعمدة أسطوانية من الذهبِ الخالص
صوتٌ انثوي غمرَ المكانَ من العدم قائلًا : من المذهلِ أنكِ وصلتِ إلى هذا البعد.. جوليا... مع أنَ أسودَ الشعر كان له دورٌ كبيرٌ في عبوركِ للإختبارِ السابق...
وفورًا اكتست الصدمة ملامحَ وجهِ جوليا و ارتسمت الحيرة على محياها
الزهرة الثانية و الأربعون : جوليا.
" جوليا : في قريتي... كانوا دومًا ينادونني بالمشعوذة ؛ كانت مجرد قرية صغيرة في أقصى الغرب، هادئة و مسالمة، لم يكن سكانها يفقهون شيئًا عن الخيمياء و الخيميائيين، لأني كُنت أستعملُ أساليبًا مغايرة للسحر و لم أكن ساحرة، كانوا ينعتونني بالمشعوذة فقط، دومًا ما خافوني، خشوا الاقتراب مني و لعنوني، أما أنا فقد عشتُ معَ أخي الأصغر وحدنا، في كوخٍ صغير من الخشب على أطراف القرية، لم تكن لدينا أمٌ تعتني بنا أو أبٌ يصرفُ علينا... أنا و هو فقط، أخي كانَ مريضًا جدًا على الدوام، فهو على عكسي يمتلكُ جسدًا ضعيفًا و لا يجيد أي نوعٍ من السحر أو الخيمياء، و في السنواتِ الأخيرة سائت صحتهُ أكثر ليمسي غير قادرٍ على الوقوف، أما أنا فقد أخذتُ مسؤولية رعايتهُ و تأمين حاجاته على عاتقي كوني الأكبر سنًا و الأكثر صحة ؛ أنا، كان لدي سرٌ صغير، هوَ لم يكن سرًا، لكن لم يصدقني أي أحد عندما أخبرته أياه لذا توقفت عن الحديث بشأنه فقط... في الوقتِ الذي أغفو به، أجد نفسي في قاعةٍ كبيرة تمتد من الأفق و حتى الأفق، أرضيتها حمراء لامعة تعكسُ ما فوقها بمثالية تامة ؛ سقفها أسود لا يقلُ لمعانًا عن الأرضية، و أعمدة مصطفة من الذهب لا يقل جمالًا عن سابقيه... و في المنتصفِ تنتظرني بوابةٌ سوداءٌ إطارها من الذهبِ نُقشَ على زواياها بالياقوت الأحمر كما مقبضيها شبهُ الشفافين، لم يكن هُناكَ أي جدران خلفهُ أو أمامهُ، فقط أنا و هو.. كنتُ ولسببٍ ما لا أترددُ أبدا في فتحهِ فورًا.. أفتحهُ لأدخلَ غرفةً أرضيتها سوداء و سقفها أحمر بجدرانٍ بيضاء لؤلؤية، زُينت الأرضية اللامعة بسجادةٍ حمراء حريرية اعتلتها طاولة زجاجية ذات أرجل من الذهب، و على مقربة منها كرسي أسود متصل بالأرضية كما لو كان جذع شجرة بيدين ذهبيتين و مقعد حريري أحمر حُشيَ بالإسفنج، أمامَ ذلكَ الكرسي فجوة دائرية بإطار ذهبي تربعت على الأرض تعوم فوقها بلورة عملاقة شفافة اللون... في تلكَ الغرفة... و تحديدًا فوقَ ذلكَ الكرسي الشبيه بالعرش... تجلسُ سيدة شقراء فاتنة الجمال لها نفسُ لونِ عيني الأزرق تنظر إلي بإبتسامة تعلو شفتيها التي كانت السفلية منها قد طليت باللون الأحمر، ترتدي عقدًا رفيعًا من الذهب و أقراطًا ذهبية تتدلى منها سلسلة نهايتها ورقة برسيم ذات أربعة أوراق ياقوتية حمراء تمامًا كتلك الخصلة التي زينت منتصفَ شعرها، كانت ترتدي فستانًا أحمرًا شبهَ منفوش من الحرير ملفوف حولَ جسدها كاليوكاتا الياباني مفتوح ابتداءً من وركها و حتى النهاية و تحتهُ فستان آخر من الستن ذو اللون اللؤلؤي، حزام حريري رفيع ذو لون ذهبي لُفّ على خصرها عُلقت عليهِ ربطة زهرة كبيرة عندَ جانبه الأيسر تدلت شرائطها حتى أطراف الفستان، كانت تجلسُ بإنتصابٍ على كرسيها ذاكَ و تضعُ كفيها فوقَ بعضهما على فخذيها، كانت فقط تبدو نبيلة بحق...
و لسببٍ ما كانت أعتقد أنها امي.. كانت تدعني أجلسُ على فخذيها و هي تداعبُ خصلات شعري بهدوء، كنا نلعب، نتحدثُ نضحكُ كثيرًا...هيَ من علمني كُلَ أساسيات الحياة، القراءة، الكتابة، الحياكة، الطهي، صيد السمك، و حتى الخيمياء، هيَ من علمتني حتى أتقنتُ سحري، أو الخيمياء الخاصة بي.. دونَ أن ننسى أنها من كانَ لها الفضلُ في بقائي على قيد الحياة... لكن عندما أفتحُ عيناي.. تتلاشى ذكرياتي خلال دقائق و أمسي غير مدركةً لشيءٍ سوى أن أمي هيَ من علمتني ذلك... أنسى كل شيء بما فيهم شكلها و صوتها، و بعد مرور فترةٍ معينة أصبحتُ أنهض من سريري إلى الورقة والقلم أدونُ ما أتذكرهُ عنها و ما قمنا بهِ معًا بغض النظر عن الأمور التي تعلمتها منها... مهما كُنتُ أكادُ أموتُ جوعًا أو بردًا، كُنتُ دومًا أستيقظُ صباح اليوم التالي مفعمةً بالحيويةِ و النشاط، وإن سألني أحدٌ عن السبب، كانت إجابتي دومًا ( تناولت الطعام مع أمي )، ( تدفأت أمام المدفأة في حجر أمي )، ربما يكونُ هذا أكثرَ ما أفزعهم مني، أني بقيتُ على قيدِ الحياة لسببٍ ما دونَ طعامٍ أو ماء... لكنني فعلتُ ذلكَ حقًا، أكلتُ معها، تدفأت معها، لماذا يا ترى.. أشعرُ أنّ هذا المكان يبعثُ على الحنين... أودُ رؤيتها حقًا، أمي من الحلم... هذا ما يصرخُ بهِ قلبي حاليًا "
صوتٌ انثوي غمرَ المكانَ من العدم قائلًا : من المذهلِ أنكِ وصلتِ إلى هذا البعد.. جوليا... مع أنَ أسودَ الشعر كان له دورٌ كبيرٌ في عبوركِ للإختبارِ السابق...
وفورًا اكتست الصدمة ملامحَ وجهِ جوليا و ارتسمت الحيرة على محياها
قالت محدثةً نفسها : هذا الصوت.. أشعرُ إنني سمعتهُ في كانٍ ما قبلًا...
هَتفت جوليا تُحدثُ صاحبة الصوت : مَن انتِ !، لِما قَلبي ينقيضُ هكذا عندما اسمعُ صوتكِ !
فاجابتها بهدوء : لابأس لابأس، ستدركين كُلَ شيءٍ قريبًا...
سكتت ثُمَ أردفت بجدية : وَجدتم مفتاح الباب الياقوتي، تسلقتم الدرج الزجاجي، أسعدتم فيو، وفتحتم باب السنبلة الذهبية، مبروك، لم يتبقى امامكم سوى تحدٍ اوحدٍ فقط...
سكتت ثُمَ اردفت مجددًا بصوتٍ تخلله بعض الحزم : بالمناسبة ميرا، لم اعهدكِ تتسكعينَ في الارجاء هكذا.. وبرفقةٍ ذلكَ الشيء..
اجفلت ميرا واخذت تعتذرُ مرارًا وتكرارًا بينما حدثَ راين ذاتهُ بتكلف : هذه المرأة... أنعتتني بذلكَ الشيء توًا ام انني اصبحتُ أُهلوس ؟
إتسعت عيناه فجأة ليردفَ محدثًا ذاتهُ : مستحيل ان تكونَ على دراية بهويتي !، تبًا عندما احتاجكِ لاتكونينَ هُنا !، فيينتو ساما...
داخلَ الغرفة التي تجلسُ فيها صاحبة الصوت فَرقعت اصابعها ليظهرَ بابٌ من اغصان الشجر واوراقها قربهم
قالت : لابدَ وإنكم متعبون... فلتستريحوا في تلكَ الغرفة... لديكم تسعُ ساعاتٍ لترتاحوها...
دخلوا إلى الغرفة برفقة ميرا وقد كانت من الخشب بالكامل لاتحتوي سوى سبع اسرة لك هذا لم يعني إنها لم تكن فخمة فقد كانت الاسرة افخم ماقد ينام عليهِ إنسان، بقيَ السبعة يحدقونَ بما حولهم بذهول بينما إرتمى راين على احدها ليرتدَ جسدهُ بضع مرة بينما يزفرُ براحة
قال بصوت شبه هامس : فقط كم من الوقت ولم أستلقِ على سريرٍ مريح كهذا قد مر ؟...
فقالت روبي : أنا لم أفعل في حياتي
إبتسمت بياتريس لتقول : وانا كذلك...
سألَ هاري : أيمكن ان تكونَ من أسرة ثرية أيها القائد ؟، سيد صغير مدلل ؟
ردَ راين بإنزعاجٍ واضح : فقط اخرس ودعني ارتاح !، اخر مرة إستلقيت فيها على سرير كهذا كانت عندما كُنتُ في السابعة !
تعجبَ البقية لينظروا لبعضهم البعض فسال راين : على اي حال، من كانت تلكَ المرأة بحق ؟، ميرا...
إرتبكت ميرا وإكتست وجهها حمرة طفيفة لتقول ، هاهوَ يفعلها مجددًأ !، ينادي بإسمي بكل عفوية !، راين ساما انتَ تؤذي قلبي !
حاولت السيطرة على نفسها فأجابته : تلكَ كانت كاترينا ساما..
هَمهَمَ راين متفهمًا بنبرةٍ مرهقة ثم قالَ بصوتٍ خافت اخذَ يخبو تدريجيًا : هكذا إذًا... لدينا يومٌ حافلٌ غدا...
ثُمَ غطَ في النومِ من فورهِ دونَ ان يشعرَ احد
الزهرة الثالثة و الأربعون : لَيلَةٌ قِرمِزيَةٌ مِنَ الصَيفِ
المكانُ حولهُ يتوهجُ لونًا برتقاليًا متأججًا و الأرض تُغمرُ بالأحمر شيئًا فشيئًا.. صوتُ تأجج النيران و ضوضاء الطعن و تهاوي الأخشاب هُنا و هناك، رائحة الرماد المتطاير في الجو ممزوجة مع الرائحة الحلوة للدماءِ الطازجة، يجثو ذلكَ الطفل أسود الشعر وسطَ هذهِ الفوضى يُحدقُ بها بعينيه البنفسجيتين المتسعتين و تقاسيم وجههِ يغلفها الرعب، بشرتهُ شاحبةٌ، شفتاه ترتجفان، يجثو على ركبتيه اللتان بالكاد يشعرُ بهما، أطرافهُ باردةٌ بعكس حرارة المكان المشتعلة حولهُ و قلبهُ يسحقُ بلا رحمة... يشعرُ بأمعاءهِ قد اختفت و لعابهُ قد جفّ تمامًا
نطقت شفتاه أخيرًا بصوتٍ خافتٍ مرتجف : توقف... تو..قف..
ثُمَ تبعها صُراخهُ المبحوح : أترجاك !، أرجوكَ توقف فقط !
أردفَ بصوتٍ خافت : سأفعلُ كُلَ ما تُريد لذا رجا--
فجأة تناثرت الدماء فوقهُ لتصبغَ وجههُ ووبضعَ خصلاتٍ من شعرهِ بالأحمر، اتسعت عيناه أكثر و شعرَ بالحرارة تغلي متصاعدةً في حلقه، ازدادَ إرتجافهُ ليهمسَ بصوتٍ مهزوز سائلًا : إد.. غار ؟
ما كان أمامهُ سوى رجلٌ يرتدي معطفًا أسودًا غُمرَ بالأحمر على حين غرة، غزا الشيب شعرهُ ووشعت عيناه حمرة، و ما كانَ أمامهُ سوى جسدُ طفلٍ أشقر يتدلى و مخالبٌ قد غرزت في منتصفِ صدرهِ سابحًا في دِماءه
ابتسمَ الرجُل لأسودِ الشعر قائلًا : هيا راين... كُفّ عن صُنعِ وجهٍ كهذا.. رائحته لذيذة أليست كذلكَ ؟
التفتَ إليهِ المعني بوجهٍ شاحب وبطء شديد ليحدثَ ذاتهُ قائلًا : رائحة الدم... حقًا... لذيذة...
ازدردّ ريقهُ بصعوبة حينّ أخذَ يشتمُ تلكَ الرائحة العالقة بهِ ليسقطَ جسدُ الطفلِ الأشقرِ أرضًا معيدًا راين إلى الواقع
نادى الأخير بفزعٍ ناهضًا من مكانهِ بصعوبة : إدغار !!
أمسكّ بهِ راين بينّ يديهِ، تجمعت الدموع في جحرا عينيه و أخذَ يقول بفزع : أنا آسف، أنا آسف !!، أرجوك !، فقط لا تمت !، إدغار !!
سأل إدغار بصعوبة من بينِ أنفاسه الثقيلة : علامَ تعتذر ؟، راين...
فسّر الآخر : لأنه.. لو أنني لم أستمر في المجيء إلى هُنا.. لما حدثَ أيٌ من هذا !
إدغار : إنهُ ليسَ... خطأكَ رايـ..ن، لكن رجاءً... سارا...
فهتفَ بهِ راين بفزع : ما الذي تقولهُ !، ماذا عنكَ !، يستحيلُ أن أترُككَ هكذا !
إدغار : استمع إلي أيها الأحمق !، أعضائي.. الداخلية... قد تضررت بالكامل... لَن أصمُدَ كثيرًا...
هتفَ راين بقلقٍ و رجاء : لن تعرف ما لم تحاول !
بصوتٍ حَملَ الكثير من الإرهاق و الأكثرَ من الحزن : راين... دعني أقم.. بدور الأخ الأكبر.. و لو لمرةٍ.. واحدة.. رجاء...
عضَ راين على شفتاهُ مُكتفيًا بالصمت، كانَ يدركُ تمامًا أنهُ إن حاولَ أن ينطقَ بحرفٍ واحدٍ الآن فهوَ سيبكي لا محالة، أنزلَ راين صديقهُ أرضًا برفقٍ و هدوء لينهض ببطء وخصلاتُ شعرهِ قد حجبت ملامحَ وجههِ بالكامل
همسَ إدغار : راين...
أجفلَ المعني بهدوء لينظر نحوهُ ليردفَ إدغار : إنهُ حقًا ليسَ خطأك...
سكتَ إدغار ليردفَ قائلًا : اعتني بها من أجلي.
ابتسمَ بوهنٍ في نهاية جملتهِ ليغمضَ عينيه بعدها منتظرًا نهايتهُ بهدوء، أما راين فقد بدأ في البكاء فعليًا منذُ جملة إنهُ ليسَ خطأك، أخذَ يُحدقُ بإدغار بصمت و قلة حيلة بينما دماء الأخير تتسللُ خارجَ جسدهِ إلى الأرض الباردة، عادَ يعضُ على شفتهِ بقوة فأغمضَ عينيه بقوة عاقدًا حاجبيه و التفتَ إلى الخلفِ سريعًا لينطلقَ إلى القرية يعدو سريعًا
أخذَ ينادي بينما يجري : سارا !، سارا !، أينَ أنتِ سارا !!
أتاهُ صوتها حينها تهتف : ران تشان !
توقفَ راين فجأة ليهتفَ بدورهِ بصوتٍ أعلى : سارا !، أينَ أنتِ !!
اقتربت منهُ و هوَ غيرُ قادرٍ على رؤية رأسها بسببِ الظلام كُلُ ما كان يدركهُ أنها تمشي بخطواتٍ متهاوية تمدّ يديها أمامَ جسدها و تلوحُ بهما في الهواء ببطء، اتضحت رؤيتهُ شيئًا فشيئًا ليقعَ بصرهُ على عيناها المغلقتان و الدماء تغطيهما بالكامل، أصابه صداعٌ حادٌ فجأة إثر صدمةِ رؤيته لها على هذهِ الحال و كيفَ سيخبرها أن والدهُ هوَ قاتلُ توأمها و نصفها الآخر، أخذَ يعضّ و يعضّ على شفتيه بقوةٍ حتى سالت الدماء منها و يقبضُ على كفهِ حتى سالت دماؤها هي الأخرى، حاولَ أخذَ خطوةٍ إلى الأمام فتوقفَ قبلَ أن يفعلها حتى
مدّ يدهُ نحوها و توقفَ في منتصفِ الطريق هامسًا بصوتٍ مرتجف : سا--
لتقاطعهُ بصوتٍ مهزوزٍ و هي على وشكِ البكاء : إنهُ مظلم.. لا أرى شيئًا !، عيناي تؤلماني !، ران تشان، أنا خائفة !.
سكتَ لتكملَ هي : دخلَ بعضُ الغرباء إلى منزلنا، كانَ بابا و ماما يصرخان ووكنتُ أسمعُ صوتَ تحطم و ارتطام، حاولتُ تفقد الأمر.. لكن شيئًا حارًا قد دخل إلى عيناي.. ثُمَ توقفت كُل الأصوات.. وولم أعد أرى شيئًا...
تقدمَ راين منها سريعًا يمسكُ بوجهها و يمسحُ عنهُ الدماء إذ بها دماءٌ منثورة و ليست بدمائها هي فارتخت ملامحهُ قليلًا همّ يودُ احتضانها لكنها تحولت إلى دخانٍ أسودٍ في اللحظة الأخيرة ثُم تلاشى المكان بدوره ليغرقَ راين الصغير في عتمةٍ دمساء تمامًا
صوتها تخللَ مسامعهُ لكن هذه المرة بنبرةٍ مرحة قائلة : أتذكرُ ذلكَ اليوم ؟، ران تشان... إنه يبعث على الحنين لا ؟
هتفَ بصوتٍ فزع : سارا !!
أخذَ يتلفتُ حولهُ إذ بنظره يقع على جسدِ إدغار المستلقي فوق الظلمة و الدماء تسيل منه بغزارة وجههُ الشاحب يقابله، فتحَ إدغار عينيه الميتتين فجأة ليقول : معكِ حق.. إنهُ اليوم الذي خُنتنا فيهِ.. راين.
التفتَ راين خلفهُ ليجدَ سارا أمامهُ، غرتها تغطي عينيها وبابتسامة تقول : هذا صحيح... لن أسامحكَ ران تشان... لن نسامحك
استيقظَ راين فزعًا يلهثُ بشدة و الدموعُ تملأ عينيه ليستوعبَ بعدَ فترة من السكون أنّ كُل ذلكَ ما كان سوى مجرد حلم، التف يستلقي على ظهرهِ و وضعَ ساعدهُ فوقَ عينيهِ بصمتٍ بعدَ أن هدأ قليلًا دونَ أن يعلمَ أن رفاقه مستيقظين في أسرتهم
أطلقَ راين آهً مثقلةً بالهموم ليهمسَ لنفسهِ : اسمحوا لي بالموت فقط...
سألت ميرا بقلق : ما الذي يدفعُك لإطلاق أمنيةٍ كهذه ؟
أبعدَ راين ساعدهُ عن عينيه ينظر إلى ميرا بصدمة ليقول : آسف، إنهُ لا شيء.. لَم أكن اعلمُ أنكِ لا تزالينَ مستيقظة، عودي إلى النوم ميرا...
لفّ جسدهُ إلى الجانب الآخر غيرَ تاركٍ لميرا أي مجال للرد عليه بينما فتحَ البقية أعينهم أخيرًا يحدقونَ في الفراغ بصدمة لما سمعوه منهُ توًا
الزهرة الرابعة و الأربعون : سرٌ، نَدَمٌ وَ نُبوءةٌ.
مضت التسع ساعات الراحة التي وعدتهم بِها كاترينا بالفعل و بدأوا بالاستعدادِ من أجلِ المغادرة، الجو كانَ ثقيلًا مشحونًا و متوترًا جدًا و إلى أبعد الحدود، و كيفَ لا وما سمعوهُ قبلَ قليلٍ قطعًا لم يكُن مزحة، أما راين فقد كانَ يتصرفُ بطبيعيةٍ تامةٍ بينما يوجهونَ لهُ نظراتٍ مسترقة بينَ حينٍ و آخر، وقفَ الجميعُ أمامَ البابِ استعدادًا للخروجِ فأغمضَ راين عينيه زافرًا
قال : إذًا ؟
أجفلَ الجميع ليشتتوا نظراتهم بين بعضهم أو حول المكان بقلق و ارتباك فوجهَ راين نظرةً مخيفة إلى ميرا
هَتَفت : أُقسمُ لكَ أنني لم أنطق بكلمة !
زفرَ راين مجددًا و أخذَ يربت على رأسها بسبابتهِ قائلًا بندم : آسف حسنًا ؟، أنا فقط متوترٌ قليلًا...
تقدمَ منهُ هاري بقلق قائلًا : عليكَ أن تقدمَ تفسيرًا !، لقد كُنتَ تتعرق و تتمتم و حتى تبكي !، أيحدثُ هذا كل ليلة ؟، ثُم ما الذي فعلتهُ في الماضي لتتأسف كُل ذلكَ الأسف بل و تتخذُ الموتَ أمنية ؟
قالَ ماركوس مرتبكًا و لأولِ مرة منذ وقتٍ طويل تختفي ابتسامته المرحة المعتادة : مـ مهلًا هاري.. لا تضغط عليهِ كثيرًا حسنًا ؟
نظرَ هاري إلى ماركوس قائلًا : بل يجبُ عليّ ذلكّ !، ماركوس أعرفُ أنكَ لطيف لكن تصرفكَ سيؤدي إلى نتائج عكسية !، عليهِ فقط أن يبوح لنا بكل شيء بدل كبته داخله هكذا !، نحنُ يمكننا التخفيفُ عنه بهذه الطريقة !
ماركوس : لكن !
عضّ راين على شفتهِ ليقولَ بصوتٍ خافت : انسوا ما رأيتموه و سمعتموه اليوم فقط.. رجاء...
وضعَ لوكي يدهُ على كتفِ راين قائلًا : راي تشي، لقد عشتُ لوقتٍ طويل و أنت تفهمُ ما أعنيه !، أخبرني، ربما أستطيع تفهم شعوركَ...
ابتسم راين ساخرًا و أبعدَ يدَ لوكي بهدوء قائلًا : ليسَ عليكَ ذلك !، أنتَ لا تود تجربة شعورٍ فضيع كهذا...
همست بياتريس تشبكُ ذراعيها إلى صدرها بقلق : راين...
التفتَ نحوها يُحدقُ بعينيها المرتجفتين بدهشة ليقولَ محدثًا ذاته : ليسَ أنتِ أيضًا... فقط أوقفي نظرات الشفقة تلك..
حاولت أن تهتفَ لكنها في النهاية قالت بصوتٍ خافت : أنا سأنتظرك !
اتسعت حدقتا عيناه لتهتفَ مردفة : لقد قلتَ سابقًا أنكَ ستخبرني في يومٍ ما !، و أنا أصدقك !، سانتظرك !، لذا احرص على اخباري حسنًا ؟، راين !
حَدثت نفسها قائلة : ما اريدهُ الان ليسَ الوصول إلى قرية الزهور لابصار ضوء الشمس، بل لفهمهِ أكثر !، لاعرفَ اي نوعٍ من الاهدافِ يدفعهُ ليكونَ مستميتًا للوصولِ إليها، لاكسبَ الحق في الوقوفِ بقربهِ واردَ لهُ شيئًا من جميلهِ في الوقوفِ معي على الرغم اننا كُنا غرباء تمامًا حتى قبلَ بعضة اشهر فقط
نظر إليها بدهشةٍ لوهلة ووفاهُ مفتوحٌ ليبدأ بالضحك بعدها حتى أمسكَ معدتهُ لشدتهِ تحتَ أنظار الجميع المذهولة ليبتسمَ في النهاية قائلًا
راين : أنتِ فعلًا مجردُ حمقاءٍ ألستِ ؟
تعجبت المعنية لتهتف باستنكار : ما- !، لماذا !!
أومأ نافيًا ثم قال : لا، لا شيء..
التف نحوَ البابِ معطيًا اياها ظهره و قالَ بينما يسحب المقبض : سأفعل... أعدكِ أنني سأفعل...
فُتحَ الباب على مصراعيه ليستقبلهُم صوتها قائلًا : لقد استغرقَ منكم وقتًا للخروج، لقد ظننتُ أنكم متم !
ابتسمَ راين قائلًا بنبرةٍ مستفزة : حتى معَ أنكِ تُراقبيننا ؟
قهقهت كاترينا بخفة لتقول : معكَ حَق !، لَقد نسيتُ الأمرَ تمامًا !، هلّا دخلنا في المهمِ إذًا ؟، طلبيَ سهلٌ جدًا، سأفتحُ بابًا متصلًا بجزيرةِ التنين، نيفي لافا، وزكلُ ما عليكم فعلهُ هوَ احضارُ أحدِ حراشف التنين الزرقاء إلي، هذا كُلّ شيء
ازدردَ راين و.لوكي ريقيهما هامسين : تـ تنين...
اعترضت روبي سائلة : مهلًا !، كيفَ لنا طلبُ شيئٍ مِن تنين ؟
ردت كاترينا بنبرة عابثة : لستُ أدري !، إنها مهمتكم لا مهمتي.
ظهرَ أمامهم فجأة بوابةٌ من التوباز السماوي أحاطَ بها اطارٌ من الفضة كمقابضها و نقشَ عليها تنين ملتفٌ حولَ نفسهِ بينَ الحفر والندبِ
قالت كاترينا بجدية : ما إن تعبروا هذا الباب ستعودُ قواكم السحرية للعملِ مجددًا دونَ مشاكِل... حظًا موفقًا إذًا.
مدّ لوكي يدهُ نحوَ مقبض البوابةِ ليسحبهُ نحوه بهدوءٍ فوجدوا نفسهم فجأة على حافةِ الجزيرة العائمة التي رأوها قبلَ دخولهم الشجرة ووالرياحُ تعصفُ بِهم بشدة، كانت الأرض بيضاءَ إسفنجية غطى الثلجُ كُلَ إنشٍ منها و الأشجار زرقاء كرستالية متجمدة تمامًا، يسارهم نهرٌ أزرقُ متوهج يتصاعدُ منهُ بخارًا إذ مر من خلالهِ شيئٌ أصبحَ أنصافًا عدة، ووبالنسبة لبياتريس ففجأة شعرت بصاعقة تمر داخل رأسها لتضغط عليهِ بقوةٍ بينَ يديها تضغطُ على أسنانها و تجثو على ركبتيها تحاولُ كبتَ أنينها من الألم
سألَ لوكي قلقًا : ما الأمر بيارين ؟
التفتَ إليها البقية بصمت و القلق يفيض من عينيهم دون أن يتلقوا أي إجابة و فقط سيطرَ الفزعُ على محياها كمن أبصرَ شبحًا على حينِ غرة، أما هيَ فقد كانت تنبثقُ إلى رأسها صورًا عدةً و ما كانت سوى روبي التي تبكي بحرقة بينما تعانقُ جسدَ أحدهم، هاري الذي يرفعُ رأسهُ إلى الأعلى و الدموع تسيلُ من عينيه، جوليا تستلقي على الأرض ووالدماء تفيض خارج جسدها، لوكي يحتدم في قتالٍ معَ شابٍ ذو شعرٍ رمادي، ماركوس بالكادِ يقفُ على قدميهِ و الدماء تسيلُ من فمهِ و رأسه و أخيرًا راين يحترقُ بنيرانٍ بيضاء حينها فقط ازداد إرتجافها ووفزعها لتتشبثَ بقميص لوكي فقد رأت نفسها تأخذُ بيدِ غريبٍ أبيضَ الشعر أحمرَ العينين
هتفت بياتريس بفزع : لاويجب علينا الذهاب !، أمور فظيعة ستحدث !!
لوكي : إهدأي بيارين !، إهدأي و أخبرينا ما الأمر حسنًا ؟
أومأت بياتريس ببطء بينما لم تكُفَ عن الارتجاف
قالت بفزع : لا أعلم.. فجأة، أخذت بعض الصور تتدفقُ إلى عقلي، الجميعُ كانَ مُصابًا... روبي تشان و هاري سان كانا يبكيان، جوليا و ماركوس سان على شفير الموت، لوكي يُقاتلُ شابًا رماديَ الشعر، من ثم... راين...
دمعت عيناها لتكمل : يحترقُ بنارٍ بيضاء...
سادَ الصمتُ المكان لا أحدَ يعرفُ ماذا يقول أو من أينَ يبدأ ليضعَ راين يدهُ فوقَ أذنهِ بعد أن اخترقها أزيزٌ عالٍ فالتفت ت إليهِ بياتريس فزعة ليهتفَ هوَ
راين : مهلـ !، لا تصرخي في رأسي هكذا فجأة !
و من فورهِ لاحظَ نظرات البقية القلقة لهُ فاستعادَ هدوءه قائلًا : بياتريس، الرياح تودّ الحديثَ معكِ...
الزهرة الخامسة و الأربعون : العَرافة.
سألت بياتريس بتعجب : مـ معي ؟
مد لها يده و أومأ بالإيجاب لتأخذَ بها دون تردد فنظرَ راين إلى البقية قائلًا : لوكي و ميرا وحشان سحريان لذا لا أستطيعُ نقلَ صوت الرياح لكما، كما أن نقلهُ لخمسة أشخاص أمر صعب ووسيتسببُ في جعليَ عديمَ الفائدةِ لبقية اليوم لذا...
أومأ لهُ الجميعُ بجدية لتقولَ روبي : احرصا على إخبارنا بما تقولهُ لاحقًا..
أومأ كل من بياتريس و راين إيجابًا ليغمضا عينيهما معًا وويبدأ الاولُ بتمتمه بعض الكلمات فتوهجِ بالأزرق السماوي لينتقلُ ضوءه إلى الأخيرة فيفصلُ وعيهما عن العالم الخارجيِ جزئيًا
قالَ راين : يُفترضُ بكما سماعُ بعضكما الآن، بياتريس، فيينتو ساما..
قالتَ الرياح بنبرة متململة : أعرفُ ذلكَ أيها الطفل.. إذًا، لندخل في المهم على الفور...
هتفت : بياتريس !
أجفلت المعنية لهتهفَ بدورها : أ أجل !
سألت : أمتأكدة أن هذا هو كُل ما رأيتهِ ؟
لمع داخل ذاكرة بياتريس المشهد حيثُ تشبثت بيد الغريب أبيض الشعر فقالت بتردد : أ أجل...
تنهدت الرياح قائلة : و أنا التي اعتقدتُ أنني أفكرُ بشكلٍ مفرط..من كانَ ليتصورَ أنني سألتقي بكِ مرة اخرى..
سألت بياتريس باستغراب : عفوًا ؟
فردت الرياح : لا، لا شيء.. على كُلِ حال.. ما رأيته لم يكن الماضي بكل تأكيد.. لذا هوَ و من دون أدنى شكٍ المستقبل..
ازدردت بياتريس ريقها لتقول : ا.. المستقـ.. ـبل ؟
الرياح : أخبرتكما ألم أفعل ؟، إن تمكنتِ من الموازنة بينَ سحريكِ المتناقضين ستتمكنينَ مِن الدمج بينهما أو حتى رؤية المستقبل.. و لنكونَ أكثرَ دقة فأنتِ عرافة.. يُمكِنُكِ رؤية الماضي و المستقبل على حد سواء، و سبب استيقاظ قُدرتُكِ كمشعوذة هوَ على الأغلب ايجادكِ لهدفٍ داخلَ الشجرة العظيمة..
بياتريس : هدف.. هاه
الرياح : لا بدَ أنكِ تمنيتِ شيئًا بشدة أكثرَ من رؤية ضوء الشمس هناكَ ألم تفعلي ؟
ردت بياتريس بعفوية تامة : اه، هذا كانَ أنني أردتُ البقاء إلى الأبد مع را--
أردف ت بتوتر : أ.. أ.. أ أ، الجميع !، أجل أجل !، الجميع !!
قالت الرياح بنبرة مستفزة : هوه هوه، إنها تقولُ أنها تُريدُ البقاءَ قربكَ إلى الأبد راين !، ربما لستَ مجردَ طفلٍ أحمق في النهاية ~
هَتفَ بها راين بتوتر بينما بقيت بياتريس صامتة : توقفِ عن ذلك أيتها الرياحُ ذات التفكير القذر !، أهذا كُلُ ما يشغلُ بالكِ ؟!!
قهقهت الرياح قائلة : أجل أجل ~
ثم عاودت الضحك مجددًا بشكلٍ صاخب لتقولَ بياتريس بارتباكٍ ووخجل : أنتِ حقًا مخطئة !، أ.. أنا فقط.. الجميع لطفاء لذا أودّ البقاء برفقتهم دومًا !، ا ا الأمرُ ليسَ ووكأنني أ.. أ..
سألت الرياح على حينِ غرة : تحبينه ؟
انفجرت بياتريس تمامًا لتهمسَ بارتباك : كُنتُ سأقول ليسَ وكأنني أعتبرهُ استثناء..
- عودة إلى الواقع -
اكتست الحمرة وجهيهما تمامًا ليبتعدا عن بعضهما سريعًا فأمست بياتريس تمسكُ برأسها بكلتا يديها و تدورُ حولَ نفسها بينما تهمسُ مرارًا و تكرارًا : إنهُ ليسَ كذلكَ !، إنهُ ليسَ كذلكَ !، إنهُ ليسَ كذلكَ !، إنهُ ليسَ كذلكَ !، إنهُ ليسَ كذلكَ !، إنهُ ليسَ كذلكَ
أخذت تكررها مرارًا وتكرارًا حتى جلست القرفصاء و هي لا تزال تقومُ بذلكَ بينما اكتفى راين بالعضِ على شفتيهِ محاولًا منعَ نفسهِ من الابتسام بينما يضعُ يدهُ أمامَ شفتيهِ دونَ قولِ أي كلمة بينما يحدقُ بهم البقية بتعجبٍ شديد
قالت روبي بترددٍ واضح ونبرتها تخبو تدريجيًا : إ إذًا ؟، ما الذ~ي..
تجاهلها راين تمامًا ملتفتًا إلى بياتريس ليهتفَ بها : فقط ما الذي كُنتِ تفكرينَ بهِ بحقّ الجحيم !!!
أمسكَ برأسهِ ليقولَ بشيء من الهدوء و الانفعال رأسي على وشكِ أن ينفجر..
دمعت عينا بياتريس لتلتفتَ نحوهُ قائلة : و ما ذنبي إن كانت سيدتُك تقول أمورًا كهذه !
تنهدّ راين بقلة حيلة ليقول : هذا يكفي.. أعلمُ ما الذي تحاولين قوله.. فقط انسي ما حدث..
فأكملت روبي جملتها أخيرا : حدث ؟...
التفتَ نحوها الاثنان بوجوهٍ شاحبةوفتخطاها راين بخطواتٍ متثاقلة متوجهًا للجلوسٍ تحتَ شجرة
همس: آسف.. فقط دعوني أرتح قليلًا...
أسندَ يدهُ إلى الأرضِ المغطاةِ بالثلجِ و أسندَ ظهرهُ إلى الشجرة لينهضَ من فوره هاتفًا : بارد !!!
حاولَ النظرَ إلى ظهرهِ إذ بمعطفهِ قد تجمدَ بالفعلِ حيثُ اتكأ
تمتمَ راين متذمرًا : هذا المكانُ ليسَ بعاديٍ بدوره أهو ؟
فتذمرَ لوكي : أجل، فهو من صُنعِ تنينٍ بعدَ كُلِ شيء، إذًا ؟، ما الذي قالتهُ الرياح ؟
ارتبكَ راين وقد احمرّ وجههُ قليلًا ليقول : على ما يبدو فهي نبوءة..
ازدردَ كُلٌ من روبي و ماركوس ريقهما لتقولَ جوليا بتردد : نـ نبوءة؟
أومأت بياتريس : أجل.. مع أن ما رأيتهُ كانَ مجرد صورٍ لا غير...
هاري : مهلًا مهلًا !، دعيني أستوعب، إذًا ما رأيتهِ هوَ المستقبل ؟
أومأت بياتريس لتقول : و هو تحديدًا ما سيحدثُ اليوم...
لوكي : لكن أليسَ غريبًا كونكِ رأيتِ ما حدثَ لنا جميعا وولم تري نفسكِ ؟
همست بياتريس : لقد رأيتُ نفسي كذلكَ..
نظرَ إليها الجميع بتركيز لتنظرَ إلى راين بدورها قائلة : رجلٌ بشعرٍ أبيضَ ووعينان حمراوتان مدّ يدهُ إليّ وكُنتُ على وشكِ الأخذِ بها.. لقد كانَ يُشبهكَ راين..
اتسعت حدقتا عيني راين و بدأ بالاضطراب ليهتفَ بها : بياتريس!، أعدك !، سأحمي الجميع !، سأحميكِ !، سأحمي نفسي !، لكن فقط مهما حدثَ لا تأخذي بيدهِ أرجوكِ !
طرفت بياتريس بعينيها بضع مرة لتسأل : ماذا ؟
أمسكَ بمعصميها و جثا على ركبتيهِ مطأطئًا رأسهُ إلى الأرضِ لتحجبَ غرته عيناه البنفسجيتان فهمسَ : ذلكَ هوَ الشخصُ الوحيد.. الذي لا يجبُ على أحدٍ مِنكم التورط معهُ.. رجاء...
بدأ بالارتجافِ فجأة و أخذَ يشدّ قبضتهُ على معصميها لتسأل : ر.. راين ؟
راين : أرجوكم.. سافعلُ أيّ شيء.. لا تتركوني كما فعلَ البقية...
الزهرة السادسة و الأربعون : عَقدٌ.
أمسكَ بمعصميها و جثا على ركبتيهِ مطأطئًا رأسهُ إلى الأرضِ لتحجبَ غرته عيناه البنفسجيتان فهمسَ : ذلكَ هوَ الشخصُ الوحيد.. الذي لا يجبُ على أحدٍ مِنكم التورط معهُ.. رجاء...
بدأ بالارتجافِ فجأة و أخذَ يشدّ قبضتهُ على معصميها لتسأل : ر.. راين ؟
راين : أرجوكم.. سافعلُ أيّ شيء.. لا تتركوني كما فعلَ البقية...
قال أليكسي محدثًا ذاتهُ و الحزنُ يهيمنُ على نبرته : ماتشان، كما توقعت، إعادة أخاكِ إلى المنزل لن تكون أبدًا بالفكرةِ السديدة... على الأقل ما دامَ والدُكِ هُناك...
اكتفت روزماري بالصمت كإجابةٍ بينما قالت بياتريس بارتباكٍ تحاولُ تهدئة من امامها : لـ لقد فهمت حسنًا ؟، أعدُكَ أنني لن أفعل، لـ لذا اهدأ حسنًا ؟
أومأ لها بالإيجابِ مرتجفًا دونَ أن يقولَ كلمةً واحدة
سألت روزماري : هيي، آلي تشان...
همهمَ اليكسي مستفسرًا لتردفَ هيَ : أتعتقدُ أنّ أبي سيأتي إلى هُنا حقًا ؟، أم أن من رأتهُ بياتريس تشان هو...
أليكسي : أجل، على الأرجح أن من رأتهُ بياتريس في النبوءة هوَ من تفكرين فيه، ما تشان...
أخذَ راين نفسًا عميقًا زافرًا إياهُ ببطء شديد لينهضَ من على الأرض الباردة دون رفعِ قدمهِ عن الأرض و فقط مشى بهدوء ليتعمقَ في الغابة أكثر
سألَ هاري محدثًا من حولهُ : أتظنونَ أن للأمرِ علاقةٌ بكوابيسهِ تلك ؟
فرد ماركوس بشرود يحدقُ بأثرِ راين : سيكونُ غريبًا إن لم يكن كذلكَ..
سألت بياتريس : أتساءلُ ما الذي حدثَ معهُ في الماضي
أطلقت جوليا تنهيدة لتليها قولًا : أيا كانَ ما حدثَ، فهوَ ليسَ بالأمر الجيد أبدًا..
فوافقتها روبي : معكِ حق...
قالَ لوكي : فلنتبعهُ ميرا.. و أنتم أيضًا الحقوا بنا سريعًا...
تلفتَ لوكي حولهُ مستغربًا فسأل : ميرا ؟
أما حيثُ راين، فقد كانَ يمشي بلا وعي، خطواتهُ مترنحة، وجههُ شاحب، عيناه ميتتان انعدمَ فيها كُل أثرٍ لذلكَ البريق الحاد المعتاد، عقلهُ مشوشٌ بالكاملِ لا يرى أمامهُ سوى الذكريات الفظيعة لتلكَ الليلة و الذكريات السعيدة التي سبقتها بأيام قليلةٍ
هُناكَ حيثُ سمعَ صوتًا مألوفًا لهُ يقول : إن تابعتَ السيرَ بإهمالٍ هكذا فسينتهي بكَ الأمر ضائعًا... راين
عادَ إليهِ شيءٌ من بريقِ عينيهِ عندما أجفلَ بهدوءٍ ليلتفت خلفه قائلًا : ميرا..
بقيا يحدقان ببعضهما للحظاتٍ دونَ حراكٍ ليكسر الصمتُ قولهُ : آسف، سببتُ فوضى لا داعيَ لها...
تنهدت بقلة حيلةٍ ثُمَ عقدت ذراعيها قائلة : أنتَ حقًا شخصٌ ميؤوس منه !
سكتت قليلًا لتردف : لقد تسكعتُ حولَكَ لعدةِ ساعاتٍ فقط و مع هذا يمكنني الجزم بذلك !
راين : ايه ؟
ابتسمت ثُم قالت : أنا لستُ ببشرية لذا يُمكنك الحديث معي بشأنهِ قليلًا...
أجابَ بهدوء : آسف، لا يمكنني ذلكَ.. هؤلاء الأشخاص خطرون بما يكفي ليمسحونا من على وجه العالم بكل بساطة...
سألت : إذًا لِمَ لَم يقوموا بذلكَ معكَ ؟
فسّر : هذا لأنني مختلف.. لستُ أعني القوة.. علاقتنا معقدةٌ بما يكفي لتمنعهم عن ذلك ربما..
تنهدّ مبتسمًا ليردفَ بنبرةٍ ساخرة : في الواقع حتى أنا لستُ متأكدًا لِمَ لا أزالُ على قيد الحياة.. لكنهم بالفعلِ يودونَ أسري حاليًا...
همهمت ميرا لتقولَ بعفوية بعدَ تفكيرٍ قصير : كما توقعت، أنا لستُ مهتمةً بهذا !، لا أزالُ اودُ أن اعرف
قهقه راين قليلًا ليقول : ما كان هذا ؟
ابتسمت و حلقت لتقفَ أمامهُ قائلة : إنهُ كما سمعت
نظرَ بعيدًا عنها : إنهُ مؤلم عند الحديث بشأنه
زفرت بنفاذِ صبر لتتمتم متذمرة بينما تقلبُ عينيها : انتَ و أعذاركَ التي لا تنتهي..
نظرت إليه قائلة : إذًا فلنشكل عقدًا !
استغربَ قولها : عقد ؟، معي أنا ؟
أومأت قائلة : أجل، عقد، و معكَ أنت !
ابتسمَ ساخرًا ليلوحَ بيده في الهواء نافيًا : لا لا لا لا، هذا غير ممكن أبدًا !، أعني نحنُ سنكونُ متصلان عاطفيًا بشكلٍ جزئي !، سيكونُ مزعجًا لكلينا بكل تأكيد !
قالت : لا تقرر عني !
عضّ على شفتيه قائلًا : لستُ أعترض.. لكن.. أستشكلين عقدًا معي حتى لو كُنت... #####
اتسعت عينيها بصدمة لتُتَمتم بخفوتٍ شديد : لهذا كاترينا ساما قالت...
أردفَ راين : أما تزالين ستقومين بالأمر ؟
ابتسمت ميرا بلطف لتقول : سأفعل !، لأنهُ كان حُبًا من أولِ نظرة كما تعلم...
فتحَ فاهُ متعجبًا لتردفَ هي : عندما رأيتكَ لأولِ مرة قُلتُ في نفسي يجبُ أن يكونَ هذا الشخصُ متعاقدي.. كما تعلم، نحنُ الجنيات أو ما تبقى منا نبحثُ عن متعاقدين بصفاتٍ مميزة.
سأل : و ماهي هذهِ الصفات المميزة بالنسبة لكِ ميرا ؟
وضعت سبابتها على شفتيها لتقول : لنرى، أردتُ وسيمًا بشعرٍ اسود، ذا شخصية قوية و طاقة سحرية عالية و تنبعثُ منهُ هالةٌ قيادية.. و بصراحة كُنتُ أودّ لو كانَ بشريًا طبيعيًا لكنكَ عوضتَ عن ذلكَ
سأل مجددًا : كيف ؟
أجابت : كيفَ أصفُ الأمر يا ترى، أنتَ على العكس من ماركوس الذي يبدو لطيفًا لكن هالتهُ مخيفةٌ بطريقة ما.. أما أنتَ فمعَ أنكَ فظ إلا أنكَ دافئ !، كما أن هالتكَ ليست قيادية فحسب إنما هيَ ملكية بطريقة ما..
قهقه راين ساخرًا دونَ أن يتركَ الحزن عينيه ليقول : لا أعلمُ أيجدر بي أن أكون غاضبًا كونكِ نعتني بالفظ أم سعيدًا لوصفيَ بالدافئ
سكتَ ليبسط كفهُ فتحطُ ميرا عليه
قالَ مع ابتسامة دافئة زينت شفتيه : شكرًا لكِ ميرا.. سأشكلُ عقدًا معكِ بكلِ سرور
انتفضت المعنية بسعادة لتهتف : أحقًا ستفعل !!
أومأ بالإيجاب ثم أردف : لكن قد تكونينَ أقوى مني، و بما أنكِ سترتبطينَ بي كسيد لكِ ستنخفضُ قوتكِ السحرية لتوازي قوتي حينها..
أجابت : لا بأس !، لا أهتمُ حقًا، كما أنكَ إن كُنتَ أقوى مني سترتفعُ قوتي السحرية كما ستنخفضُ إن لم تكن كذلك !
ابتسمَ لها قائلًا : إذًا، سأبدأ...
أومأت لهُ إيجابًا ليجرحَ كلاهما كفهُ و يغمضُ عينيه سامحًا لدمه بالاختلاط مع دمِ الآخر فبدأ راين يتمتم تعويذةً ما كنوعٍ من الطقوس فتوهجَ ضوءٌ قفا كفهِ و على كتفها ليخبو فيتمركزُ مكانهُ وشمٌ لنجمةٍ خماسية مجنحةٍ نصفها الأيسرُ عندَ راين و الأيمنُ عندَ ميرا التي ما إن إنتهت الطقوس ذرفت عيناها بضعَ دمعةٍ لتهمسَ بضعف : فظيع...
الزهرة السابعة و الأربعون : صَوتٌ.
ما إن تلا راين تعويذتهُ حتى توهجت نويلي بشكلٍ مضاعف ليخبو وهجها من الأعلى إلى الأسفلِ منتقلًا إلى راحة كفّ راين فيظهرُ مكانهُ وشمٌ قفا كفهِ الأيسر لنصفِ نجمةٍ خماسية بجناحٍ ميسرتها و كذلكَ الأمرُ عندَ كتفِ ميرا الأيمن غيرَ أن الجناحَ كان ميمنة النصف الأيمن للنجمة، مرت بضعُ صورةٍ داخلَ رأسها و كذلكَ هوَ، ذرفت الأولى بضعَ دمعةٍ من عينيها بصمتٍ و فاها مفتوحٌ يعجزُ عن الاطباق
همست بإنكسارٍ اخيرًا : فظيع..
إبتسمَ لها راين بلطفٍ ليقول : تمتلكينَ عائلة لطيفة حقًا..
أومأت برأسها مهمهمة إيجابًا لتقولَ : و أنتَ تملكُ ماضٍ فظيع.. لا ألومكَ كونكَ ميؤوسًا منه..
قام يشدّ خدها الصغير قائلًا بنبرة ساخرة مبتذلة : لستُ ميؤوسًا منه !
أغلقت عينيها الدامعة ألمًا لتقول : آشفة آشفة !، رقد فهمثُ رِذا يُمكِنُكَ تركي..
ابتسمَ برضا ليتركها قائلًا : لنعد إلى حيثُ الجميع..
ردت بينما تفركُ خدها المحمر : أجل..
التفتَ راين خلفهُ إذ به يقولُ بهدوء متعجبًا : لوكي..
قالت ميرا متفاجئة : هـ هذا هوَ لوكي !، لـ لم أكن اتوقعُ أن تكونَ هيأتهُ الحقيقية هي سنجاب فضي !
رفعَ لوكي كف يدهُ ملوحًا في الهواء : يا ~ ، ما الذي تفعلانه ؟
راين : أنتَ فعلًا تعرفُ متى تظهرُ كسنجابٍ و متى لا تفعل ألستَ ؟
ضحكَ لوكي بفخرٍ ليظهرَ من خلفهُ البقية فكادت بياتريس أن تسألَ راين المرتبكِ عن حالهُ لولا تحليق ميرا المفاجئ نحوهم لتستعرضَ عليهم الوشمَ على كتفها وتتحدثُ بعلوٍ ووحماس
ميرا : انظروا انظروا !، لَقد حصلتُ على متعاقدٍ لتويَ فقط !
قالَ هاري متفاجئًا : وشمُ متعاقد.. أتعاقدتِ مع القائد توًا فقط ؟
ضربت قلبها بقبضتها فخرًا لتقول : أجل !
أليكسي : أنا متفاجئ حقًا من قدرتها على إقناعِ ذلكَ العنيد !
ردت روزماري بغضبٍ مكبوت : أتريد الموت آلي تشان ؟
قالَ سريعًا : آسف !
سألَ لوكي بمرح : إذًا ؟، كيفَ هوَ شعورُ كونكِ متعاقدة ؟
أجابتهُ دونَ تردد : فظيع للغاية !، مشاعرُ هذا الشخص تتخبط باستمرار !
هتفَ بها راين : مهلًا !، انـ--
قاطعتهُ قائلة : لكن فعلًا !، إنهُ متواضعٌ جدًا ، قوته السحرية كبيرة إلى حدٍ مخيف !، أشعر أني ابتلعتُ عشرات الأضعافِ من قوتي السحرية مرة واحدة فجأة !
لوكي : حسنًا، نحنُ نتحدثُ عن شخصٍ دفعَ بنيزكٍ ما بعيدًا ~
أدركت ميرا فجأة لتقول بهدوء : مهلًا.. أنا أشعرُ بشيءٍ غريبٍ في قلبي..
التفتت إلى راين لتردفَ بمكر : إذًا أنتَ من النوع الذي يخجلُ عندَ الامتداحِ هاه ~
هتفَ بها راين بإنزعاجٍ متلعثمًا : لستُ كذلكَ !
ثُم تمتمَ بصوتٍ مسموعٍ متذمرًا : جميعكم متملقون تشتمون ثم تمدحون ثم تعودون للشتم !
أثناء ذلكَ كانت بياتريس تقهقه محاولةً كتم ضحكتها لكنها أفلتتها فقط عندما سمعت جملة راين الأخيرة
قالت من بين ضحكاتها : آ.. آسفة.. الأمر فقط.. أعلمُ أنّ راين شخصٌ غريبٌ فعلًا، لكن بالتفكير بأنهُ يخجلُ من الامتداحِ فقط.... هذا سيء.. لا أستطيعُ التوقف !
شعرَ راين حينها بقلبهِ يحلقُ فجأة لكنهُ ادعى الغضب ليهتف : حمقاء !، اخبر--
سكتَ فجأة ليقول بجدية : علينا الإسراع.. هُناكَ حضورٌ غريبٌ يثقلُ الجو
وافقهُ لوكي من فورهِ قائلًا : لقد شعرت بهِ بدوري.. يالهُ من تعطشٍ مخيف للدم...
تحركَ الجميع بعدَ أن اتفقوا على التوجهِ إلى البركانِ الذي يتوسطُ الجزيرة علّهُ يكونُ عرينَ التنين، ما إن بدأوا التحرك و بعد مدة قصيرة من ذلكَ تخللَ مسامع روبي صوتٌ مألوفٌ ينادي باسمها.. التفتت إلى الخلفِ تتحققُ بعينيها بهدوء لبضعِ ثانية لكن دونَ أن تلمحَ أو تسمعَ شيئًا، أقنعت نفسها أن كُل ما سمعتهُ ما هو إلا محضُ وهمٍ من نسجِ خيالها لتسارعَ في اللحاق بالبقية و كُلٌ لا يفكرُ سوى بنبوءة بياتريس. وما ستؤول إليه المؤولة بعدها
سألَ ماركوس بقلق طفيف : ما الأمر ؟، روبي تشان..
هَزت روبي رأسها نافية لتقول : لا، لا شيء...
" روبي : و هكذا، نحنُ واصلنا السير نحو عرين التنين، نخالُ إدراكنا لمستقبلنا المعتم، لكننا لم نكن ندركُ منهُ شيئًا، عالقون في الماضي، خائفونَ من المستقبل.. الندم ؛ الخوف ؛ الحزن ؛ الشوق ؛ الحيرة ؛ التردد.. بتلكَ امتزجت مشاعرنا.. ذلكَ كانَ حينَ أدركنا.. و تشابكت الأقدار.. ليتشوهَ كُلُ شيءٍ في لحظة..."
نادى ذلكَ الصوتُ باسمها مجددًا لتلتفتَ روبي إلى الخلفِ ببطء فعادَ ذلك الصوت معاتبًا : أحقًا نسيتِ بشأني ؟، روبي..
و لحظةَ وقعت عيناها عليه، قلبها كما لو أنهُ سقط في هاوية، تفرقت شفتاها و الكلمات لا تخرج، ووفقط تحت تأثير الصدمة تنظر إليهِ هوَ الذي جعلَ صدرها يحترق.
الزهرة الثامنة و الأربعون : لَمّ شملٍ.
قال : أحقًا نسيتِ بشأني ؟، روبي..
و لحظةَ وقعت عيناها عليه، قلبها كما لو أنهُ سقط في هاوية، تفرقت شفتاها ووالكلمات لا تخرج، و فقط تحت تأثير الصدمة تنظر إليهِ هوَ الذي جعلَ صدرها يحترق.
نطقت بصعوبة : أخي هايدن..
التفت البقية بدورهم و لم تكن ردة فعلهم أقلَ شأنًا، بالأخصِ هاري و ماركوس، كَيفَ لا و من يرونه أمامهم لطالما كانَ الأخَ الأكبر و العائلة الوحيدة لديهم، أغرقت عينا روبي بالدموع و أقفلت على فاها بكلتا كفيها ليبتسمَ هوَ لها بلطفٍ و هدوء
هايدن : لقد اشتقتُ لكم حقًا، جميعًا..
قالَ هاري بهدوءٍ ودهشة : هاي ني..
ليتبعهُ ماركوس بنفسِ النبرة : هاي تشان..
التفتَ هايدن إلى الكهف المؤدي إلى قعر البركان حيثُ راين الذي كان يضعُ قدمًا في الأرض و الأخرى فوقَ صخرةٍ مرتفعة تؤدي إليها فقد كانَ سيصعدُ لولا ظهورِ الأول المفاجئ
سألَ هايدن بهدوءٍ و الابتسامة لم تفارق وجههُ : أ أنتم متوجهونَ إلى عرين التنين ؟
في تلكَ اللحظة ذرفت روبي دموعها بالفعل حينَ لم تتمكن من حبسها أكثر فقال بصوتٍ مرتجفٍ شابهُ شيءٌ من الارتفاع : أخي هايدن...
انفعلَ ماركوس في نبرته القلقة قليلًا ليسأل مستنكرًا : كَيف ؟، يُفترضُ أنكَ مِتَ في ذلكَ اليوم... قُل لي أنها كانت مزحة و سأحطمُ رأسكَ !
التفتَ هايدن إلى ماركوس ليجيب مبتسمًا : هيَ لم تكن مزحة، حتى أنا بنفسي ظننتُ أنني ميت، مار..
فهتفَ ماركوس بشيٍ من العلو : إذًا كيف !
نظرَ هايدن إلى راين سائلًا : أأنتَ المدعوُ راين ؟
هَمهَمَ راين بالإيجابِ ليجيبَ بعفوية : أجل...
هايدن : فهمت...
و في جزءٍ من الثانية اختفى ليظهرَ أمامَ راين تمامًا، اما الأخيرُ فلم يُدرك شيئًا إلا متأخرًا فإذ بها رفسةٌ من المفترضِ أن تستهدفَ معدتهُ إلا أنّ جسدهُ تحركَ لا إراديًا لتشكلَ يداهُ درعًا يصدها، اندفعَ راين عدةَ أمتارٍ إلى الخلف ليرتطمَ بجدار البركانِ مخترقًا إياهُ إلى الداخلِ مرتطمًا بمقابلهِ على الجانبِ الآخر، انتفضَ جسدهُ حينَ لامسَ الجدران الداخلية للبركان و احتدت عيناهُ تبرقانِ ألمًا، شعرَ بظهره انشطرَ إلى أعلى و أسفل و بسائلٍ حارٍ يتجمعُ جوفهُ متصاعدًا خروجًا من فمهِ بكمياتٍ كبيرة بينما ينظرُ الجميعُ لهُ متجمدينَ أماكنهم يحاولونَ استيعابَ ما حدثَ توًا
صرخت ميرا بفزع : راين !!!
فأيقظت صرختها كلٌ من بياتريس جوليا وزلوكي الذي كانَ قد اتخذَ شكلًا بشريًا مسبقًا، هرعَ الثلاثة صوبَ راين و كان الأخيرُ يحاولُ جهدهُ للحركةٍ دونَ فائدةٍ فالألمُ قد نالَ منهُ تمامًا و لو كانَ شخصًا عاديًا لماتَ فورَ تلقيهِ الضربة فما بالكَ بالارتطام بجدارينِ متتاليين بتلكَ السرعة العالية، أما روبي، هاري و ماركوس فقد تجمدوا يحدقونَ بمكان وقوفِ هايدن قبلَ لحظاتٍ قبلَ اندفاعه إلى حيثُ يقفُ راين
جفت دموعُ الأولى لتهمسَ مستنكرة : لما.. ذا ؟
التفتت و هاري و ماركوس نحوَ هايدن الذي يقفُ هناكَ بهدوءٍ مشهرًا عن سيفهِ الكبير متوسط الطول
قالَ بهدوء : إذًا فكُل شيءٍ صحيح.. لا بأس، روبي، هاري، مار... أخوكم الأكبر سيتولى الأمر...
فورَ إنهائه لسطره دخلَ جوفَ البركان مستعملًا الثقب الذي أحدثهُ جسدُ راين عندَ ارتطامه بجدارهِ، خطا خطواتٍ هادئةٍ و مسعاهُ هوَ الأخير الذي تساعدهُ بياتريس و جوليا على النهوضِ
سألَ بهدوءٍ غلفتهُ السخرية : هَل حددتَ أمنيتكَ الأخيرة ؟
ابتسمَ راين ساخرًا ليقولَ بصوتٍ شبه مبحوحٍ مرتجف : عندما تسائلتُ أينَ و من نطقَ هذهِ الجملةَ قبلكَ.. أنتَ حقًا تلميذه.
هتفَ هايدن في وجهِ الأولِ غاضبًا : لا تجرؤ الحديث عن الزعيم حتى !!!
اندفعَ هايدن نحوَ راين مجددًا بسرعتهِ الخارقة ليتداركَ لوكي الأمرَ بالكادِ مكونًا جدارًا من الجليدِ بينهم و بينَ الاول الذي و بشكلٍ واضح لم يعد يفكرُ بأي شيءٍ سوى تقطيعِ الجاثي أمامهُ إربًا، لكن و فجأة عانقتهُ روبي من الخلفِ مرتجفة ليتوقفَ هو الآخر عن الحركة فنطقَ بهدوءٍ بارد
هايدن : أفلتيني، روبي.
شعرَ برأسها المدفونِ في ظهرهِ يتمايلُ يمينًا و شمالًا ترفضُ ما أمرها بهِ دونَ أن تنطقَ حرفًا
صرخَ بها بينما حاولَ تحريرَ نفسهِ منها بقوة : لقد قلتُ لكِ أن تفلتيني روبي !
شددت على عناقها لهُ بقوةٍ لتصرخَ بدورها : لا أريد !!
ثمَ أردفت بصوتٍ هادئٍ تلبسهُ الخوفُ و القلق : لأنكَ تتصرفُ بغرابة !، اشرح لنا على الأقل...
أخذَ ينظرُ حولهُ لتقعَ عينيهِ على كُلٍ من هاري و ماركوس اللذان ينظرانِ إليهِ بانكسار، لكنَ أحدهما و لسببٍ لم يستطع تفسيرهُ كانَ ينظرُ إليهِ بغضبٍ متأججٍ كذلكَ
سألَ هايدن : تطالبونني تفسيرًا ؟
أردفَ بصوتٍ حادٍ عالٍ أقربَ منهُ إلى الصراخ : حسنًا !، سأفسرُ لكم !
سكتَ ثُمّ أردفَ بالنبرةِ ذاتها : هذا الشخصُ يخدعكم جميعًا !، ليسَ سوى قاتل !، لقد دفعَ الزعيم ليقومَ بأمورٍ لم يكن يرغبُ بالقيامِ بها !، هوَ فقط جزءٌ من نيغرو فينوس بل و أحد أهم الأشخاص فيها !، لَقد أراكم وهمًا حيثُ كُنتُ ميتًا و تظاهرَ بالحزنِ ليتمكن من كسب ثقتكم !
سكتَ يلهثُ قليلًا ثُمَ أكملَ بهدوءٍ و سخرية : أوتعلمون ماذا ؟، حتى أنهُ خانَ النيغرو فينوس ليتمكن من الوصولِ إلى قرية الزهورِ و يكسبَ القوة اللازمة ليزعمهم !، تسببَ بإبادةِ قريةٍ بأكملها عندما كانَ طفلًا !، خانَ صديقا طفولتهِ متسببًا في مقتليهما !، أتصدقونَ شخصًا كهذا !
بقيَ الجميعُ ساكنًا دونَ أي حركةٍ و الصمتُ سيدُ الموقفِ، توجهت أنظارُ كُلٍ من بياتريس ووجوليا نحوَ راين الذي بقيَ يُحدقُ بعيونٍ متسعة، وجهٍ شاحب ووفاهٍ مفغورٍ إثرَ الصدمة و ميرا لَم تكُن أفضلَ حالًا ليتبعهما ماركوس محدقًا براين الذي بدا و كأنهُ تذكرَ كُلّ ما ودّ نسيانهُ يومًا في لحظةٍ واحدةٍ فجأة ليستشيط هوَ غضبًا بدورهِ
الزهرة التاسعة و الأربعون : دَوافِعٌ دونَ إثباتٍ.
" راين : بقيتُ أُحدقُ بهِ بدهشةٍ عارمةٍ دونَ أن أقوى على نطق كلمةٍ واحدة... لا أدري أ أردُ على اتهاماتهِ التي لا أساسَ لها أم أقومُ و ألكمهُ ليعودَ إلى رشدهِ فقط... فكرتُ بذلكَ حقًا لوهلةٍ لكن تبخرت كل أفكاري عندما استطرقَ للحديثِ عن القرية، أليسَ هذا ما حدثَ في الماضي ؟، كيفَ استطاعَ أن يعلمَ بأمرٍ كهذا بحقِ خالقِ السماء !!، إنهُ محقٌ بشانِ كُلّ كلمةٍ قالها، لقد كُنتُ السببَ في مقتلهم و تدمير سعادتهم... أنا خُنتُ سارا و إدغار... إذًا ألديّ الحقُ في الاعتراض حقًا ؟!، من أنا و بأي حقٍ أفعلُ ذلكَ ؟، حدقتُ بهِ قليلًا بعدما أنهى كلامهُ و باقي الوقتُ كُنتُ أُحدقُ بالفراغ.. آه.. أنا أتذكرُ كُلّ ما رغبتُ بنسيانهِ.. القرية المحترقة حتى الفحام، وجهُ إدغار الشاحب الذي يطلبُ مني إنقاذَ شقيقته التوأم، عجزي عن إنقاذها، فشلي بمحاولةِ اللحاق بهما، و استيقاظي في عالم البشر...آه.. أتمنى لو أموتُ فقط..."
صرخت ميرا بهايدن و صوتها عكسَ كل الغضب الذي تتأججه :بأي حقٍ تتكلمُ و كأنكَ تعرفُ عنهُ كُلّ شيء !، راين قد--
قاطعها صوتُ راين الهادئ المغلف بالحدة : اخرسي ميرا...
التفتت نحوهُ و الصدمة قد غزت تقاطيع وجهها غزوًا، يجثو على ركبتيه غرتهُ تغطي تعابيره بالكامل، هيَ كانت تشعرُ بقلبها يتمزقُ لأشلاء و يداسُ ببرودٍ و قسوة، لكن ما كانت تلكَ سوى مشاعر سيدها في هذهِ اللحظة.
أردفَ بصوتٍ هادئ يعجزُ الجميع عن تفسيره : ما قالهُ صحيح، أنا كُنت السبب في احراق تلكَ القرية، و مقتل سارا و إدغار... لولايَ لما حدثَ مازحدث..
ضحكَ هايدن ضحكةً قصيرة قائلًا : لقد اعترف !، أرأيتم !
أكملَ راين بنفس النبرة : لكن.. أنا قطعًا لم و لن أكونَ واحدًا من هؤلاء الحثالة الذين يطلقون على أنفسهم نيغرو فينوس !، كوني قاتلًا و خائنًا شيء، و كونيَ منهم شيءٌ آخر !
هتفت روبي فجأة : يستحيلُ على راين أن يكونَ شخصًا كهذا !
عندَئذ قامت بياتريس فجأة بصفعِ راين بقوة و الدموعُ قد تجمعت في عينيها
هتفت بصوتٍ مرتجفٍ و هي على وشكِ البكاء : توقف عن كونكَ أحمق !
اتسعت حدقتا عينا راين ليسكن دونَ حراكٍ و لم يشعر إلا بقلبهِ قد حلقَ بعيدًا إثر الصدمة
انهمرت دموعها على الأرض لتردفَ بهدوء : إن لم تكن قد غرزتَ وتدًا في قلبيهما عن عمدٍ فعندَئذ أنتَ لم تفعل شيئًا لأحد... توقف عن لومِ نفسكَ !، إنهُ مؤلم للغاية !
سكتت لتشهقَ ثمَ تردف مجددًا : لأنني حينئذٍ.. سأكونُ مَن قتلَ لينا !
أخذَ راين نفسًا عميقًا بارتجافٍ حينها ليحدثَ نفسهُ قائلًا : تبًا !... إنها فعلًا تشعرني بأنني أرغب في البكاء !
خيمَ هدوءٌ قاتلٌ على المكانِ للحظة ليسخرَ هايدن قائلًا : أأنهيتم مسرحيتكم الدرامية الرديئة ؟
التفتَ الجميعُ نحوهُ فيقولَ بهدوء : روبي...
سكتَ لتجفلَ هيَ فأردف : إن كنتِ لن تقفي في صفي يا أختي... فأنا مضطرٌ للتعاملِ معكِ بشكلٍ مختلف...
هتفَ فجأة : لو !
ظهرَ ثلاثةُ أشخاصٍ غطيت كاملَ أجسادهم و رؤوسهم بمعطفٍ أسودَ من العدمِ ليأمر هايدن : قيد ثلاثتهم.. ما أعتمدُ عليكَ في عرقلةِ فضي الشعر.. و لا تتدخل بيني و بين المدعو براين !
أومأ الذي يقفُ في المنتصفِ بالإيجاب ليقولَ بصوتٍ أقربَ إلى الهتافِ متعمدًا إسماع صوتهِ لأحدهم أو ربما اثنين : أمرك، هايدن ساما
ازدردَ راين ريقه بصعوبةٍ متسائلًا أينَ سمعَ ذلكَ الصوت من قبل بينما تمتمَ صاحبهُ بضع كلمةٍ لتصبحَ الأرض سائلةً تزحفُ على أجساد روبي، هاري و ماركوس ثم تعودُ للتحجرِ مجددًا، اندفعَ هايدن بسرعة عالية نحوَ جدار لوكي الجليدي ليهشمهُ بضربة واحدة من سيفه الفائض بالمانا
قالَ بهدوءٍ مرعب : سحر التعزيز، بروموفير براثوس
*تعزيز الاسلحة
نادى ماركوس غاضبًا : مهلا هاي تشان !، ما معنى هذا !، أنى لأحدِ أفراد الزهرة السوداء مناداتكَ سيدي !
أجابهُ هايدن بنبرةٍ بانَ عليها الألم : هُم أنقذوني من الموت، عقدتُ اتفاقًا معهم.. أساعدهم على أسرِ هذا الحثالة و يساعدونني على استعادتكم...
هتفَ ماركوس : هاي تشان !، من يتمُ خداعهُ هوَ أنت !، راين لَن يقومَ بشيءٍ كهذا أبدًا !
صرخَ بهِ هايدن : ما الذي يجعلكَ واثقًا هكذا ؟!!
ظهرَ أمامهُ فجأة موجهًا لهُ لكمة اخترقت الحجارةٍ حولهُ لتستهدفَ معدتهُ هامسًا : أحتاجُ منكَ أن تهدأ قليلًا...
تشوشت رؤية ماركوس الذي تقيء لعابهُ لقوةِ اللكمة و أخذَ يحدقُ بهيأة هايدن المبتعدة، راين غير قادر على النهوض، لوكي اشتبكَ بالفعلِ مع أحدِ أصحاب المعطف الأسود و ميرا المثل
صرخت روزماري هاتفة : آلي تشان افعل شيئًا !
قالَ بصوتٍ هيمنَ عليه العجز : آسف، ماتشان.. أنا فعلًا لا يمكنني القيامُ بشيء.. ليسَ بهذهِ الحالة على الأقل...
اقتربَ هايدن من راين لتحاولَ بياتريس منعهُ فإذ بها تجدُ نفسها قد التصقت بأقربِ جدارٍ ليرتدّ جسدُها مطلقةً أنينًا عاليًا، أشهرَ هايدن سيفهُ أمامَ راين العاجز عن الحراكِ و إذ بسيلٍ من الدماءِ يلوثُ وجهَ الأولِ بالأحمرِ القاني...